كمال عبد الحميد
مدخلٌ مُؤقَّتٌ للنصِّ:
اصعدي يا حبيبتي
ادخلي بقدمكِ اليمنى
اتركي حذاءكِ خارج النصّ
لستِ بحاجة لتأديبِ البشريةِ
لستِ مرغمةً على كل هذا الحقدِ
فقط لنفعلها سوياً يا «جميلة»
لنباركَ هذا الألم
لتكن حياتنا أحْزَنُ من اسمكِ
(1) الشَّجَرُ العَالي الَّذي أتَوَهَّمهُ في رُوحِي.. الذي يُنْبِتُ ويُهْدرُ الضَّوْءَ والمَاءَ مُنْذُ خمسينَ عاماً، لم يَعُدْ يُقْنِعُنِي كثيْراً، وأنا أَحْيَا هَكَذَا لِأجْلِ ثَمَراتٍ تَسْقُطُ مِنْهُ مُصَادَفةً، وهو يَصْعَدُ لأعَلى بِفُرُوْعِهِ الزَّائِلةِ.
لِمَاذَا أُكْثِرُ مِنْ الْمَوْتِ؟
لِمَاذَا أَسْتَحِقُّهُ ولا أَسْتَحِقُّ حَيَاتِي؟
هل قُلْتُ حَيَاتي؟ أَلستُ مُتواطِئاً؟ أَليْستْ الشَّجَرةُ الواقفةُ بي مَيِّتةً، والنُّقْصَان في اِسمِي، وأنا أصرُخُ : عَيْبٌ أن يُؤْخَذَ مِثْلي بعِقَابٍ مِثْلَ هَذَا، يُلْقى في كَمَالِهِ دَونَ أنْ يَجِدَ تَمَاماً وَاحِداً.
أُعَاتِبُ نَفْسِيَ: كَيفَ تَتَوقَّعُ فِيكَ كَمَالاً، وأنتَ تملأُ الزُّجَاجَاتِ الفَارِغَةَ بأَحْزَنِ أُغْنِيَةٍ لمُطْرِبٍ مَيِّتٍ، ومُلَحِّنٍ مَيِّتٍ، وَفِرْقَةٍ مَاسيةٍ مَيِّتةٍ، وأنتَ تُرَاقِبُ العَازِفِينَ وتُخَمِّنُ مَنْ تَبَقَّى فِي سُلاَلَتِهم.
الْمَوْتُ الَّذي لا تعرِفُونَه يعِد نَفْسَهُ بإفْطَارٍ شهي، كأنْ يُجَهِّز قطعتي توست، ومُكَعَّب زُبْدَة، وطبَقَ أُومليت، ثمَ يَطْبَعُ قُبْلَةً على خَدّي امرأةٍ يظنُّ أنها نيكول كيدمان، وخفيفاً يخرجُ إلى التاكسي، يَنْتَقِي السائقينَ حَسْبَ شَرطينِ: الرائحةِ والصمتِ، وفي الطريقِ يتأمَّلُ الناسَ، يَحسبُهم خضْرَاوات، ويُخَمّنُ ما نَضَجَ منها، ويُصَلِّي في سِرِّهِ: أَيُّها الْمَوْتُ، كَمْ أَنْتَ طباخٌ مَاهِرٌ، يَكْفي أنكَ لمْ تُغْلِق مزارعَكَ، ولم يَلْحَقْ بكَ التعبُ، تركتَ لنا الأفرانَ مَفْتوحةً لنشاهدَ باكينَ كيفَ تُجَهِّزُ الوجْباتِ، ثم قلتَ: رائعٌ أنْ تتوقعوا لا أنْ تنالوا.
أعترفُ
على يَدِي جَرَائِمي كُلّها
التي دمرتُ بها نفْسي
ولستُ خائفاً من شيءٍ
والْوُحُوشُ التي تطاردُني في النومِ
تعرفُ أنه ليس لديَّ ما أخسَرُه
وحدثَ أكثر من مرَّةٍ
أنْ أصْبَحْنا أصدقاءً
حتَّى أنَّ وَحْشاً بعينٍ واحدةٍ
اسْتَيْقظَ يوماً معي
فأعددتُ لَه الطَّعامَ
وأسْمَعْته مقطَعاً طَويلاً
من موسيقى الجَاز
ثُمَّ نَز لتُ به من البيتِ
لأُعذِّبَ به الجميلاتِ
في المراكزِ التجاريةِ
ليَعْرِفْنَ أنَّه بمقدوري
أن أروَّضَ وُحُوشَهنَّ السِّرية
وأنْ أجعلَهنَّ فَرِحاتٍ أكثرَ
بما يخجَلنَ منه.
أُحبُّ الوُحُوشَ وأصنَعُها بلُطْفٍ كلَّما عرفتُ امرأةً جديدةً، ليس هناكَ أجملُ من أنْ أكونَ قاتِلاً بشَفَتَيْنِ مُدَببتينِ، والدماءُ تُغِطِي لِساني، وفي عَيْنيَّ تركضُ العارياتُ وسطَ مدينةٍ مُهَدَّمةٍ، لحْظتَها تسألُني المرأةُ: لا تقْتُلني قبلَ أنْ أذوقَ لعنتكَ، ولحظتها أبتسمُ مثل ذئبٍ عَجوزٍ لَمْ يَعُدْ يَحلَمُ إلا بالفرَائِسِ السهلةِ.
لا أُريدُ أن أكَوْنَ خَالِداً
لا أريدُ أن أكونَ خزَانَةَ عِزْرَائِيلَ
فقط أريدُ مِنْ أصدقائي أن يُسَاعِدُونِي قليلاً، ألَّا يَتَوَهَمُوا مِثلي الخُلودَ بقبلةٍ على الرقبةِ، وألّا يَحلُمُوا بِقُدُراتٍ خارقةٍ، كأنْ يلْمَسُوا الطَّاولاتِ فتطيرُ بِهم، وتُصبحُ المقاهِيْ خارجَ الجاذبيةِ، أنا أُحِبُّ الجاذبيةَ حين تُجْبِرُني على السُّقُوطِ، أُحبُّ صديقَتي حِينَ تُجْبِرُني على الرَّقصِ والغِناءِ، أُحبُّ ألّا أُتْرَكَ لِنَفْسي وحيداً أمام مقاعِدَ شاغِرةٍ تُسْحَبُ فجأةً بزاويةٍ مَائلةٍ، فأظنُّ أن أشباحِي سقطتْ تحْتَ الطاولةِ، وطالما نظرتُ أسفلَ الطاولاتِ آخرَ الليلِ، فَلمْ أجدْ مِنْها شَيْئاً.
أعترفُ ثانيةً
أحبُّ امرأةً اسمها «جميلة»، ستكونُ حرةً لو أنني مِتُّ، أُعذِّبُها بالصَّمْتِ كما تُعذِّبني بالصمتِ، أُرسلُ وُحُوشِي خَلْفَها، تاركاً أنْ تُخِيفَها كما تشاء، وأحلُمُ لو أنَّها تركتْ رسالةً بكلمتينِ: «وَدَاْعاً.. أكرَهُكَ»، لكنني أحبُها، وأخافُ أن تكرهَني، هي آخِرُ تأديبٍ لي يومَ نزلَ القَدَرُ إليها من الجبالِ في عربةٍ سوداءَ، لمْ يضعْ في أذنيها قِرطاً ذهبياً على هيئةِ وردةٍ أو فراشةٍ، بل زَوَّجَهَا لرجلٍ لم يكنْ ليموتَ حُزناً لو تزوجَ غيرَها.
- لماذا يأتي كلُ شيءٍ ناقصاً ومتأخِراً؟
في البيتِ الذي أستأجرُه منذُ ثلاثِ سنواتٍ سألتُ أبي في موتهِ فقالَ: بالتجربةِ والوقتِ يتحايلُ القرويونَ على البقاءِ، وتَخِفُّ نسبةُ السذاجةِ على الأرضِ، وتُصبحُ غابةً.
(2) أحبُّ عادةً أن أتركَ للنساءِ ذكرياتٍ غريبة، أتخيلُهُنَّ في الثمانينَ مِن العُمرِ، جالساتٍ في شُرُفَاتٍ أو حدائقَ صغيرةٍ، وعلى وُجُوهِهِنَّ أثرٌ عميقٌ لما أفسدَه الأزواجُ من الينابيعِ. أتخيلُهنَّ بيضاواتٍ ببشراتٍ مغطاةٍ بالنمشِ، أو سمراواتٍ بِتَجَاعِيدَ داكنةٍ تَحْتَ العينينِ، ويجبُ أن تكونَ لهنَّ جَميعاً رعشة خفيفة في اليدينِ، وهنَّ شارداتٌ في ماضِيهنَّ السريِّ أمامَ أكوابِ الشَّاي، مع قليلٍ من الحَسْرةِ على ما لم يفعَلْنَه بجنونٍ مقابلَ جنوني.
قليلٌ من الحسرةِ في قلوب حبيباتي العجائز
سيقنعنُي أنني لم آتِ إليهنَّ عَبَثاً
وأنني أنقذتُ من الموتِ الذي أتحدثُ عنه،
كثيراً من الحياة.
(3) أنا هكذا عابرٌ وبسيطٌ
رجلٌ قدماه جناحان
وليس عليه أن يبررَ طَيَرَانَهُ لِأَحَدٍ.
ما مِنْ أحدٍ يستطيعُ أن يَحْفُرَ روحي كما أحفرُها، وما مِنْ أحدٍ يجهلُ روحِي كما أجهلُها، طبقاتٌ كثيرةٌ مررتُ بها وأنا ذاهبٌ إلى كمالي، كلما حفرتُ عميقاً خرجتْ «البُنْدارُ»** وتكلمتْ، حتى أن الأسماءَ تشابهتْ، والكلامُ تشابه، والموتى تشابهوا، وظننتُ أنني أحفرُ روحاً غير روحي، لكنني كنتُ أتبعُ إشاراتٍ، شيءٌ من نفسي يقودني، ويجهزُ لي الفؤوسَ، ويدلُني بالغريزةِ إلى طبقاتٍ جديدةٍ، فإذا ضربتُ الفأسَ فتحتُ قبرَ ميتٍ،فينهضُ ويلقي عليّ السلام، ثم تكاثَرُوا، وتعارفُوا، وأقاموا الحفلاتِ، ولم يَكُنْ لديَّ وقتٌ لأنظرَ وأرحبَ بهم، كنتُ أسمع همهماتٍ فأواصلُ الحَفْرَ، وأسألُ : كيف امتلأتُ بقريةٍ كاملةٍ من الموتى؟
في كُلِ حُفْرَةٍ كانتْ «البُنْدارُ» تمشي إلى النهرِ، وليسَ من نهرٍ، ليسَ من طيورٍ خضراءَ فوق رأسِها، وليسَ مِنْ بيوتٍ وأبقارٍ أو نخيلٍ. أسألُها: إلى أينَ؟ فتشيرُ بكتاب الوعودِ، وبعصا من صفصافها تهشُ على موتاها، فأقولُ : القُرى تموتُ وتبْعثُ ساذجةً.
في كل حُفْرَةٍ رأيتُ النعيمَ
وهربتُ من حُرَّاسِ جهنَّمَ
عبرتُ بيوتَ ذئابٍ ترضِعُ صِغارَها
وقابلتُ أجدادِي وهم يتحدثونَ عن الفاكهةِ
التي سأتركُها لهم
ولم أجدْ سوى امرأةٍ واحدةٍ
ترعى الأسماكَ بَيْنَ يديْهَا
ما زلتُ أحْفُرُ رُوحي، ولم أصلْ آخرَها، أستخرجُ الجثثَ وأرى كيفَ يَعودُ أصحابُها ويَمْرَحُونَ، أنبشُ القبورَ وأتعرَّفُ على موتى نسيتُ أسماءَهم ولم أنسَ وجوهَهَم تحت غُبَارٍ خَفيفٍ كانَ يسبقُ ظهورَ أبي بأكياس المُوزِ والبُرتقالِ.
أَبِي الذي أجَّلَ مَوْتَه شُهُوْرَاً
لأقفَ عَلى رأسِهِ
رُبَّما ليُوصِينِي بألَّا أثقُ بالنَّحلِ والعسلِ،
وأن أخْتَارَ له حُفْرَةً بطابقينِ في رُوحِي.
الموتُ الذي لا تَعْرٍفونَه
يَستيقِظُ في العَاشِرةِ صَبَاحاً نِصفَ نائمٍ
ولا يُطِيقُ أن يقولَ له أحدٌ: صباحُ الخيرِ
حتى لو كانتْ جميلةً وشقراءَ
ثم يُدَخّنُ سيجارةً على الرِّيقِ
ويستَحِمُّ بِصابونٍ مُعَطَّرٍ
ويختارُ رائِحَتَه ما بين «شانيل بلو»
و«جيفينشي بلو ليبل».
جميلٌ للموتَى أنْ يَغْسِلوا نهايتَهم من القُرى
بشيءٍ من المُدنِ
أن يدفَعُوا الترابَ
بخُلاصَاتِ الوردِ والتوابِلِ
(4)
ليتني أستطيع لمرةٍ واحدةٍ
أن أرفعكِ إلى السطر الأول
أضعكِ كما أنتِ
بلا إضافات تلحقُ بالأصلِ
فيعرفُ عشاقكِ القدامى
كمْ همْ جهلاء وناكرو جميلٍ
سقطوا في معركةٍ واحدةٍ
على حدودكِ
وخسروا حروباً رائعةً
كانت ستجيءُ لاحقاً
فقط لو قَدَّرُوا النعم المؤجلة
ووقفوا طويلاً أمام روحكِ
لنفعلها سوياً
نسلطُ الضوءَ على مآسيكِ
التي لم يحبها أحدٌ كما يجب
لنسبحَ بلا غرقٍ أو نجاةٍ
في طابقين من الدموع
خلف عينيكِ
احزني يا «جميلة»
لا تتركي اسمكِ هكذا
يورطكِ في المعاني المباشرة
لا تثقي في دلالاتِ البهجةِ
والأسماءُ التي لا نصيبَ لنا منها
ابكي يا «جميلة» خلف ظهري
كلما استطعتِ
حتى تتحرر رئتاك
بالماء والملح
ابكي على كتفيّ وقولي: بابا
ابكي فوق رأسي
وخاطبيني بالسيد العجوز
ابكي أسفل أي هواءٍ يمرُّ
وقولي: كيفَ لحبيبي
كل هذه الطيبة والدهاء؟
توحشي يا «جميلة»
اقرئي كتاب «الأمير»
نظفي بيتكِ بقسوةٍ
من النمل والذبابِ وعثة الفراش
تدربي على متع الجرائم الصغيرة
دون أن تعاقبي نفسكِ قبل النوم
بتذكر الحشراتِ الميتةِ
لا تبكي على موتى تافهينَ
لأنهم نائمون بلا ندمٍ
غارقون في الهدايا المذهبةِ
يلعبون بأجسادهم كل مساءٍ
يتحدثون بمللٍ عن الأرضِ
ويتندرون على عشاق مثلنا
يكتفون أحياناً بلمسةِ اليد
مَخْرج مُؤقَّت للنصِّ :
مُبَكِّراً تجيئينَ بقسوةٍ لا أستحقها
عقاربكِ تَلْعَقُ أذنيّ ببطءٍ
والرَّجْفَةُ عميقةٌ حد العجزِ
وأنتِ تتكاثرينَ بفرحٍ
على بُعْدِ خطوتينِ
تسخرينَ من نهاياتِ الشعراءٍ
والخُرافات في أصابعهم الطِّوِيلةِ
وبِقُبْلةٍ واحدةٍ على أعناقهم
يموتون
هامش:
* مقاطع من مجموعة شعرية قيد النشر
** البُنْدارُ: قرية الشاعر بجنوب مصر