جلال لقمان: أرسم المشاعر على اللوحات قبل الألوان
رحلة فنية وفكرية في عمق جزر الصحراء واتساعها، كانت مصدر الإلهام لكثير من الفنانين المبدعين في مختلف مجالات الفنون، لمقاربة طبيعتها العذراء وملامسة مشاعرها، رحلة قادها الفنان الإماراتي جلال لقمان على مدى ستة أسابيع، إيماناً منه بأن معايشة الطبيعة عن قرب والانصهار في مكوناتها يضفي حساً فنياً راقياً على نفسية الفنانين، ويغير نظرتهم في التعامل مع تفاصيل المشاهد أمامهم،
الرحلة تهدف إلى صقل المواهب لتضعها على خط الاحتراف، حيث شملت أكثر من 15 طالباً من الدارسين في مختلف مجالات الفنون الجميلة من مختلف الجنسيات، شكلت الجنسية الإماراتية أغلبهم بثمانية مشاركين، واستغرقت الرحلة يوماً واحداً في رحاب جزيرة صير بني ياس، تلتها بعد ذلك الورش الفنية التي شارك فيها الفنانون المبدعون في مجالات مختلفة بإشراف الفنان جلال لقمان لتزويد المشاركين بعصارة تجارب ما يقارب 100 سنة من الإبداع والخبرة، لتتشكل لوحات فنية سيضمها معرض الجاف ابتداء من 11 أبريل ولغاية 21 منه.
وتم اختيار جزر الصحراء التي احتضنت الرحلة لتكون مصدر إلهام وتلاقي المشاعر حيث خطت جزر الصحراء خطوة أبعد من إطار مهمتها للحفاظ على الطبيعة والحياة البرية لتذهب إلى تشجيع المواهب الفنية الواعدة في الدولة، إذ قامت شركة التطوير والاستثمار السياحي TDIC المطور الرئيسي لمشروع جزر الصحراء بدعم هذه الرحلة الفنية، ساعية بذلك إلى الأخذ بيد المواهب الفنية الصاعدة، وصقلها وتقديم الدعم لها لتنطلق من نطاق الهواية إلى طريق الاحتراف الفني.
خبرة 21 سنة
جلال لقمان يحدد الهدف من الرحلة يقول: الرحلة أساسها هو نقل المعلومة وتوصيل الخبرة التي اكتسبتها على مدى 21 سنة في عالم الفن، ولست وحدي من سينقل هذه الخبرة، بل أيضاً الفنانون الآخرون الذين اكتسبوها خلال سنوات طويلة على امتداد أعمارهم الفنية، حيث سيقدمون عصارة ما تعلموه وخبروه في المجال الفني، وبهذه العصارة الفنية سوف لن ينتظر هؤلاء الفنانون 21 سنة لتكتمل تجاربهم الفنية، بل سنضعهم على خط الاحتراف في سن مبكرة، وذلك بتوجيههم فنياً التوجيه الصائب.
ويضيف لقمان: كل ذلك يدعم جهود إمارة أبوظبي لتكون عاصمة عالمية للفن والثقافة، ولم أكن أفكر بداية، ومنذ انطلاقي في الرحلات السابقة التي قمت بها في أي استراتيجية، بل تحركت فقط من منطلق دعم هؤلاء الفنانين الواعدين، ومن يقيني أنهم يحتاجون المساعدة، والرحلة الحالية تعتبر الثالثة، وقد انبثقت هذه الفكرة منذ انطلاق أول رحلة التي كانت في السياق نفسه بمبادرة شخصية، حيث عرضت الأعمال الفنية على شكل لوحات عندما انتهت الرحلة، فلاقت استحسان الناس وتقبلهم الفكرة، فإذا ببعض المهتمين نصحوني بأن تكون هذه التجربة وهذه الرحلة سنوية، فجاءت الثانية بدعم من «أدماف» وهذه الثالثة بدعم من جزر الصحراء، والرحلة الحالية هي التي قمنا فيها بزيارة جزيرة صير بني ياس التي أبهرتنا بطبيعتها الخلابة، والداعمون هم جزر الصحراء، بحيث قدموا لنا العون الكبير وسمحوا لنا بأخذ الفنانين المشاركين في هذه الرحلة الفنية الفكرية بالسفر بعيداً في عوالم الطبيعة الخلابة لجزر صير بني ياس.
ملامسة الفن
يتوسع لقمان الذي قاد هذه الرحلة الفنية قائلاً: بعد هذه الرحلة دخلنا في عدة ورش عمل، ونريد من خلال ذلك للمشاركين أن يصقلوا مواهبهم، إذ نقف على ما التقطته أعينهم من هذه الرحلة، وما احتفظت به مشاعرهم ليشكلوها لوحات فنية، ولا أريد أن تكون لوحاتهم عبارة عن ألوان وصور فحسب، بل أن تطوي المشاعر بين ثناياها، فتجبر المتلقي على الوقوف أمامها طويلاً، يستشعر أحاسيسها تحدثه وتناجيه وتحمل له ذكرى رحلة وسفر في أحضان مشهد ما. حول هذا الغرض تدور ورش العمل بحيث نحاول توصيل أفكار المتخصصين لهؤلاء الفنانين الواعدين الذين شاركوا في الرحلة ليستلهموا المبادئ الصحيحة في مختلف الفنون، ويتخذونها سبيلاً ومنهجاً في حياتهم الفنية، وهكذا فالمسألة لا تحتمل مجاملات، هذا عمل إبداعي وفرصة ليكون الفنان على خط الاحتراف، لهذا يجب أن يتلقى النصح والإرشاد والانتقاد ليكون في المكان الصحيح. ومن خلال جولاتنا في ربوع الجزيرة، هناك من ألهمه التكوين الجيولوجي لطبقات الجزيرة، وهناك من ألهمته المباني القديمة التي تعود لمئات السنين. وهذا أسعدني حيث بحثوا وحاولوا رسم هذه المشاعر في مواضيع أعمالهم، والكل أخذ بالنصيحة والإرشاد الفني، وهذا هو الهدف، ألا وهو ملامسة الفن من العمق، هو ما نعمل عليه دائماً من خلال ورش العمل التي يقدمها خبراء في مختلف الفنون، نريد أن نقارب الأفكار الفنية ونعمقها، والحرية في التعبير الفني لها دور كبير في الإبداع والتميز، وتعليم وتقدير الفن في بداياتهم يعتبر امتيازاً كبيراً إذ وجدوا من يضعهم على الطريق الصحيح خلال وقت وجيز.
أقرب إلى الشاعرية
يتحدث لقمان عن المشاركين في هذه الجولة الفنية الفكرية ويقول: يشارك في هذه الرحلة 15 فناناً من مختلف الجنسيات، بينهم 8 أشخاص إماراتيين، بل إماراتيات، بحيث يغلب العنصر النسائي على هذه الرحلة، ربما لأن الفن لغة شاعرية أقرب لأحاسيس المرأة منه للرجل، والإماراتيات يملن بطبعهن إلى الشاعرية، ويعود هذا الإقبال من طرف البنات على هذه الرحلة لشاعرية البنات، أو ربما أنا مقصر في توصيل هدف فكرتي لشريحة الرجال لاستقطابهم لهذه الرحلة، ومن خلال ورش العمل فإنني ألاحظ تغيراً في أفكار المشاركين بشكل كبير وتغير نظرتهم للفن، وذلك من خلال مساهمتهم بشغف في ورش العمل، بحيث أرى المشاركات قادمات من العين ودبي ومن كل الإمارات، ويسعدني كثيراً هذا التفاعل، أشعر أن هناك تقديراً للقيمة الفنية لما أقدمه.
تفاصيل لا بد منها
من الورشات التي حضرتها جموع المشاركين ورشة الخط العربي، وقادها الفنان المبدع محمد مندي حيث سرد تاريخ الفن، وقام بشرح مستفيض عن دراسته وتحصيله العلمي والمعرفي، وإنتاجاته الخالدة في مجال الخط العربي في مختلف ربوع العالم، وقدم أسرار الكتابة العربية وعصارة ما تعلمه في مجال الخط، وأنواع الورق والصمغ والقصب وكيفية استعمال الحبر، وأنواع الخطوط، ويذكر أنه من أجمل ما صممه الخطاط محمد مندي صومعة بألمانيا سطرت عليها كلمات الآذان، إذ يذكر المندي أثناء الورشة أن هذه الصومعة شكلت تحدياً بالنسبة له، حيث تعتبر تجربة فريدة من نوعها في هذا الإطار، ويبلغ طول الصومعة 16 متراً، وهي في منطقة قريبة من ميونيخ، وقد عارض المهندس المشرف هذا التصميم في البداية، ولكنه اليوم أصبح معلماً واضحاً في ألمانيا، ومندي حالياً مرشح لتصميم خطوط إسلامية لأكبر منتدى إسلامي في أكبر منتجع بميونيخ، وهو يقول إن هذه الصومعة بتصميمها جذبت الكثيرين لدخولها، فحققت نتائج مهمة في عدد الذين أسلموا من خلالها، حيث توجد في المسجد الذي تعتليه مكتبة إسلامية مترجمة للألمانية، وبالتالي قادت الكثيرين للإسلام، وهذا يعتبر إنتاجاً عربياً يفتخر به. وقدم مندي للفنانين خلال الورشة رسائل مهمة تعنى بصورة خاصة من يعتزم الاستمرار في هذا الفن، إذ قال: عليه أن يتسلح بثلاثة أشياء: حب وعشق الخط، الصبر، والاستمرارية. وأضاف: انظر للحرف كأنه رسم، اسمع كلام المعلم وإذا بدأت استمر.
كما قاد جلال لقمان ورشة عمل في قاعة الجاف جاليري التي ستضم أعمال الفنانين المشاركين، وما رسموه وتعلموه خلال الرحلة، وما استنبطوه وما جسدوه على لوحات ستعرض في 11 أبريل القادم بالقاعة حيث يستمر المعرض إلى 21 منه.
الحب من أول نظرة
يقول جلال لقمان: انبهرت بما تقدمه هذه الجزر من تنوع طبيعي، وأنا شخصياً لأول مرة أزور فيها هذه الجزيرة رائعة الجمال، هكذا قمنا بالرحلة بصحبة عدد كبير من الفنانين، وهي رحلة استكشافية فنية، وكان من بين شروطي الفنية للقيام بهذه الرحلة أن توفر الجزيرة جواً يلاقي فيه الفنانون الإلهام والسحر الطبيعي في أحضانها، وكان جمالها وسحرها أكثر مما تصورت، استقبلونا على جزيرة صير بني ياس، وأول منظر وقعت عليه عيوننا هو منظر الغزلان، فأيقنا أن الرحلة ستكون أجمل مما تصورنا، وصدقنا مقولة الحب من أول نظرة، فأمسكتنا خيوط هذا الجمال العذري الذي لم تمسسه يد ولم تلوثه وتعبث به عين إنسان، وتبعناه لأبعد مدى، وهذه الجزيرة جمالها بالفعل أخاذ ولا أبالغ إن قلت أنني تأخرت في رؤية معالمها ومكوناتها الطبيعية. وبالنسبة للحيوانات الموجودة على أرضها فإنها تتهادى وتجول بحرية مطلقة، إذ تشعر وكأنها وحدها على هذه الأرض، تدرك ذلك وقد تعودت عليه، بحيث كانت هناك سمكة كبيرة تسبح بالقرب من الشاطئ غير عابئة بما يدور حولها، وذلك نابع من شعورها بالأمان، وكانت الرحلة تضم 30 شخصاً بينهم 15 فناناً من مختلف الجنسيات، ومنهم نخبة من الفنانين الإماراتيين المعروفين، كانت من بينهم الفنانة عزة القبيسي، وسمية السويدي والمبدع محمد مندي، والفنان مطر بن لاحج، وهذه المجموعة تعادل ما مجموعه 100 سنة خبرة تجمعت في رحلة واحدة لتتفاعل وتزود المشاركين المستهدفين بعصارة فنية تختصر تعب السنين وراء البحث عن التميز والتجربة، إذ يقدمون ما خبروه طوال سنوات في وقت وجيز، حيث يأخذون مشهداً ما ويناقشونه فنياً وإبداعياً، هكذا كانت جزيرة صير بني ياس من خلال هذه الرحلة متعة وسفر في رحاب الطبيعة التي ألهمتنا جميعاً، أما المشكلة الوحيدة التي اعترضتنا في هذه الرحلة هي الوقت، حيث وصلنا الجزيرة الساعة الثانية عشرة ظهراً ورجعنا منها الساعة الخامسة مساء، ولحظة رجوعنا من الجزيرة أطبق صمت مريب على المشاركين، حيث لم يرغبوا في مفارقة أحضان هذه الطبيعة الملهمة.
المصدر: أبوظبي