تحيا مصر
يقولون بأن سر نغاشة الشعب المصري هو الكبت والضغط والجوع والفقر الذي عاشه عبر القرون ، منذ الفراعنة فالهكسوس ثم الفراعنة ثانية ثم المقدونيين فاليونان فالرومان فالفرس حتى أول أمس (بالمناسبة كان قراقوش حاكماً بالوكالة على مصر في فترة ما نهاية القرن الثاني عشر).
لذلك يعيدون السخرية إلى جذر المعاناة الشديدة، ويعتقدون بأنها السلاح الذي يستخدمه الضعيف لمواجهة القوي المتجبر، وهي في ذات الوقت مانعة صواعق – كما يقولون- يستخدمها الفرد لمواجهة الإحباط والنكوص واحتقار الذات والجنون.
بناء على هذه التحليلات ، فهل سنخسر النغاشة المصرية التي بدت جلية في ميدان التحرير، لمجرد أن عصر القمع قد انتهى؟
في الواقع لا اعتقد ذلك ، بل اعتقد أن النغاشة المصرية سوف تترقى درجة الى الأعلى ، وتتحول من رد فعل دفاعي يستخدمه القوي لمواجهة الضعيف – كما أسلفت - إلى إبداع وابتكار، من أجل تتويج السعادة والفرح والابتهاج بالحياة الحرة الكريمة.
شاهدنا جميعاً على شاشة التلفزيون الوجه الحقيقي للإنسان المصري الرائع ،الذي كان يضحكنا ويبكينا ويحزننا ويمنحنا جذوة لنار الصمود ، في ذات الوقت.وبالتأكيد ستبقى صور اللافتات المرفوعة في ميدان تنعش خيالنا وتمنحنا سحنة من الفرح تكفي لسنوات قادمة.
نحن بانتظار كوميديا مصرية رائعة أكثر تطوراً من التهريج والصراخ على خشبة المسرح، ونحن محتاجون فعلا الى هذه الكوميديا الرائعة ، وكما قادت مصر كوميديا العالم العربي في فترات القهر فإنها بلا شك ستقودنا إلى المستوى الأرقى وهي تنظر الينا بكل سعادة من شرفة الحرية.
أول خطوات تحرر مصر كانت بالسخرية من الطغاة . حتى كسرت هذه الهالة المزيقة حولهم ، ثم حولتهم إلى بشر ، ثم الى بشر أنانيين مفرطين في الطمع، ثم هزمتهم.
مصر................... مبروك علينا وعليك !!
(2)
بكيت مرتين تأثراً، وأنا أستمع للفتاة المصرية (أسماء محفوظ) في اليوتيوب الذي نشرته قبل بدء اعتصامات 25 يناير في مصر، الذي أكدت فيه أنها خارجة للتظاهر في ميدان التحرير صباح ذلك اليوم ، وتدعو الناس إلى المشاركة في هذه التظاهرة دفاعاً عن حقوقهم وكرامتهم.
الخطاب خال من الأيديولوجيا ، وبعيد عن المصطلحات السياسية الرنانة، هو مجرد دعوة من فتاة في ربيع العمر ، وتؤكد في دعوتها أنها سوف تخرج للتظاهر مهما يحصل، حتى لو لم يأت أحد منهم.
من الواضح أن هذا الخطاب العاطفي الرائع قد أثر في الكثيرين ، كانوا ألف متظاهر، ثم ألفين ..ولم يقترب النهار من نهايته الا وصاروا عشرات الآلاف، ثم مئات الآلاف في اليوم التالي، ثم الملايين، حتى الآن .
كنت أبكي تأثراً وأنا اتذكر في شريط مواز خطابنا الحزبي نحن جميعاً ، يساريين وقوميين وأخوان مسلمين ،إنه بلا استثناء خطاب مثخن بالإيديوليجا، ماضوي بعيد عن الناس وهمومهم العصرية.
جاءت هذه الفتاة لتكسر ذلك الحاجز السميك بين الخطاب الحزبي وبين الناس ، وتعبر بكل بساطة وبمفردات قليلة جداً لا تزيد عن نصف المفردات التي قد نستخدمها في بيان سخيف من بياناتنا، نحدد فيه موقفنا (على سبيل المثال فقط) من ثوار البوليساريو.
لا حاجة لقراءة (رأس المال) ولا (المادية التاريخية) ، ولا داعي لحفظ خطابات أنطون سعادة وميشيل عفلق عن ظهر قلب وبطن، ولا مبرر للتمثل بكتابات الماوردي وسيد قطب وغيرهم وغيرهم .
اذا أردنا أن نخاطب الجماهير فعلينا أن نفكر بقلوبنا، علينا أن ننسى ما قرأنا للحظات ونتعلم الدروس في التعبئة والتنظيم من هذه الفتاة الصغيرة ...أسماء محفوظ.
يوسف غيشان
ghishan@gmail.com