الأمومة دائماً لها انتماؤها الخاص للمقدس، وقد حضرت في الفن منذ القديم، وما التماثيل التي اتخذت شكلاً أنثوياً كآلهة وكمعبودة وكرمز للخصوبة والنماء في الحضارات القديمة، كالحضارة المصرية القديمة وحضارة ما بين النهرين وصولاً إلى الحضارة اليونانية والرومانية إلا دليل على مكانة الأم السامية منذ بداية التاريخ، لكن في العصور اللاحقة خبت مكانتها وتحولت السيطرة للرجل، ومع ذلك ظلت الأم ترمز للمقدس وللحب والخير والجمال فاستحضرها الفنانون في أعمالهم التشكيلية وصوروها كأم بيولوجية أو أم ذات حمولة دينية أو كرمز للأمومة.

من مريم العذراء إلى الأم البيولوجية
انتقل التركيز على الأم مع فناني عصر النهضة إلى صورة مريم العذراء كثيمة تحيل على الأمومة بكل قدسيتها ونورانيتها وأيضاً كاستمرار للحمولة الدينية للأم، ومن أشهر الفنانين الذين صوروا مريم العذراء وهي تحمل المسيح بين ذراعيها، ليوناردو دافنشي ورفاييل وألبرخت دورر وغيرهما من فناني عصر النهضة وقد تضمنت لوحات هؤلاء الفنانين ومنحوتاتهم وجدارياتهم بالكنائس لمريم العذراء والطفل، كل تعابير الأمومة ولا زالت هذه الأعمال الفنية الأيقونية تزين كنائس أوروبا ومتاحفها.
لكن لم يبق هؤلاء الفنانين منحصرين في إطار تصوير مريم العذراء وإنما انتقلوا لرسم أمهاتهم البيولوجيات، لأن مكانة الأم دائماً جليلة في قلب الأبناء فتدفع الفنانين إلى تخليد أمهاتهم ويؤكد ذلك الفنان محمد عبلة بقوله: «إن القيم العظيمة المُجسدة في الأم، تدفع المبدعين كافة، وفي كل الأحقاب والأزمنة والأمكنة، إلى تخليدها في إبداعاتهم، وإبراز فضلها ودورها الهام في الحياة، محاولين بذلك، رد بعض جميلها».
ومن الفنانين الذين فعلوا ذلك، ألبريخت دورر (1471/‏‏1528) الذي أنجز بورتريهات كثيرة لأمه كتأكيد على حبه الكبير لها، ومنها لوحة شهيرة أنجزها سنة 1490، وتأثر دورر لموت والدته، وهذا مقتطف مما كتبه بعد موتها: «هذه أمي المتدينة تحملت تربية ثمانية عشر طفلاً، وكانت تعاني في كثير من الأحيان من الطاعون والعديد من الأمراض الشديدة، وقد عانت من الفقر والازدراء ومع ذلك، لم تحمل أي ضغينة لأي أحد، شعرت بحزن شديد لموتها لدرجة أنني لا أستطيع التعبير عن ذلك».
أما الفنان الهولندي رمبرانت (1606/‏‏1669) والذي ينتمي للعصر الذهبي الهولندي فقد أنتج ما يقارب من 400 لوحة، وقد كان يعاني من مشاكل مادية فرسم العديد من البورتريهات لأفراد عائلته من أجل بيعها، ووجه أمه الحبيب كان الأقرب إليه لذلك نجده يتكرر في العديد من أعماله، وكان في تصويره لها يركز على تعابير وجهها كنوع من الشغف بها.

الأم بين بيكاسو ودالي
تظل الأم ذلك الشخص الموسوم بالقدسية مهما كانت خلفية الفنان، أو نوعية علاقته بالنساء الأخريات، وسنمثل على ذلك بفنانين أثارا جدلاً كبيراً، سواء تعلق الأمر بعلاقتهما بالمرأة أو بأعمالهما الفنية، وهما بيكاسو وسلفادور دالي، فبيكاسو (1881-1973) اتسمت علاقته بالنساء بالاضطراب وبالتعدد وقد قال بأن «النساء آلات للمعاناة» كما صنف النساء صنفين، آلهة أو ممسحة أبواب، وبالطبع اعتبر أمه من الصنف الأول من خلال حديثه عنها وأيضاً من خلال تجسيدها في لوحاته، فمنزلتها كانت رفيعة عنده، لدرجة أنه أخذ اسم بيكاسو عنها فاسمها ماريا بيكاسو وأبوه خوسيه رويت، وقد رسم لوحة لوالدته سنة 1916 وهي موجودة بمتحف بيكاسو ببرشلونة، وما يميز هذه اللوحة مخالفتها لأساليب بيكاسو التقليدية في الرسم، حيث ترجم حبه لها من خلال طريقة رسمه لها، فنقلها وهي مشغولة بواجب منزلي وجعل ألوانها مشرقة ونورانية ومشبعة بالحنان، فبدت واقعية ودافئة.
ولما يستعيد بيكاسو أمه يرى بأنها كانت مشجعة وواثقة من عبقريته وهو صغير ويؤكد ذلك بقوله: «اعتادت والدتي أن تقول لي، (إذا أصبحت جنديا، فستكون جنرالًا، وإذا أصبحت راهبًا، فستكون بابا) بدلاً من ذلك، أردت أن أكون رسامًا، وأصبحت بيكاسو».
كما أن اللوحات التي أنجزها حول الأم والأمومة عكست بصدق ظاهر مراحل حياته وما عرفه خلال هذه المراحل من شد وجذب واضطراب واستقرار ومعاناة وهناء، وأحد هذه المراحل هي المرحلة الزرقاء، وهي مرحلة معاناة بالنسبة لبيكاسو، والتي اعتمدها ما بين (1901- 1904) واعتمد خلالها بشكل أساسي على اللون الأزرق الذي كان يحيل على المعاناة لدى فناني أوروبا الغربية خلال تلك الفترة. وقد أنجز لوحتين للأم والطفل خلال هذه المرحلة، وتبدو هذه الشخصيات هشة ومعدمة، ولوحة الأم والطفل التي أنجزها سنة 1901 تصور المرأة في قدسيتها، حيث بدت ملفوفة في الثياب، كما تعبر انحناءتها على الطفل على حنانها، ونحافتها على معاناتها وفقرها، وعاد بيكاسو لموضوع الأم ما بين 1921 و1923 بعد زيارته لروما وإعجابه بفن النهضة. وكان خلال هذه الفترة يعيش الازدهار في فنه والاستقرار في حياته الشخصية حيث أنجز حوالي 12 عملاً فنياص حول الأمومة بطريقة كلاسيكية فبدت شخصية الأم والطفل تعبر عن الصفاء والاستقرار والصحة الجيدة والصلابة، وبذلك يكون قد حاول أن يسقط حياته الخاصة على اللوحات التي أنجزها حول الأمومة.
وسلفادور دالي الذي كان عكس بيكاسو وأحب زوجته غالا التي تكبره بعشر سنوات حيث قال بعد زواجه منها بعدما خطفها من زوجها الشاعر الفرنسي بول إلوار: «أحبّ غالا أكثر من أبي وأكثر من بيكاسو، حتّى أكثر من المال»، لكنه لم يقل أكثر من أمي، فأمه ظلت مكانتها محفوظة، وترجم حبه لها من خلال تجسيدها في أعماله الفنية بطرق مختلفة، فصورها من خلال بورتريهات، ومنها بورتريه رسمه لها سنة 1920، لكن بعد انضمامه إلى حركة السورياليين جسدها بطريقة سوريالية سنة 1929 من خلال لوحته الشهيرة «أمي، أمي، أمي»، وتعددت قراءات اللوحة من قبل النقاد، فمنهم من اعتبرها تمثل منظرًا صحراويًا كبيرًا حيث يظهر سهل إمبوردا، وهو المكان الذي قضى دالي فيه طفولته، وفي الوسط صخرة صفراء ضخمة على شكل جناح مع فتحتين كبيرتين وعدة تجاويف صغيرة، وفي هذه الفتحات يمكن للمرء أن يقرأ كلمة «أمي» وهناك نقاد آخرون فسروها باعتبارها صورة تمثل دالي نفسه نائماً بجسم بين الأصفر والبني وبلون الصحراء، مغطى بكلمة «أمي» مكررة بعدد التجاويف الموجودة في الجسم، واعتبروها صورة سوريالية تحيل على حلم الكاتب بأمه وشوقه إليها، ورسم أيضاً لوحة لأم مع أطفالها.

الأم عند الفنانات التشكيليات
نجد الفنانون الرجال هم من يسيطرون على تمثيل الأمومة في أعمالهم التشكيلية، لكن هناك نساء فنانات نافسن الرجال وبصمن تاريخ الفن التشكيلي ببصمتهن الخاصة، وهن أيضاً استحضرن أمهاتهن أو الأمومة بصفة عامة أو أنجزن لوحات ذاتية لأنفسهن كأمهات ومن هؤلاء الفنانات لويز إليزابيث فيجي لو برون (1755-1842) وتعد من أهم الرسامين الفرنسيين في القرن الثامن عشر وتُعتبر الفنانة الأكثر أهمية في عصرها، فاكتسبت شهرة واسعة وكانت مطلوبة في قصور فرنسا لرسم شخصياتها المهمة ومن أهم ما أنجزته حول موضوع الأمومة رسمها لماري أنطوانيت وأطفالها في لقطات أمومية خلابة، وأيضا لوحة ذاتية لها مع ابنتها جولي وهي تحتضنها كأم محبة والتي رسمتها سنة 1786.

«أم» جيمس ويسلر
تعد لوحة «الأم» للفنان التشكيلي الأميركي جيمس ماكنيل ويسلر (1834/1903) من أشهر اللوحات التي اتخذت الأم كثيمة، وقد رسمها سنة 1871 محققا من خلالها التناغم بين اللون الرمادي والأسود. حصدت هذه اللوحة اهتماماً فاجأ مبدعها نفسه، إذ أصبحت رمزا مثاليا وأيقونة للأمومة، وتم استيحاؤها كشخصية في الرسوم المتحركة، وطبعت على طابع بريد للاحتفال بعيد الأم في أميركا، بالإضافة إلى نحت تمثال ضخم مطابق للوحة بمدينة آشلاند الأميركية سنة 1938 ونقشت على قاعدته كلمات كوليردج: «الأم هي أقدس شيء على قيد الحياة»، وقد اشترت الحكومة الفرنسية اللوحة وهي الآن في متحف أورسي بباريس.

الأم.. العنكبوت
الفنانة لويز جوزيفين بورجوا صنعت تمثالاً ضخماً لعنكبوت من البرونز سمَّتهُ «ماما» وقالت: «منحوتة العنكبوت قصيدة مهداة لأمي، لأنها كانت أفضل صديق لي، وكانت مثل العنكبوت، لأن عائلتي كانت تعمل في مجال ترميم المفروشات ووالدتي كانت مسؤولة عن الورشة، فكان عملها يشبه عمل العنكبوت، كما كانت مثل العناكب في ذكائها، ووجودها ودي ومفيد، نحن نعلم أن البعوض ينشر المرض وبالتالي فهو غير مرغوب فيه لذلك فإن العناكب مفيدة وحامية، مثل والدتي».