زواج في مهب الريح
(القاهرة) - لم أُصدق أبداً أن تلك الفتاة الأرستقراطية سليلة الأسرة الثرية يمكن أن توافق على الارتباط بشخص مثلي، وفي مثل ظروفي، فالفوارق بيننا واضحة في كل شيء مثل ما بين المشرق والمغرب، فهي وأسرتها يقيمون في قصر منيف، تحت أقدامهم السيارات الفاخرة التي تتجدد كل عام، وهناك الخدم والحشم والحراس والطهاة والسائقون والعاملون، حتى الحديقة المنزلية لها عمالة خاصة مدربة تعتني بها، وهي مع ذلك تبدو بسيطة رقيقة في جميع تصرفاتها، نسمة عليلة في الصيف القائظ، زهرة متفتحة في ربيع دائم، وجه مشرق وثغر باسم، متواضعة.
أما أنا فشاب مكافح بسيط من أسرة متوسطة، أبي موظف، وأمي ربة منزل، ولي أخوة وأخوات نالوا تعليمهم بشق الأنفس والمعاناة، إلا أن وجه أسرتنا تغير بالعلم الذي رفع شأننا وبالوظائف التي نقلتنا من الطبقة الدنيا إلى أولى درجات الطبقة المتوسطة، لكننا لا ننسى حقيقتنا ولا نغير جلدنا ولا نتلون، ولا نتطلع إلى أكثر من الواقع، وإن كان هذا لا يخالف الطموح المشروع الذي يظلل أحلامنا.
دائماً أعرف حجمي، ولا أنظر إلى أعلى ولا أتجاوز الخطوط التي يجب أن أكون عندها، لا أحب التمرد على الواقع ولا أعيش في الأوهام والأحلام، لا أتدخل فيما لا يعنيني حتى لا أسمع ما لا يرضيني، ولا أريد أن أكون مادة للنقد والتندر، لست ملاكاً أو بلا عيوب، وإنما أُحاول أن أقلل منها قدر المستطاع وأتخلص مما يمكن أن أتجنبه، أحب أن أستمع إلى آراء أصدقائي وزملائي حول تصرفاتي، لأنهم المرآة التي يمكن من خلالها أن أرى نفسي على حقيقتها، لا أقول ذلك من باب التواضع أو التجمل، ولكن من قبيل الحقيقة.
هي زميلتي في العمل، عندما رأيتها أوَّل مرة انبهرت كأنني لم أر فتاة في حياتي من قبل خلال سنوات عمري الخمس والعشرين وهي تقترب من ذلك، بل بالفعل لم تقع عيناي على مثلها ولا بين نجمات السينما، إلا أنني كعادتي أستطيع السيطرة على مشاعري، فلا أسمح لها بالخروج ولا يمكن أن يظهر منها شيء، ولديَّ القدرة على إظهار عكسها في محاولة لكبتها ودفنها، فلا أريد أن أبدو مثل مراهق لا يحسن ولا يقدر عواقب الأمور، ولا أحب أن تهتز صورتي عند من حولي خاصة زملائي الذين أتعامل معهم وأراهم كل يوم، والأهم أنني لا أخرج عن حدود إمكاناتي.
لم يكن ذلك بحثاً عن المثالية، وإنما الواقعية بلا زيف، فكثيراً ما أرى حولي أُناساً يعيشون في غير واقعهم ويتنصلون منه ويهربون من الحقيقة بالكذب والزيف ويتحولون إلى مادة للنميمة والسخرية أيضاً، ويعتقدون أنهم يخدعون من حولهم، بينما هم في الحقيقة لا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، مرضى لا يريدون الاعتراف بأمراضهم، مثل المجانين الذين يرددون دائماً أنهم عقلاء، وقد استفدت من أمراض هؤلاء بالوقاية مما هم فيه، ويكفيني هنا الاحترام الذي ألقاه من كل من أتعامل معهم، وقبل هذا وبعده احترامي لنفسي.
أخفيت مشاعري نحوها حتى عن نفسي، لكن عندما أخلو أفكر فيها ليس كمحبوبة ولا فتاة جميلة، وإنما أتساءل: لماذا لم تتزوج حتى الآن وهي بتلك الإمكانات والمواصفات، وأجيب بأنها في وضع حرج فمثلها يخاف الشباب التقدم لها لأنها بالقطع لن توافق هي ولا أسرتها إلا على واحد من عائلة مثلهم تشبههم في كل شيء، وهذا التكافؤ هو أحد أهم أسباب نجاح الحياة الزوجية، صدقوني لم أفكر فيها يوماً كزوجة لي بسبب الفوارق التي ذكرتها وشخصيتي التي أكبح جماحها، ولا أحلم بذلك لأنني أراه من رابع المستحيلات، فلا يكفي حسن هندامي ووسامتي لأن أطيع عواطفي التي قد تصاب بالشطط.
بعض ما نراه محالاً وبعيداً عن الواقع، قد يكون متاحاً وأقرب وأيسر مما نتوقع، وهذا ما حدث، عندما تدخلت زميلتنا في حوار مشترك أدى إلى تقارب بيننا وتواصل في الحوارات واللقاءات، لم أكن أقصد أبداً من ورائها الاقتراب منها من أجل الزواج، ولكن مجاراة لظروف العمل والزمالة وحسن الخلق والمعاملة بالمثل، كما في عالم الدبلوماسية، أحياناً من باب المجاملة وأحياناً أخرى من باب ما تستحقه من تقدير واحترام، إلا أن هذا كله عرج بنا نحو الخوض في مناقشات وجدال لطيف جرني للألم لأنني غير قادر على الارتباط بها، أو بمثلها، وأقاوم حتى لا أجدني في موقف أكون فيه عاجزاً عن التخلص من حبها واكتفي من الغنيمة بالإياب، وكانت المفاجأة التي تصل إلى حد الصدمة الجميلة، أنها لا مانع أبداً عندها من أن ترتبط بي، وراحت تعدد مميزاتي كما تراها.
لم أندفع بهذه الكلمات نحوها واكتفي بإعجابها وترحيبها، فلابد من المصارحة الكاملة حتى نبني حياتنا على الثقة والصدق، أخبرتها بإمكاناتي وظروف عائلتي، وأنني لا أملك إلا راتبي وشقة متواضعة لا تناسبها، وفي نفس الوقت لن أقبل منة ولا مساعدة من أحد حتى لو كانت أسرة زوجتي، وقد تكون هذه الكلمات لقيت عندها إعجاباً وسبباً جديداً يجعلها تتمسك بي وموافقة أسرتها التي تأكدت بالفعل أنني لست من الطامعين في أموالهم ولم أقدم على هذه الخطوة من أجل الخروج من جلبابي، ولا من أجل التمسح بهم.
اصطحبت أسرتي بكامل أفرادها حتى أختي التي تعاني شلل الأطفال، إلى حيث قصر فتاتي للتعارف بين الأسرتين، وأن تفرغت في تلك الليلة لملاحظة الانطباع وخاصة من الجانب الآخر، ولمحت في عيونهم بعض الرفض أو الاستغراب، وقرأت عبارات واضحة تكاد تتحدث عن الفوارق التي بيننا والتي لم نكن نخفيها من قبل وأوضحتها قبل أن نبدأ أول خطوة وتقبلوها جميعاً، ليس من سمع كمن رأى، وفي النهاية تمت الخطبة إلا أن الهواجس لعبت في صدري وداهمتني الظنون، بأن خطيبتي وأسرتها يحاولون أن يظهروا بمظهر التحضر والحرية والمساواة، وأنهم لا يعيشون في العصور الوسطى التي كانت ترفض حتى تهجين الخيول الأصيلة بغيرها، وقد يغالطون أنفسهم، وأصبحوا غير قادرين على التراجع عن كلمتهم، أما أنا فأرى في الأفق غمامة لا أعرف إن كانت تحمل أمطار الخير أم تأتي بسيل جارف، فقد مضى أكثر من أربعة أشهر ولم يقم أهل خطيبتي برد الزيارة لنا كما تقضي عادات منطقتنا.
أما عن خطيبتي، فقد كانت سعيدة بشكل حقيقي، وأنا لا أصدق أنني فزت بها، وأخشى أن أكون في حلم جميل قد أستيقظ منه بعد لحظات، فأهرع إلى هاتفي لأسمع صوتها العذب وأطمئن نفسي بأن ما يحدث واقع فعلي وليس وهماً ولا خيالاً، ومع ذلك يزداد خوفي وتتسارع دقات قلبي، ويهرب النوم من عيني، لا أخفي أنني ما زلت أحسب ألف حساب للفوارق التي بيننا، ولم أقتنع أنها زالت حتى بعد كل ما حدث.
بدأت في إعداد عش الزوجية، وخطيبتي تشاركني، لكنها تريد أن تشتري أثاثاً يليق بها وان كان على حساب أبيها إلا أنه لا يتناسب مع مسكني الصغير، وأنا لا أريد أن يفرضوا عليّ نمط حياتهم، وأيضاً لا أحب أن تشعر زوجتي بأنها انتقلت من قصر إلى كوخ، وعندما ناقشتها في ذلك قالت إن الفتيات هذه الأيام تتحملن أكثر مما يتحمل الشباب في تكاليف الزواج، ويجب ألا أتوقف كثيراً أمام ذلك لأنه أمر طبيعي، وليس منة منهم عليّ.
ويبدو أنني قرأت الأحداث والعيون بشكل صحيح، إذا عندما اقتربنا من إتمام الزواج فوجئت بما لم يكن في الحسبان وما لم يخطر لي على بال، جاءني والد زوجتي بما يسمى «قائمة المنقولات الزوجية» نعم كنت أعرف ذلك، لكن هذه القائمة كانت غير عادية، تحوي أثاثاً ومجوهرات وأجهزة كهربائية ومفروشات مبالغاً فيها، لو أنني ظللت أعمل طوال عمري بأضعاف راتبي فلن أبلغها، وطلب مني التوقيع عليها، وعندما استنكرت قيمتها المفزعة بالنسبة لي، برر ذلك بأنه ضمان لمستقبل ابنته، لا مانع عندي من القائمة، ولكن باعتدال، وكما يفعل الناس حتى من في مستواهم هم وليس مستوانا نحن، غير أنه رفض النقاش والتفاهم، ولأول مرَّة تظهر لغة التعالي التي لم أقبلها، ومن جانبي رفضت أيضاً، واستفحل الخلاف إلى أكثر من مسألة القائمة، وبدا أنها محاولة لتكبيلي بقيود لا أستطيع الفكاك منها، وحتى يتحكموا فيّ كما يريدون، ولا أستطيع في المستقبل أن أتفوَّه معها ولا معهم بكلمة واحدة، وتصبح أصابعي تحت أضراسهم، ولا يكون أمامي أي اختيار إلا الخنوع، أو السجن إن رفضت الانصياع لأوامرهم.
مع ثقتي الكاملة في خطيبتي وأخلاقياتها والتزامها بموقفها، إلا أنني تذكرت ما قاله أمامي أحد الحكماء من كبار السن مرة بأن الزوجة مثل «البطيخة» لا يمكن الحكم عليها إلا بعد العشرة، ومن ثم فلا يمكن أن أراهن على ما هو مجهول ولو كان نسبياً، وما زادني تخوفاً تعنتهم في موقفهم الذي لا يلين ولا يقبل حتى مجرد سماع الرأي الآخر، إذاً فماذا لو حدثت مشكلة أو خلاف بيني وبين زوجتي وهذا أمر وارد لا يخلو منه بيت بأي شكل، افترقنا بعيداً عن نقاط التلاقي، لا يريد أحد منا أن يتراجع، ووقفنا أمام حل واحد هو فسخ الخطبة.
أصيبت خطيبتي بحالة نفسية سيئة، أراها بين شقي الرحى، غير قادرة على التوفيق بيننا، وأنا لا أستطيع أن أتحمل ما لا أطيق وما أفعله ليس من قبيل التصلب أو التشبث بالرأي ولكنها الأصول، وأسرتي لا تملك رأياً، فلا يريدون أن يتدخلوا حتى لا يتخذوا موقفاً يحسب عليهم وهم يرون أنهم لا يجدون شعرة معاوية بينهم وبين أسرة خطيبتي ويفضلون أن يتركوا لي القرار باعتبار ذلك حياتي وتخصني وأنا أدرى بها.
أعرف أن خسارتي لتلك الفتاة ستكون كبيرة، لكن لو حدث ذلك بعد الزواج فإن خسارتي لنفسي ستكون أكبر، إنني في مفترق طرق، لا أدري أيها أسلك، وأيها الصحيح؟