غالب هلسا
في هذه اللحظة من نهار رمضاني يوشك على نهايته· أكتوبر والطقس ما زالا لم يجنحا إلى البرودة بعد· خريف غامض، أوراق شجرهِ الأصفر يتساقط في الروح والمخّيلة··
في هذه اللحظة تنزل عليّ ذكرى الراحل الكبير غالب هلسا·· هكذا وأنا أجلس على منضدة القراءة والكتابة مثل معظم الصباحات، يحط عليّ اسمه الذي يستدعي على الفور ملامح شكله ومنجزه الإبداعي بدوائر متاهاته وشخوصه، بالرغبات والأحلام المداسة بغلظة قل مثيلها، تحت عجلات القمع والاستبداد لبرهة التاريخ العربي المعاصر· هكذا··· بفجاءة لا ينقصها الرهافة والقسوة، يحط اسم الراحل على شجر خريف غامض تسرح أشباحه على منضدة كتابة مقفرة كصحراء يحاصرها الغزاة والجفاف··
بملامحه الطرية اللامعة التي لا يكاد ينعكس على صفحتها كل ذلك الشقاء والمعاناة الحياتية والإبداعية التي وسَمَت حياة الراحل وطبعت كينونته بالكامل منذ سنيِّ حياته الأولى، منفصلاً عن مرابع الولادة والعائلة، متبنياً أصعب الخيارات الفكرية في التصدي للظلم والتخلف بكافة أشكاله وبنياته، ماضياً في دروب الإبداع الموحشة، لكن المضاءة بنير الفكر والممارسة، بالأمل الذي كان موجوداً، حتى لحظته الاخيرة التي قذفتها المشيئة هذه المرة إلى دمشق··
منذ انفصاله المبكر عن بيئته الولادية في الأردن صارت القاهرة مسرح حياته وحريته الإبداعية وسجنه· صار جزءاً من نسيج هذه المدينة الشاسعة المتشظية، من أحلام نَخبها وطليعتها في السراء والضراء، في خوض غمار التجربة والإبداع··
توحدت تجربة غالب هلسا مع قناعاته ودفع أثماناً باهظة من غير تسوية مخلّة أو محاباة مهما كان بريق مصدرها المادي والمعنوي، اليميني واليساري، كالنظام الناصري وغيره من التنظيمات الطامحة إلى سدة الحكم والسلطة··
منذ هجرته المبكرة الأولى صار الراحل الكبير لا تحده حدود الجغرافيا والأقاليم العربية والبشرية المصطنعة·
صارت جغرافيا الخيال والأحلام واللغات سكناه الأساس، مضارب عشيرته المبعثرة في أصقاع الأرض والتاريخ··
في أعمالة الروائية خاصة، ومنذ ''الخماسين'' و''الضحك'' حتى ''الروائيون'' روايته الأخيرة يبني غالب هلسا ويتابع مسيرة روائية غابية (من الغابة) شديدة الغنى والأصالة بالمعنى المفارق· تشكل ملحمة الزمن العربي الراهن بتخلفه وحداثته المكسورة بأفراده وجماعاته، بمدنه وصحرائه الموصدة الابواب· يلتحم الشخصي الحلمي، الهلوسي، بالتاريخ والواقع الموضوعي على نحو معماري بلحمته المُحكمة، بخبرة جمالية وحياتية ومعرفية لروائي كبير لم ينل بعض ما يستحقه· وهو أمر ليس مستغرباً في دنيا العرب المبنية أركانها على النفاق والشللية وسحق الاختلاف·
في هذا الصباح الاعتيادي، في المدينة التي أحبها غالب هلسا وكانت مسرح عواطفه الواقعية والرمزية·· ( أتذكر الآن لحظة ترحيله القسري إثر ترؤسه مؤتمراً من مؤتمرات تلك المرحلة)· في هذه المدينة التي أحببناها حتى الوله والتكرار يحضرني غالب هلسا، يحط طائر روحه على شجر الخريف الزاحف·