لبنان يعانق الفراغات إلى الفوضى
لم يكن مستغرباً أو مفاجئاً تأجيل مجلس النواب اللبناني للمرة التاسعة الجلسة المقررة لتذليل عقدة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية إلى موعد آخر يبدو مسبقاً أيضاً أنه معرض إلى الإرجاء، في ظل انعدام أي أفق للحل أو حتى الاقتراب من خطوط تجمع الأكثرية والمعارضة على قاعدة تفاهمات مشتركة· في غضون ذلك تضرب الفراغات أركان الحكم واحدة بعد الأخرى وصولاً إلى دفع لبنان باتجاه الانهيار الشامل·
الكل متفق في لبنان على انتخاب قائد الجيش الجنرال ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، ما الذي يمنع إذاً إيصاله إلى قصر بعبدا؟
في الظاهر نعم هناك توافق على اسم سليمان، لكن في الباطن الاختلاف أكبر كثيراً من التوافق، لاسيما أن الدور المطلوب من أي رئيس في المرحلة المقبلة يختلف عن دور سابقه ويضعه في تماس مباشر مع تغييرات جذرية في الداخل وضغوط حادة من الخارج·
الأكثرية البرلمانية المتمثلة بـ''قوى 14 آذار'' والتي تحظى بدعم واضح من البطريرك الماروني نصر الله صفير، تريد من رئيس الجمهورية أن يكون الحكم في الحكومة المقبلة، عبر تسميته عدداً من الوزراء يكونون بمثابة الضامن لأي قرار يحتاج أغلبية الثلثين، وفق ما تتطلبه المصلحة الوطنية، وهي بالتالي إذ تتنازل عن السلطة التي تمتلكها حالياً عبر حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، تراهن على أن سليمان من موقعه كرئيس سيحترم كل القرارات الدولية لاسيما تلك المتعلقة بالمحكمة الدولية المختصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وأيضاً المتعلقة بتحديد السلاح في يد الدولة فقط بما يقيد سلاح ''حزب الله'' ويحول دون تكرار ما حدث في صيف ·2006
أما المعارضة المتمثلة بـ''قوى 8 آذار'' فإنها مُصرة على مطلبها بالحصول على ما يعرف بـ''الثلث المُعطِّل'' في أي حكومة جديدة· وما يثير التساؤل فعلاً هو سبب امتناعها حتى الآن عن الإعلان صراحة دعمها رئاسة سليمان إلا وفق سلسلة من الشروط بينها تلك المتمثلة بالمبادرة التي طرحها مفاوضها الرئيسي رئيس تكتل ''الإصلاح والتغيير'' النائب الجنرال ميشال عون، والتي تقيد ولاية سليمان بمدة زمنية لا تتجاوز الانتخابات التشريعية في 2009 بدلاً من 6 سنوات· وهذا الأمر إنما يعكس فعلياً الحذر من تغير سياسة سليمان من موقعه كرئيس، والتي ستكون مغايرة لما شهدته علاقاته كقائد للجيش مع قيادة ''حزب الله''· الأكثرية تريد الالتزام بالدستور وتمرير أي مشروع قانون يسمح بإيصال قائد الجيش إلى الرئاسة عبرها، وتريد ترك مسألة رئاسة الحكومة إلى ما ينص عليه الدستور أيضاً بهذا الشأن من استشارات ملزمة لرئيس الجمهورية يسمي بموجبها المرشح الذي تختاره أغلبية النواب· لكن في المقابل لا تريد المعارضة السماح بمرور أي تعديل عبر الحكومة، ذلك أن مجرد القبول بذلك يعني الاعتراف بكل القرارات التي اتخذتها الحكومة طيلة ،2007 وهي الفترة التي كانت فيها فاقدة الشرعية وفق رأي المعارضة بسبب انسحاب الوزراء الشيعة منها، إلى جانب أنها شهدت تمرير المحكمة التي تتحفظ عليها أصلاً· كما أنها (المعارضة) مصرة على ''الثلث المعطل'' في أي حكومة جديدة بغض النظر عن الوزراء حصة الرئيس الجديد، خشية أن يأتي البيان الوزاري لهذه الحكومة متشدداً في تحكيم قبضة الجيش وحده على الأمن·
إذاً الجدل القائم حالياً بشأن انتخابات رئاسة الجمهورية لا يكمن في المخرج الدستوري بشأن مسألة ترشيح موظفي الفئة الأولى، وإنما فيما بعد انتخاب الرئيس، أي في الحكومة، والتي لا يمكن حلها فعلياً وسط هذه الحالة من أجواء انعدام الثقة بين الأكثرية والمعارضة والتي تزداد اتساعاً كلما طال أمد الأزمة وتعددت الفراغات· ناهيك عن أن التدخلات الخارجية أصبحت بمثابة صب الزيت على النار أكثر من محاولة إخمادها، فها هي زيارة الموفد الأميركي ''ديفيد وولش'' تستغل من جانب المعارضة لاتهام الأكثرية بالعمالة إلى الولايات المتحدة وخدمة مشروعها في المنطقة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سوريا التي تقول مرة على لسان وزير خارجيتها وليد المعلم إنها اتفقت مع فرنسا على عدم التدخل في الانتخابات الرئاسية اللبنانية، فيما يخرج نائب الرئيس فاروق الشرع في اليوم نفسه ليقول إن سوريا في لبنان اليوم أقوى مما كانت عليه عندما كانت قواتها هناك قبل مايو ·2005
شغر منصب رئاسة الجمهورية في منتصف ليل 24 نوفمبر، وبعد نحو 10 أيام وتحديداً في 31 ديسمبر يشغر دور البرلمان مع انتهاء دورته الحالية، مما يعني فراغاً تشريعياً حتى انعقاد مجلس النواب مجدداً في أول ثلاثاء بعد 15 مارس، أي بعد ثلاثة أشهر على الأقل· وبين الاثنين (الرئاسة والبرلمان) نصف بلد يعترف بالحكومة ونصف لا يعترف بها، بما يمكن أن يطلق عليه وصف ''نصف فراغ'' استغلته أصابع شيطانية لضرب العماد الأخير الثابت في لبنان وهو الجيش الذي طاله أيضاً الفراغ عبر اغتيال مدير العمليات العميد الركن فرانسوا الحاج قبل نحو أسبوع·
وسط كل هذه الفراغات والنكسات ماذا ينتظر لبنان بعد 31 ديسمبر؟ وهل ستقبل المعارضة ببساطة أن تسلم إدارة الدولة بكاملها إلى حكومة لا تعترف بها وتشكك في شرعيتها؟ الخوف كل الخوف من الفلتان والفوضى وامتداد ما جرى من تظاهرات شغب ضد الحكومة في ضاحية بيروت الجنوبية ليطال كل لبنان، وعندها أي شيء يمكن أن يحدث وكل شيء والوساطات الخارجية حسنة كانت أو سيئة النية لن تفلح في إصلاح أي شيء·
لبنان أمام الانهيار··· بالطبع أمام الانهيار وربما الحرب مرة أخرى مهما حاول الجميع التقليل من احتمالاتها، وإلا فما لزوم دروس التاريخ··· وإذا لم تستيقظ الأكثرية والمعارضة لتبحث عن أي قشة إنقاذ تجمعهما على الحل انطلاقاً من لبنان أولاً ومن دون شروط التعجيز والعقد، فإن الأفق يبدو مظلماً وسوداوياً·
الكل شريك في مؤامرة الفراغ تحت شعار الدفاع عن الوطن للأسف···لا استثناء لأحد، فالحل في الداخل والمطلوب فقط أن تستيقظ الضمائر أم أن الفراغ طالها أيضاً؟
عماد رياض المكاري