قلم الغربة وحبر الوطن
أقدم اتحاد كتاب المغرب، مؤخراً، على إصدار كتاب “الهجرة والإبداع”، وهو كتاب قيّم جمعت فيه دراسات شكلت إحدى الندوات الهامة التي نظمها اتحاد كتاب المغرب بمشاركة أسماء وازنة في الحقل الثقافي المغربي وأبرز هذه الاسماء: هشام العلوي، زكية خيرهم، أحمد المديني، محمد المزديوي، بشير القمري، طه عدنان، محمد مسعاد، محمود عبد الغني، جمال الموساوي، محمد العمراوي.
وفي القسم الفرنسي من هذا الكتاب نجد مداخلات ودراسات لكل من: محمد لفتاح، حفصة العمراني، سهام بوهلال، إزة أيت بلعز، عبد القادر بنعلي، عبد الله مذعري العلوي.
كل الدراسات التي وردت في الكتاب، عدا استثناءات قليلة، تناقش إشكاليات: الغربة، والهجرة، فالمنفى. وهي إشكاليات أرقت الكتاب المغاربة الذين يعملون ويعيشون في بلدان المهجر الأوروبية، إنها غربة مؤلمة لا يحس بألمها إلا من اكتوى بنارها. نلمس هذا بعمق في شهادة الكاتبة المغربية زكية خيرهم، حين تقول في شهادتها “منفى يشبه الوطن”: “في الوطن الثاني، النرويج، أتيحت لي فرصة أن أكتب بحرية وأعبر عما كنت أتمنى أن أقول وأنا بين أهلي. وبعد أن كتب بالخط العريض على الصفحة الأولى في صحيفة رئيسة في النرويج عن مستشفى خاص قرر إيقاف عمليات ترقيع العذرية بعدما قررت الدولة عدم تغطية التكاليف، قررت أن أكتب في الموضوع الذي طالما أردت التحدث عنه في وطني، العذرية الحقيقية ليست في الجسد فحسب، بل في الحرية والسلطة والثروة”.
وطن الخيال
تقول زكية عن روايتها الأولى إنها تتحدث عن مفهوم الشرف: هل يقتصر الشرف على جسد المرأة أم ثمة ما هو أبعد؟ هل هو (فقط) شيء مؤقت لدى الفتاة إلى حين زواجها، وبعد ذلك لا يعود ثمة شرف يخاف عليه؟ هل الرجل الشرقي/ العربي/ المسلم يحمل على عاتقه مسؤولية التربية الصحيحة وتدريب الضمير على أن يكون حياً عوضا عن أن يكون ميتاً أو ازدواجياً؟ وتضيف بألم: إقامتي في الغرب، غربة أخرى ومن نوع آخر. غربة الوطن، والوطن الغربة. في الآن ذاته. يظل هاجس الوطن الأم، بأفراحه وأحزانه، يرافقني في صبحي ومسائي. البعد عن الأهل والأحباب رغم الأصدقاء الجدد. أجد مساحة كبيرة من حرية لأكتب وأعبر كما أريد. لست مقيدة بمُتاح وغير متاح. والتعامل مع الكتاب النرويجيين يقوم على احترام وتشجيع، لا على حسد وتعطيل. يستقبلون كتاباتك بصرف النظر عن هويتك وخلفيتك. ليس لجنسك أو لونك أو دينك وطائفتك وحزبك. يتعرض الناقد لكتاباتك دون أن ينتظر منك ثمناً، أي ثمن”.
وتضيف زكية خيرهم أن الكاتب في مهجرها الأوروبي “يكتب من غير خوف من أنه يتجاوز خطوطا حمراء، دون أن يكون مبتذلا بل يظل شامخاً كقامة سروة”.
وبرأي زكية: لا أحد يقف على أصابعه (المحتلة والمختلة) حين يمارس الكتابة. لا يوقف التاريخ والتراث والمخابرات سواطير حادة فوق أصابعه حين يمارس عادة التنفس السرية. الكلام الخطير عندنا ليس كذلك هناك. أسباب هجرة هذا أو ذاك، حنين المبدع المهاجر إلى وطنه يشبهه، وطن من حُلم يعيش في خياله. لست سعيدة حين أقول إني قادمة من وطن إلى منفى يشبه الوطن. المنفى روح. ليس جسداً أو جغرافيا. وكما قال الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : “الفقر في الوطن غربة، والغنى في المنفى وطن” تقول زكية خيرهم: المنفى الحقيقي هو اللغة، حين يكون الإنسان عاجزاً عن قول ما يريد، أو يُجبر على قول ما لا يريد. هذا هو المنفى، بل هذا هو الذل. المنفى، حين تكون الطبيعة البريئة موحشة، خلف كل شجرة مخبر، وتحت كل ورقة عين بل أكثر. الخوف يشوه الطبيعة.
ضيق الدائرة
الهجرة، إذن مصير من مصائر الكائن، يتشابك فيها الجسدي بما هو انتقال بين الأمكنة والاقتصادي بما هو رغبة في البحث عن مستوى معيشي أفضل. والرمزي بما هو بحث عن تغيير طريقة العيش ـ حسب الكاتب جمال الموساوي ـ وذلك ضمن منظومة أخرى عن القيم المجتمعية وداخل انساق ذهنية وثقافية أخرى لا تمت إلى المنظومات الأصلية بأي صلة. كما أن هذا البعد الرمزي يتجلى أيضاً في الدور الذي يمكن أن يلعبه المهاجر في التقريب بين الثقافات وفي الحوار بين الشعوب والحضارات. عندما ندخل في الاعتبارات المتعلقة بالأبعاد الرمزية للهجرة، يرى الموساوي أننا بذلك نكون قد ضيقنا الدائرة قليلا، وربما أكثر، لأن المهاجرين “ليسوا كلهم على وعي بهذه الأبعاد، بل فقط ثلة ممن بإمكانهم طرح الأسئلة، والبحث في طبيعة العلاقة الممكنة بينهم، ككائنات غريبة وبين الأمكنة التي يعيشون فيها، وهذه الأمكنة، والى أي حد يمكنهم أن يؤثروا ويتأثروا، على أن يحتفظوا بتلك المسافة اللازمة التي تسمح لهم بالتأمل النقدي سواء في بلدهم الأصلي أو في مهَاجرهم، دون أن يذوبوا هناك، وبالتالي دون أن يفقدوا تلك الشخصية المركبة أو المتعددة التي تسمح لهم بالنظر إلى الأشياء من زوايا مختلفة وتساعد كل واحد منهم على تشكيل موقفه الخاص. الخاص جدا.
نحن إذن أمام مهاجرين، ليس الشأن الاقتصادي هاجسهم الأول أو الوحيد، بل إن انشغالهم بالأسئلة الإبداعية يبدو أكثر ضرورة بالنسبة إليهم، وبحثهم عن أنفسهم بعيدا عن المبتذل والمشترك بين الناس يجعلهم أكثر جدارة من غيرهم، لأنهم على الأقل يمارسون هجرة أخرى داخل اللغة وربما من لغة إلى أخرى، كما يعملون على كسر تلك الرؤية السخيفة التي تختزل المهاجرين إلى عملة صعبة تساهم في توزن ميزان الأداءات للدولة.
أما الناقد المغربي الدكتور بشير القمري، فيرى أن اختيار موضوع الإبداع والهجرة، “لا يمكن سوى أن يكون حفريا، وفي نصوص محددة بالذات، لأنه موضوع يعبر عن وعي دينامي بالفعل الثقافي الإبداعي الفكري وسوسيولوجي، ولأنه ينسجم مع نوعية المرحلة التي تمر بها كتابة المغاربة، سواء في الخارج، في “المهاجر”، أو في الداخل أيضا، لأنني سألغي المسافة بين كتاب “الخارج” وكتاب “الداخل”.
ويضيف “سأعتبر أن الأمر يتعلق بـ”كتابة المغرب”، بأي لغة كانت، عربية، إسبانية، فرنسية، هولندية، إيطالية، أو دانماركية وإنجليزية. إنه اختيار ملائم وعقلاني، ويحمل في طياته إشكالا دقيقا: من تابع للآخر: الإبداع أم الهجرة؟ من “المركزي” فيهما؟ هل يتساويان؟ يتحاشيان؟ يتطابقان، يتنابذان؟ هل هما في كفة واحدة؟
إذا كان الأمر كذلك، فعلينا أن نلغي “الواو” التي تعني “المصاحبة” فقط، ولم لا نقول: “إبداع هجرة” أو “إبداع الهجرة”، أو “هجرة إبداع”، أو “هجرة الإبداع”؟ الواو تقتل وتجعل الأمر ملتبساً، ثم: ليس ضرورة أن يكون ما يبدعه المغاربة، بأي لغة كانت وفي أي جنس أو شكل أدبي. شكل كتابة، مشروطا بالهجرة بالمعنى الضيق ما دام أنه يصب في الإنساني ـ الكوني، ويأتي هذا كله مرهوناً بقيمة مضاعفة تفترض سؤالا ثانياً: ما الذي يميز هذا الإبداع ويميز هذه الهجرة؟ ويرتبط هذا كله بما يمكن أن يصير أكثر إشكالا حين نتحدث عن “هجرة النصوص”، تقنيا، فلسفيا، وجوديا، هوياتيا، ونضيف إلى كل هذا ما يمكن أن ننعته “الهجرة في المكان”، لأن المبدع المهاجر يسافر في نفس المكان دون أن يهاجر “ماديا” (عضويا، بيولوجيا). وهذا يعني أن هناك إبداعاً ينبغي أن يُفكر فيه، لأنه يهاجر ويقارب موضوعة الهجرة دون الخروج من بلد إلى بلد، من صَقْع إلى صقع، من جغرافيا إلى جغرافيا ومن تراب إلى تراب”.
ويقربنا الدكتور بشير القمري إلى “إبداع الهجرة” بأنه “نص تخيّلي له شعريته الخاصة، على الأقل شعرية “الموضوعات” (التيمات)، أو الشعرية التيمية التي تقود إلى حفريات نصية للاهتداء إلى خصوصية ونوعية هذا الإبداع في علاقتهما بالهجرة بموازاة إبداع الهجرة في الداخل”.
ووصف الدكتور محمد مسعاد في شهادته، كتابة الهجرة، بـ”كتابة الضيوف، كتابة الأجانب وهذه الصفات التي أطلقتها الصحافة والنقاد على كتابات الذين بدأوا يكتبون منذ عقود خلت في ألمانيا، وهي كتابة مختلفة على كل حال غير أنها لا تقل أهمية. كتاب من جذور مهاجرة بدأوا يعبرون عن ذاتهم بأشكال كتابية مختلفة، ومغاربة طبعا قليلون لكنهم قادمون، أسماء منها أعرفها وأخرى قرأت لها، وأفشيكم سراً كان قد أفشاه لي محرك البحث جوجل وهو أن أول نص ألماني لكاتب من أصول عربية، هو لكاتب مغربي اسمه مصطفى الحجاج بعنوان “من القرد الذي يبحث عن تأشيرة”. فسواء إدريس الجاي الذي يضفي على تراثنا الشفوي بعداً آخر عبر الترجمة، الذي نقل طقوس جامع الفنا والمدن المغربية العتيقة إلى “الحلقة” ناطقة باللغة الألمانية، أو عبد اللطيف بلفلاح، المسفيوي القادم من عمق “عبدة”، أو عبد اللطيف يوسفي الذي أثار الانتباه له من خلال أعماله القصصية، أو رشيد بوطيب الروائي الغارق في سلاسة الفلاسفة، كلهم كتاب ولا ادعي أنها الأسماء الوحيدة، كلهم يكتبون بأناقة كبيرة. لعبد اللطيف يوسفي قصة تحمل اسما مستفزا “سأتزوج كلبا”، وهي تنقل تفاصيل اليومي لأسرة طنجاوية مهاجرة في صراع مرير مع الآخر القيمي والإنساني، وما الكلب هنا إلا استعارة للاسم الذي يطلقه مغاربة فرانكفورت على الألمان.
هاجرت بشجاعة متخاذل يحترم نفسه
الشاعر المغربي المغترب في بروكسيل طه عدنان، قدم شهادة تعتصر ألماً عن هجرته جاء فيها:
“بعد سنتين من البطالة، كان علي أن أتدبر أمري على نحو مختلف. سنتان من قلة الشغل والحيلة كانتا كافيتين لدفعي إلى مراجعة العديد من البداهات: الماضي اليساري الواثق. الأحلام الثورية والشعارات النارية التي لا تجرؤ على إشعال أصغر حريق في أكبر كومة قش. كما أن الإجازة في الاقتصاد لم تكن تعني شيئاً في بلد اقتصاده لا يقل انهياراً عن أعصاب مواطنيه.
عندما كنت طالباً في الجامعة لم أكن اهتم لشيء. كنا نستمتع كثيراً بحياتنا الثورية السعيدة. وكنا نقضي أوقاتاً ممتعة في تنظيم المظاهرات لشتم الحكومة والنظام ونبشر بالتغيير المحتوم بيقينية رجال الدعوة والتبليغ. بعد سنوات من الزعيق، لم افلح في رؤية ولو نصف خيال ذلك التغيير المنشود. لم نستطع لا تغيير النظام ولا تغيير الفوضى التي تنظم حالها بشكل محكم في وطننا السعيد. بل اكتشفت أنني أعجز حتى من أن أغير وضعي الشخصي بعد عشرات المباريات والمقابلات التي تصديت لها من أجل الحصول على عمل ما في مكان ما. لذلك، وعوض تغيير الأوضاع، قررت بشجاعة متخاذل يحترم نفسه أن أفلت بما لم يحترق بعد من أعصابي فغيرت البلد برمته.
بهذا المعنى يمكنني اعتبار بروكسل ملاذا لا منفى. فالوطن كان أشد المنافي ضرواة.
وأنا في الباخرة، صرفت مائة فرنك فرنسي مقابل حفنة من البسيطات الإسبانية. حينما وصلنا إلى الخزيرات، تحلق حولنا حمالون أنيقون. كانوا يجرون عربات صغيرة تتربص بحقائبنا المثقلة. أشرت إلى إسباني شاب ليتكفل بأمر حمولتي. كان وسيماً مثل أبطال السينما. وكنت فخورا وأنا أتبعه كسيد حديث العهد بالسيادة. حينما أوصلني إلى الحافلة بادرني بقشتالية لم أفهمها، لكنني خمنت قصده من السياق. السياق الواضح أصلا، فتحت كفي وتركته يأخذ ما ادعى انه مقابل الخدمة. كنت أردد مع المتنبي: “ولكن الفتى العربي فيها/ غريب الوجه واليد واللسان”. كدت أسرح مع حكاية “غربة اللسان” هذه لولا أن جرفني سيل المهاجرين الذين لفظتهم الباخرة. كان رفاق الرحلة يتدافعون نحو الحافلة بعزم الفاتحين. أهملت المتنبي سريعا وتدافعت مع الخلائق. بعد ساعات من السفر، دخلنا إلى فرنسا. هناك على الأقل لم أعد غريباً. أقصد لم أعد غريب اللسان تماماً.
في محطة “بانيولي”، كنت أتأمل رفاق الرحلة الذين انتهى بهم المطاف في باريس وهم يتفحصون حقائبهم للاطمئنان على سلامة محتوياتها قبل أن يضيعوا في الزحام. كنت بدوري أتفحص ملامحهم وأتمعن في هيئاتهم ولكناتهم وأتساءل مع نفسي: “ماذا يفعل هؤلاء الأشاعثُ ذوو السحنات الكالحة هنا؟”.
شخصياً يقول الشاعر طه عدنان في شهادته: “لم أكن أعرف أن الهجرة حق مقدس عندما هاجرت. وحتى جيل دولوز لم أكن أعرف عنه سوى انتحاره التراجيدي ممارساً حقه المقدس في الهجرة إلى الأعالي بعدما أعياه المرض وضيق التنفس. لكنني هاجرت، فقط لأني لم أكن شجرة. وبدل الجذور كان لي ساقان سرعان ما أطلقتهما للريح”.