منذ أن كبرت وعرفت الدنيا، شعرت بالتعاسة تملأ حياتي كلها، الهم والنكد يلاحقانني باستمرار، عمري أربعة وعشرون عاما فقط، ولكن من يشاهدني يتوقع بأنني أكبر من ذلك بكثير· أنا إنسانة حساسة جدا، رقيقة المشاعر، بحاجة دائمة للحب والحنان، للكلمة·· للمسة·· للصدر الإنساني الحنون· هذا كل ما أطلبه من هذا العالم، فهل أطلب المستحيل؟ لدي مخزون هائل من المشاعر ولكن لا أحد يحاول فتح صناديق تلك الكنوز، حتى باتت تتضخم بداخلي وتسبب لي ضغوطا نفسية هائلة· أرجو أن تتسع صدوركم لقصة لا تنتهي إلا بموتي، فربما سأشعر بعده بالراحة الأبدية· بداية العقدة عندما بلغت الرابعة عشرة، بدأت حياتي بالتغير نحو الأسوأ· قبلها كنت طفلة بريئة لا أحمّل الأمور أكبر من حجمها، ولكن عندما كبرت بدأت أتحسس من كل شيء في حياتي العائلية· على فكرة، أود أن تعرفوا بأننا عائلة تعيش عصر الجاهلية حرفياً، لا للخروج من المنزل، لا لوسائل الترفيه والتسلية، لا للحياة الاجتماعية، لا للتلفاز، لا للطموح· سجن مؤبد لا ينتهي أبدا· كرد فعل على هذا الوضع تحولت إلى إنسانة متمردة، مشاغبة، أرفض الأوامر وأطالب بكسر الحواجز والخروج إلى العالم مما عرضني للعقوبات بشكل مستمر· ولأني لم أجد صدرا محبا حنونا في البيت، وجدت ضالتي في زميلات الدراسة، تقربت إليهن فأصبحن أقرب الناس إلي مع أنهن لسن مثاليات وبينهن من لا تستحق الصداقة· عندما وصلت إلى بداية المرحلة الثانوية عرفت بأنني أقترب من النهاية، فالعائلة لن تسمح لي بالدراسة الجامعية، لذلك تعمدت الإهمال والرسوب المتكرر لأبقى أطول فترة ممكنة على مقاعد الدراسة، لأنها الفرصة الوحيدة للخروج من المنزل وملاقاة الصديقات، لكن جميع صديقاتي أنهين الثانوية، ومنهن من التحقت بالجامعة، ومنهن من تزوجت، فبقيت لوحدي حتى أنهيت الثانوية وتفرغت للوحدة والعذاب النفسي الشديد· لدي إخوة وأخوات ولكني لم أشعر بأنهم قريبون إليّ، نحن نعيش كالغرباء، لا أحد يكترث لأحد، خصوصا الأولاد المحظوظون، فهم يعيشون حياتهم على هواهم، يخرجون ويتنزهون دون أي اعتراض، ويحظون بالحب والاهتمام الكامل من والدتي مع أنهم لم ينفعوها بشيء وكل واحد منهم تزوج وتفرغ لأسرته ولم يكترث لأمه أو أخواته· عداء بلا سبب كانت أمي تعاملني بجفوة شديدة، وبقسوة لا تعرف الرحمة، مع أن المفروض أن تكون هي أقرب الناس إليّ· لم أسمع منها سوى السب والشتم والاستهزاء·· حتى الكلام والتعبير عمّا بداخلي منعتني منه· تراكمت في داخلي الهموم والأحزان حتى بدأت أعراض المرض النفسي تظهر عليّ، ولولا حنان والدي واهتمامه لكنت الآن في أسوأ حال· هو الوحيد الذي كان يقف إلى جانبي في المحن النفسية القاسية التي كنت أعاني منها· وكلما تقربت من والدي أكثر كلما كرهتني أمي أكثر وتعاملت معي بوحشية لا تطاق، سامحها الله· لا أتذكر أبدا يوما ضمتني فيه إلى صدرها، ولا أتذكر يوما فتحت فيه حوارا للتواصل والمودة بيننا، ولا أتذكر أبدا أني سمعت منها دعوات صالحات لأجلي· كثيرا ما كنت أتساءل: ترى هل أنا ابنتها حقا، أم أنها وجدتني في الشارع!! فليس من المعقول أن تعاملني على هذا النحو وهي على يقين بأنني من لحمها ودمها· تصوروا·· أنها بعد أي مشكلة تحدث بيننا تطردني من المنزل ''خذي ثيابك واخرجي من بيتي''، أحمل ثيابي وأحزاني ودموعي وأخرج من المنزل، وأبقى أدور حول المنزل، أختبئ هنا وهناك والخوف يملؤني· خصوصا إذا كان الوقت ليلا، أنتظر عودة والدي ليأخذني إلى منزل عمّي أو خالي· الموقف الآخر أكثر ما يؤلمني هو موقف والدي الحرج في هذه المسألة، لا يعرف ماذا يفعل، فكثيرا ما تنازعا من أجلي، وقد ضربها مرة وخاصمها لفترة طويلة، ولكنّي توسلت إليه أن لا يكررها، فأنا لا أريد أن أكون السبب في الخلاف بينهما، وكم ضغطت على أعصابي ولم أحدثه عن أفعالها معي كي لا أضايقه وكي لا يأخذ موقفا منها بسببي· أتذكر مرة عندما وجدت أمي معي هاتفا نقالا حصلت عليه من إحدى الصديقات، وكان الهدف منه التواصل مع صديقاتي ليس أكثر، فلم تقصر في ضربي ضربا مبرحا أفقدني رشدي، فصرت أصرخ كالمجنونة حتى طردتني من البيت فخرجت والدموع تملأ عيني ولم أستطع إخفاء حالتي عن والدي الذي أخذني إلى المستشفى، ثم بعد أن هدأت واطمأن عليّ أخذني إلى بيت عمّي فبقيت عندهم لفترة طويلة حتى تحسنت أوضاعي النفسية فأعادني إلى منزلنا بعد أن تحدث هو وعمّي مع والدتي ونصحاها كثيرا فرضيت بعودتي أخيرا· الأمل الوحيد كان أملي الوحيد للخروج من هذه الحياة الأسرية المتعبة هو الزواج· كل رجائي ودعواتي اتجهت إلى ربي كي أتزوج وأتخلص من هذه العلاقة المتوترة بيني وبين أمي فأرتاح وأريحها وأريح والدي المسكين من هذه البلوى· تقدم لي شاب وقبل أن يتم التأكد من جميع ظروفه وافق الجميع عليه· لا ألومهم·· فأنا نفسي كنت أفكر بالخلاص بغض النظر عن أي شيء آخر· ولكن يبدو أن المعاناة والشقاء لا يريدان مفارقتي، فزوجي نسخة من أمي، يبدو أنها لعنة دعوات أمي عليّ، إذ كانت تدعو لي بزواج تعيس لا يطول حتى أطلق ويشمت بي الناس· طباع زوجي لا تختلف عن أمي بشيء، إلا الضرب، فهو لا يضربني كما كانت تفعل، إنه عصبي، حاد المزاج، شحيح العواطف، بخيل في كل شيء إلا المال، فهو كريم وسخي ماديا، وهذا الشيء لا يسعدني لأنني لم أفكر بالمال ولا أكترث له، وكل ما كنت أطلبه هو الحنان والحب· بعد الزواج مباشرة حدثت مشاكل بيني وبين أسرته حيث كنت أسكن معهم، فهو الولد الوحيد للعائلة، ومسؤول عن أربع نساء، أمه وجدته وأخته وابنتها· كلهن يحتجن إليه، وكل اهتمامه ورعايته مركزة عليهن· اعتبرنني منذ البداية الشريكة الخامسة لهن، واتخذن منّي موقفا سلبيا للغاية وناصبنني الكره والعداء منذ دخولي المنزل· حدثت مشاكل كثيرة بيننا كانت نهايتها خروجي من المنزل وطلاقي بعد عام واحد فقط من الزواج ولكنه أعادني إلى ذمته مرة أخرى بعد أن خصص لي مسكنا مستقلا· فكرت أن أبدأ معه من جديد، حاولت أن أكسب قلبه ولكني فشلت تماما، فهو جاف في مشاعره، غير مستعد لمنحي كلمة أو لمسة أو حتى نظرة حانية، أو ربما لا يجد فيما أطلبه منه ضرورة للتواصل بيننا، لا أدري بالضبط كيف يفكر وما هي مشاعره، لأنه لا يريد أن يتحدث معي بأي شيء· شمعتان مضيئتان رزقت بولد وبنت وأنا أعيش هذه الأجواء الجافة المتوترة، لا شيء بيننا سوى الصراخ والزعيق، لا كلمة حانية ولا حوار حميم· في أحسن الأحوال لا أجد سوى الصمت وجبال من الثلج ترتفع بيننا يوما بعد يوم· ابني وابنتي هما الشمعتان الوحيدتان في حياتي· أحاول قدر الإمكان ألاّ أبخل عليهما بالحب والرعاية والحنان· لا أريد أن تتكرر المأساة مع طفليّ، لا أريد أن ينموا في حضن خال من الحنان كما حدث معي· سأجعلهما صديقين لي، سأعلمهما التحاور معي والتواصل المستمر، لن أحرمهما من الإنصات إليهما وتقدير مشاعرهما، لن أبخل عليهما بما بخلت به أمي عليّ· تمر عليّ أوقات كثيرة أشعر فيها بالضعف الشديد، أجد نفسي على حافة الانهيار الكامل· قصدت عيادات الأطباء النفسيين والمختصين في الشؤون الأسرية، بعد علاجات طويلة وجلسات متعددة أخبروني بأن العيب ليس بي ولكن العيب فيمن حولي، وأنني لست مريضة ولكني ضحية لأناس يعانون الأمراض النفسية ولكنهم يرفضون الاعتراف بذلك· كتبت قصتي هذه ليقف القراء على معاناتي فتهون علىّ كل صاحب مشكلة مشكلته، فلا أحد يعلم ما في النفوس إلا خالقها، فليس أصعب من أن يحرم الإنسان من أبسط حقوقه وهي محبة أقرب الناس إليه· ليس سهلا أبدا أن تستجدي الحنان والاحترام ممن حولك، ليس سهلا أبدا أن تعيش بلا حب، أن لا تكون راضيا وسعيدا بما لديك، ليس سهلا أن يفكر الإنسان بالموت كحل لوضعه التعيس، فيجد في الموت الحل الأمثل والأفضل لحياة جافة خالية من المشاعر·