فائض النار
لا زمن ينبش جراحي الآن،
فلا جرح لي ولا زمن هناك،
ولا عزاء.
قد كنت أنتظر الحوذي الأبكم كل ليلة،
كي يجر العتمة خلف المحيطات
فأشعل شمساً على المدينة
وأحلّ رتاج الغيم،
فيحلق بهدوء
وأصلي كي لا يمرّ سريعاً
فوق السهوب الجرداء
ثم أعاينه بلهفة كي يمرّ، فتمطر.
كنت أبعث بنظرتي إلى القرى البعيدة
وأعد القهوة لزوّار لن يأتوا.
كنت أدرب الريح عند المواسم،
فأنهرها حين تشتد
وحين لا تشتد أنهرها
كانت السفن بلا حطام
وكنت وحيداً على المرافئ
أغزل غربتي على البلور،
وأرى الجنة تبزغ كالغواية، فأستنير.
كنت أدعك الخرافة بماءِ الحجرِ،
وأعلّق النياشين على كتفيها
ثم ألكزها بشغفي فتصير في الزمن.
كنت أمد كل ألم بصرخة
وكل صرخة بشراعٍ
كنت أجر لكل صخرة نائية جبلاً
ولكل وردة وحيدة حقلاً من الأزهار
كنت أخبئ المسرة عند الأذى
وأحيك للغيمة مخدة من ريح
كنت أسمع البرق،
وأرى الرعد بأعيني
غسلت ماء الحياة برغبتي
ومزجت ناري بنوري وغفوت.
كنت أنتظر عودة الحوذي،
فأطلق الأقمار تباعاً في المساء
وأزاول مهنتي منتظماً كالعادة،
فأقلّد المدارات في موعدها
وفي الموعد،
أرشد الضوء إلى النجمة،
وأزفّ النجمة إلى البئر
استمد عافيتي من البريق.
كنت أعزف الناي المكسو بلحنه الأبيض
فتتبعني الفصول الضالة في البراري،
وأصرّفها على الجهات كما أشتهي.
كنت أقاسم العتمة خبزي المطحون
وأسامر الأحلام العابرة كالنمل
وأمنيها بقصب الأحراش المعتق.
كنت أسرد الحكايا للسموأل وابن آوى
وأنتظر المشيئة كي تستقر،
فأرى وجهي الطاعن في السراب،
كخيال شاحب في المدى.
كنت شفافاً كاللاشيء
وصبوراً كحطابٍ ينتظر ميلاد غابةٍ
كنت خفيفاً كريشة في الريح
ووحيداً كتفاحة ضامرة على رصيف،
أدجن الأسئلة الجامحة في طريقي،
ثم أعض على الروح بأنيابي وأمضي.
كنت أعقل جواميس النوايا في المخيلة
وأصب زيتاً على قلقي وأشعله،
ثم أوصد الباب.
لففت أحشاء الحياة بأضلعي
ومزجت بعضاً منها ببعضي،
وكلاً منها بكلي وما نمِرتُ.
كنت محباً يانعاً بلا فؤوس
ولا نواجذ ولا عظام
كنت طرياً كطحلب
وقريرا كقاع أخيرة.
***
ألفت القبعات بلا باعة،
وأساور الذهب مترمدة في جارور الحكاية.
ألفت حتى حتفي،
إلى أن رأيتني مسجّى
ومعي أوطان كثيرة،
لا ألفة فيها إليّ،
ولا ألفة فيها إليها.
أما الآن،
فلا وطن يجثم على روحي
ولا خرافة حب بائس
لا قبلة عالقة على شفاهي
ولا ابتسامة في جيبي العلوي
لا عدو أرفع له راية بيضاء
ولا صديق أتوجس مكائده
لا حيرة تسبق الاختيارات،
ولا ندم يعقبها.
لا لصوص يصفق لهم في القاعات
ولا آخرون يتكئون على الشرف خلف الشاشات
لا مرتشون يلمعون خلف النياشين
ولا أحاديث موشومة على الألسن
لا دسائس أو قرابين
لا بهجة تصاحب الامتثال
ولا مجامر معدّة لقلي الألسنة
لا رغيف محمر بالدم
ولا بطون بأقدام.