نوف الموسى (دبي)
كل شيء في حوار «الاتحاد» مع الفنان محمد أحمد إبراهيم، كان مسترسلاً كعادة الأشياء المتقنة، كأن يقول: إن الفعل في العمل الفني بالنسبة له أهم من السؤال، أو أنه ليس من واجبه إدهاش المتلقي، وكيف أن الفنان خيميائي كبير، يمتلك قدرة إيقاف الزمن وهو يبدع، وحتى حديثه عن هوية الفنان القادمة من صدقه الذي يُولد إيقاعاً متفرداً في كُل شيء، إلا أن الهزة الخفيفة حصلت في الحوار عندما تحدث الفنان عن قصيدة مشتركة بينه وبين الراحل أحمد راشد ثاني: «هكذا الإبرة بقيت»، فرغم أنه ليس رومانسياً ولا يتبناها كمنهج، إلا أنه في تلك اللحظة كان شاعرياً جداً وهو يصور البحث المشترك الذي جمعه مع الشاعر الراحل.. لكن عن ماذا كانا يبحثان، عن ذاتيهما.. كيف؟ عبر التحايل عليها، إنه السؤال الجوهري في أن تمتلك قدرة رؤية نفسك بنفسك.
جلستُ بالقرب من مكتبة للكتب في استوديو الفنان محمد، يقابلني حائط يعلق فيه صوراً فوتوغرافية له ولأشخاص آخرين، في مراحل عمرية مختلفة، وبالطبع لوحة بورتريه لوالده رسمها عندما كان طالباً في المدرسة. من هذه الصور انطلق الاستشفاف الأولي لـ«المكان» فقال: يمكن لـ«المكان» أن يكون زاوية في مقهى، أو تجسيداً للحظة جلوس شخص تحت شجرة في الطبيعة، إنني أنظر للمكان بالمفهوم الشامل، بناءً على طبيعة العلاقة بيننا، التي تنشأ عبرها تلك الخصوصية معي كإنسان، وكون المكان يشعر ويتنفس ويتفاعل فإن العلاقة تتطور وتتجلى في حالة من الوضوح، تولد حواراً ينتج من خلاله العمل الفني. بالنسبة لي فإن الأعمال الفنية عبارة عن صرخة مسكونة برسالة الفنان التي يود إيصالها لمجتمعه، وهو أيضاً خطاب مجتمعه الذي يسعى إلى إيصاله لمجتمعات وثقافات مختلفة، من هذه الصرخة يتشكل نسيج من القصص عبر الأعمال الفنية.
خارج القيود
يتأمل الفنان عمله الفني «الكُونتيسَّة الراقصة» الذي أنجزه مؤخراً، ويشرح متعته اللامتناهية عند الانتهاء من القطع الفنية، وقتها، وفي محاولة لإدراك مفاهيم المتعة البصرية سألته عن «التأويل»، كان ينظر للكونتيسة ويقول: الشكل الذي أقدمه متحرر من القيود، لا يضع المتلقي في قالب معين، لابد أن يفتح مساحة لقراءة العمل الفني إلى درجة يسقط فيها المتلقي العمل الفني على نفسه، وهو جزء مهم وحيوي من إثراء فعل الخطاب داخل العمل الفني. المشاهد يعتبر شريكاً، وهي مسألة لا تتعلق بأنني أبحث عن ما يعجب المتلقي أو يدهشه، لكني فقط أحاول أن أعطيه نوعاً من إحساس الأمان، أثناء قراءة العمل، وبعد خروجه من صالة العرض، يأخذ بالضرورة أسئلته معه، وهذا جزء مهم من رسالة العمل التشكيلي. كفنان لا أبحث عن الأسئلة بقدر ما تهمني الإجابات، فالسؤال لا يعنيني ما دمت أعيش متعة قصوى مع «الفعل» أقصد إنتاج العمل الفني نفسه، فهو طريقك للمعرفة، هذه ميزة الفعل ومن ثم تكراره، وصولاً إلى حالة من التشبع بالعمل الفني.. ربما السؤال هو: ما الذي يجعلك تستمر حتى وأنت متشبع تماماً؟!.
ارتحالات الفن والجغرافيا
«الجغرافيا» لكونها تتعلق بالتكوين، تمتلك حساسية شديدة تجعلها خطرة على مستوى التجربة الشعورية لدى الإنسان، وللفنان محمد تجربته على هذا الصعيد عبر ذهابه لأمكنة مختلفة، منها زيارته لمدينة العُلا التاريخية في المملكة العربية السعودية التي احتضنت فعالية «ديزرت إكس العلا»، الهادفة إلى ربط المجتمعات والثقافات الصحراوية من خلال الفن المعاصر، ومن هنا جاء السؤال: هل يمكن أن تتوحد الجغرافيا في حالات فنية معينة؟
كنت أريد أن أعرف كيف كان يفكر وهو يحمل «خورفكان» في داخله، أينما يذهب، وأجاب: إنها بمثابة ورشة «لاند مارك فنية»، بالطبع استوقفني المكان المفتوح والهادئ جداً، هذه المنحوتات الحجرية، كنت أراها غابات من الأحجار، فهي ليست غريبة عليّ، وهي التي تعطي للمكان دائماً طابعه الخاص. أما عن سؤالك فيمكنني القول: إننا كبشر تجمعنا أشياء كثيرة، إلا أننا نختلف في الثقافة، ونزعة الاختلاف هذه، تجعلنا نرغب في الاتصال واكتشاف الآخر. إن الارتحال إلى أماكن جديدة بالنسبة للفنان، هو اكتشاف ينقله إلى مرحلة متسامية أشبه بالتوازن، في عملية قبول التأثير والتأثر، سواء جلس يوماً واحداً أو حتى سنة كاملة في أماكن جديدة ومغايرة، فبالطبع سأرجع بمفهوم مختلف حتى عن نفسي، كما أنني لا أحمل في داخلي خورفكان فقط، بل مجتمعي بالكامل، وأستشعر مسألة أن أعيش خطاب الآخرين نحوي، سواء كان علنياً أو حتى خطاباً خصوصياً بيني وبين نفسي. وفي السياق نفسه، أرى أن الخطاب مع الآخر يُدعِّم خطاب الفنان مع مجتمعه، وأهم مسألة هي حالة القبول، حيث تصل إلى مرحلة لا يكون لديك أية مقاومة تجاه ما لا تحبه، وهو التوازن الذي تحتاجه وينعكس عليك وعلى أعمالك الفنية.
كنت أوضح للفنان محمد أحمد إبراهيم، مشكلة «السرعة» التي نعيشها في عالمنا، وتجعل أشياء كثيرة تسقط منا في الطريق، ومنها أن تتحول نظرتنا لـ«الأرض» باعتبارها شيئاً، وليس كائناً حياً، متسائلة في ما إذا كان بإمكان العمل الفني أن يجعل عبورنا أكثر تمركزاً للمكان؟
رأى الفنان محمد أنه موضوع متشعب ويحتمل أكثر من بعد، وتابع: يجب علينا أن نجاري هذا الاندفاع السريع، في محاولة لتقبله، وإلا سنفقد أشياء كثيرة في كل الحالات. أما إذا أردت -مجازياً- أن أسقط المسألة على الفن فإنه أصبح أسرع مما نتصور، فاليوم يحق للفن أن يستخدم أي وسيلة متاحة في العالم لإنتاج العمل الفني، وهو أكبر امتياز للفنان. بالطبع هذه السرعة لها إيجابيات وسلبيات كثيرة مثل أن الحركات السريعة قد تنتج موجات كاذبة بسبب استسهال صناعة الفن، إلا أن الوعي الفني، مبني على التحري والتقصي، عن الفنان وأهميته، ومن ثم إنتاجه الفني.
الفن في الأماكن العامة
المشي مع الفنان محمد داخل الاستوديو، بين قطعه الفنية، قادنا إلى فكرة الأعمال الفنية في الأماكن العامة وكيف أنها تجعل المشاهد العادي يطرح أسئلة قد تكون بدائية وطفولية، من مثل: لماذا فعل الفنان هذا الشكل؟ ما الذي يقصده؟
يقول الفنان محمد أحمد إبراهيم: إنها تعيد إحياء تلك الأشياء التي قد تسقط منا، كما أشرت في السؤال السابق، ويأتي الفنان ويلملمها من خلف المجتمع. ولأن سؤال السرعة حالة مرتبطة بالزمن، وددت لو أعرف أكثر كيف يُفكر الفنان محمد في داخل الحالة الزمنية، وبكل ثبات ووضوح قال لي: «الانهماك» حالة تفقدك جّل الإحساس باليوم. فعلياً هو مقدرة يمتلكها الفنان ليوقف الزمن تماماً، ومنها جاءت هذه الأشكال في لوحاتي التي هي العالم الذي نحن فيه. إنها موجودة حولنا وبكثرة. أنا فقط قادر على التقاطها، وهو ما يقودنا كذلك إلى فكرة الحد الأدنى من الشكل في عالم التجريد، فمثلاً كنت أرى أن الخط هو قمة التجريد، بعد البحث توصلت إلى أن النقطة قد تكون الحد الأدنى، ثم أوصلني البحث إلى أن النقطة في الأساس هي شكل تخلُّق الحركة والأشكال الأخرى عبر الزمن، إذاً هي ليست الحد الأدنى، هناك شيء آخر غير النقطة!
علم النفس والقلق وأشياء أخرى
يهتم الفنان محمد بالخامة أكثر من الشكل، قد تتضمن طين الجبل والقش وأوراق الشجر وغيرها، بينه وبين هذه الطينة صداقة لأكثر من 30 سنة، وكلما اكتشفها أكثر كانت كريمة وتعطيه من أسرارها. وهي مفاهيم فنية جعلتني أعود لدراسة الفنان محمد الجامعية في مجال علم النفس، التي اختار من خلالها أن يبني تجربته الفنية، ليوضح أن التشكيل في داخله كان دائماً أقوى في حضوره من علم النفس.
قلتُ له: مع ذلك، سعيتَ لمعرفة أثر تمسك الإنسان بالنظرية النفسية، ومدى تأثير ذلك في تشكيل الوعي المجتمعي، ومن بينها الإسقاطات الفنية، وبهدوء أجاب: النظرية هي علاج مؤقت، أو يمكننا القول إنها إجابة مؤقتة لسؤال، ولأن الإنسان ضعيف جداً، بحكم الطبيعة البشرية، فإنه يحاول أن يتقوى بأي شيء، ويستمر عليه لسنوات طويلة، لأن الإنسان يخاف وقد يكون غير مستعد للتخلي والفقد! وعلى المستوى الفني، قد نقول بأن هناك القلق وهو الحافز والوقود لاستمرار العقل البشري نحو التفكير، يستخدم الفنان التعبير الحسي، فيتجه للوحة أو الأشكال الأخرى.
الانفتاح معيار
يرى الفنان محمد أحمد إبراهيم أنه رغم غياب المقال الفني الناتج عن الحراك النقدي الغائب على مستوى الوطن العربي، إلا أن الانفتاح المعرفي على الآخر، حالياً، يستطيع أن يجعلنا قادرين على تقييم أنفسنا من خلال ما نقدمه، مبيناً أنه يستطيع الوقوف على صخرة عالية، كناية عن الوثوقية، ويتحدث عن تجربة التشكيل في الإمارات، ومدى قوتها وتماسكها، بسبب ما قدمته المؤسسات والدولة في دعم الحراك الفني، وقد يتضح ذلك جلياً في الجيل الجديد القادم، والواعي تماماً لما يود قوله وإحداثه، والذي قد يظهر -حسب تصوره- على وجه أوضح خلال الـ10 سنوات القادمة.
تهذيب الداخل
من القلق إلى الهوية أخذنا الحوار، فقال محمد أحمد إبراهيم: هوية الفنان تتجلى بصدقه في إنتاجه، وكيف يستطيع أن يحميه من الأهواء المحيطة من حوله، سواء أعجبهم ما أنجزته عبر هذه الهوية أم لا، فالصدق والإخلاص هو الأساس، إضافة إلى الإنتاجية الغزيرة وعملية الحفر المستمرة، التي تهذبك فعلياً من الداخل، وتجعل كل انفعالاتك تتساوى، وهو ما يخلق نوعاً من الإيقاع والتناغم، يكون موجوداً في اللوحة وفي كل الأشكال والخامات الفنية التي يشتغل عليها الفنان. وللأسف هناك فنانون يُحسَبون على الحراك الفني لا يستطيعون قراءة العمل الفني، وهذا يعني أنه غير صادق مع نفسه، وتجد في أعماله هوية ممسوخة، تنكشف مع الوقت.
موجات كاذبة
الفن أصبح أسرع مما نتصور، فاليوم يحق للفن أن يستخدم أي وسيلة متاحة في العالم لإنتاج العمل الفني، وهو أكبر امتياز للفنان. بالطبع هذه السرعة لها إيجابيات وسلبيات كثيرة مثل أن الحركات السريعة قد تنتج موجات كاذبة بسبب استسهال صناعة الفن، إلا أن الوعي الفني، مبني على التحري والتقصي، عن الفنان وأهميته، ومن ثم إنتاجه الفني.