من المهم أن نلاحظ ابتداءً أن مفهوم «العلوم الاجتماعية» social sciences أوسع كثيراً من مفهوم «علم الاجتماع»؛ ولذلك فإنه أحياناً ما يُستخدم ليشير إلى العلوم الإنسانية التي تشتمل على علم الاجتماع وعلم النفس وعلوم السياسة والتربية، وغير ذلك من العلوم التي تمتد من علاقات البشر بعضهم ببعض، إلى علاقاتهم بالسلطة والقانون ومؤسسات الدولة، وبكل ما من شأنه أن يوجه سلوكهم ويضبطه أو ينظمه. وعلى هذا، فإننا عندما نتحدث عن أزمة المنهج في العلوم الاجتماعية، فإن هذا يسري على علم الاجتماع مثلما يسري على غيره من هذه العلوم.
يمكننا القول بأن هذه الأزمة بدأت مع مطلع العصر الحديث، حينما نادى بعض الفلاسفة والمفكرين بضرورة اتباع نموذج المنهج العلمي في العلوم الطبيعية والرياضية، وتطبيقه في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية بوجه عام. بدأت هذه الدعوة مفتونة بنموذج المنهج في العلوم الطبيعية والرياضية الذي أفضى إلى النتائج الهائلة التي حققت ثورة حقيقية في مجال العلم. وكان فرانسيس بيكون أحد رواد هذه الدعوة، وسرعان ما انتقلت دعواه إلى مجال علم الاجتماع على يد أوجست كومت وإميل دوركايم من رواد علم الاجتماع؛ لتمتد هذه الدعوة بعد ذلك إلى مجالات العلوم الأخرى، من قبيل: علم النفس الذي بلغت فيه هذه الدعوة ذروتها وغاية تطورها مع المدرسة السلوكية.
صيحة هوسرل وربما يتساءل البعض ممن لا يزالون يسيرون على هذا النهج ذاته: وما الأزمة في ذلك؟ ومثل هؤلاء غافلون عن التطورات الهائلة التي لحقت بمناهج البحث في هذه العلوم في عصر ما بعد الحداثة. لقد كان دلتاي واحداً من الذين تنبهوا إلى أن نموذج المنهج في العلوم الطبيعية والرياضية لا يصلح لفهم ظواهر العلوم الإنسانية والاجتماعية التي يسميها الألمان «علوم الروح» Geistswissenschaften. ومن بعد ذلك أكد الفيلسوف العظيم هوسرل على هذه الأزمة في كتابه «أزمة العلوم الأوروبية»؛ إذ بين لنا أنه إذا كانت العلوم الطبيعية قد عزلت الطبيعة عن الإنسان، فإن مشكلة العلوم الاجتماعية أو الإنسانية أنها حولت الإنسان نفسه إلى «طبيعة»، أي جعلته موضوعاً يمكن دراسته بمعزل عن معناه كما يحدث في الخبرة والوعي الإنساني. وبذلك فإن المنهج في هذه العلوم قد عزل الإنسان نفسه، فأصبح مستبعداً ومنسيّاً، وفقد روحه أو وعيه وخبرته.
ولذلك، فإذا كان هناك علم للطب يداوي جراح الإنسان، فلم يعد هناك علم يداوي روحه أو يفهمها. هذه الصيحة التي أطلقها هوسرل هي ما تنبهت له العلوم الاجتماعية الأوروبية المعاصرة، حينما تبنت مناهجَ معاصرة فينومينولوجية وتأويلية، مناهج أكثر قدرة على فهم الظاهرة الإنسانية، بمنأى عن المناهج العلمية السابقة التي كانت تسعى إلى التعامل مع الظواهر الإنسانية كما لو كانت موضوعات أو ظواهر تنتمي إلى الطبيعة، ويمكن دراستها بطريقة إحصائية أو رياضية. بل يمكننا القول بأن هذه الصيحة قد انتقلت إلى بعض العلوم الطبيعية نفسها، ومن ذلك -على سبيل المثال- ما نجده الآن من توجه في علوم الطب يُعرف باسم «أنسنة الطب» humanization of medicine، وهو ذلك التوجه الراهن في علم الطب الذي يرى أن التداوي لا يمكن فهمه ودراسته بمعزل عن أسلوب العيش أو الحياة التي يحياها الإنسان، كما لو أن الإنسان كان مجرد جسد أو موضوع فيزيقي.
«الحقيقة والمنهج»
ولقد نبهَنا أيضاً إلى أزمة المنهج في العلوم الاجتماعية، فلاسفة آخرون عظام، على رأسهم الفيلسوف جادامر في كتابه الرائد الذي يعد من أمهات الكتب الكلاسيكية في الفكر المعاصر، وهو كتاب «الحقيقة والمنهج». فهو يبين لنا أن نموذج المنهج في العلوم الطبيعية والرياضية على نحو ما تأسس في عقل بيكون وديكارت، ليس هو المنهج الذي يمكن أن يقودنا إلى بلوغ فهم حقيقة الظواهر في العلوم الاجتماعية أو الإنسانية. فالمنهج هنا ليس بمثابة مجموعة من القواعد التراتبية التي يمكن من خلالها بلوغ الحقيقة، كما لو كانت الحقيقة -كما وقع في ظن ديكارت- أشبه بكنز مدفون في الصحراء، يمكن أن نعثر عليه إذا التزمنا باتباع مجموعة من الخطوات أو القواعد المنهجية. ذلك أن الظواهر الإنسانية تتطلب تأويلاً، أي تفسيراً يقوم على فهم معنى الظاهرة ذاتها، وليس تأطيرها من خلال قواعد أولية مسبقة أو مقولات وتصورات منهجية معدة سلفاً.
لقد كان من أهداف نقد هوسرل -ومن سار في إثره من الظاهراتيين والتأويليين وغيرهم- تقويض النزعة الوضعية التي سادت العلوم الإنسانية حتى منتصف القرن العشرين تقريباً؛ حيث إن هذه النزعة قد نشأت مدفوعة بالانبهار بالإنجازات التي حققها العلم في العصر الحديث، فرأت أن العلوم الإنسانية لا سبيل أمامها لكي ترتقي سوى أن تحذو نموذج المنهج العلمي السائد في العلوم الطبيعية والرياضية، وهو المنهج الذي يتوخى الموضوعية ويستبعد الذات الإنسانية (ذات الباحث وخبرته بالظاهرة المراد فهمها)، ويدعي إمكانية الوصول إلى نتائج حتمية دائماً، ويقوم على القياس والصياغة الكمية لنتائجه. ولاشك أن هذا النموذج للمنهج العلمي قد أصبح بالياً حتى في مجال العلوم الطبيعية والرياضية نفسها؛ فلم تعد فكرة الموضوعية المطلقة -على سبيل المثال- فكرة مهيمنة، ولا حتى مقبولة، في هذه العلوم. فكثير من الظواهر الطبيعية لا يمكن دراستها والتعامل معها بشكل موضوعي خالص كما لو كانت وقائع أو موضوعات مادية محضة لا شأن بالبعد الإنساني بها، ليس فقط في مجال الطب، وإنما في مجال العمران والجغرافيا والهندسة البيئية. سقوط السلوكية
أما في مجال العلوم الاجتماعية أو الإنسانية ذاتها، فقد بات تشبث هذه العلوم بنموذج المنهج التقليدي للعلوم الطبيعية أشبه بموقف هزلي عبثي... موقف من يتشبث بنموذج لم يصنعه، بعد أن تخلى عنه صانعه أو صاحبه الأصلي باعتباره غير ملائم أو ينطوي على عيوب فنية تجعله غير صالح للاستخدام في مجال العلوم الإنسانية! لقد سقطت السلوكية وسقطت معها شتى المناهج الوضعية في العلوم الإنسانية الغربية. فالظواهر النفسية -بل الظواهر الإنسانية عموماً- تتميز بالتفرد وبطابعها النوعي أو الكيفي، ومن ثم، فإن قياسها كمياً يفقدها خصوصيتها التي تضيع في البيانات والإحصاءات، وهي ظواهر يكون اطرادها أقل مما يحدث في العلوم الطبيعية، ولا يكون محتواها محايداً من جهة الوعي والإرادة والإطار الثقافي؛ ولهذا طالب كثير من علماء النفس بتبني مناهج كيفية (كالمنهج الفلسفي الظاهراتي) في دراسة الظواهر النفسية بديلاً عن المناهج الكمية التي تقوم على البيانات والإحصاءات، ولكنها تنتهي إلى نتائج تافهة كثيراً ما تتناقض إذا ما أعيدت التجربة نفسها.
المنهج الكيفي
ومع ذلك، فإن التوجه الفلسفي في العلوم الاجتماعية قد انبثق من جديد من خلال الفلسفة الظاهراتية Phenomenology وفلسفة التأويل Hermeneutics والنظرية النقدية (خاصة لدى أدورنو وهابرماس من مدرسة فرانكفورت) وهو التوجه الذي بدأ يتعاظم دوره الفاعل في العلوم الاجتماعية منذ سبعينيات القرن الماضي. وهو توجه يقوم على ما يُسمى «بالمنهج الكيفي» qualitative method، لا المنهج الكمي quantative method الذي يقوم على العد والإحصاء من دون فهم لمعنى الظاهرة التي يُراد قياسها. ولذلك، فإننا لا ندري كيف يمكن لباحث في الظواهر الاجتماعية أن يدرس ظاهرة اجتماعية ما من قبيل: الهوية أو التراث أو ما شابه ذلك، من دون أن يكون قارئاً لجادامر أو هابرماس أو ليفناس أو دريدا، على سبيل المثال. ونتيجة لغياب مثل هذه المعرفة، فإن مثل هذا الباحث يبدأ من فروض ومسلمات متضاربة دون أن يتفحص معناها وأبعادها المتداخلة فلسفياً؛ ولذلك يظل الموضوع غير واضح في ذهنه (رغم النتائج المنمقة التي يصوغها في صورة كمية).
غياب المنحى الكيفي
إن الأمثلة على ذلك يمكن أن نجدها على الدوام في البحوث التي يقوم بإعدادها الباحثون في مجال العلوم الاجتماعية: فهذا باحث يريد -على سبيل المثال- أن يدرس ظاهرة الشعور بالاغتراب لدى الشباب، من خلال ملء بعض الاستبيانات التي يكون مطلوباً فيها عادةً الإجابة عن بعض الأسئلة أو تحديد بعض المواقف من خلال الإجابة بـ«نعم» أو «لا» أو «إلى حد ما»؛ ليقوم بعد ذلك بتفريغ نتائج البحث في صورة إحصائية، متصوراً بذلك أنه درس حقيقة الظاهرة بشكل علمي. ولكن لو سألت هذا الباحث: ماذا تعرف أولاً عن معنى «الاغتراب»؟ فإنه سيجيبك إجابة مقتضبة تتمثل في التصور أو الافتراض الذي وضعه مسبقاً لهذا المعنى، دون أن يعرف هذا الباحث أن الاغتراب ليس بظاهرة واحدة، وإنما الاغتراب أنواع؛ وبالتالي فإنه لا يعرف حقاً ما يريد قياسه أو معرفته. وذاك باحث آخر يريد أن يدرس الفروق في الذوق الجمالي بين أبناء الريف وأبناء الحضر، على المنوال نفسه الذي يقوم على استبيانات القياس المعدة سلفاً. فإذا سألنا هذا الباحث أيضاً: ماذا تعرف عن معنى الذوق الجمالي؟ وهل قرأت شيئاً من مئات المجلدات التي كتبها الفلاسفة عن معنى الخبرة الجمالية التي تريد قياسها؟ لأصابته عندئذ الحيرة، وفغر فاه.
هكذا يكون تأثير غياب المنحى الكيفي في مجال البحث في العلوم الاجتماعية. وعلى الرغم من أن هذا المنحى قد بدأ يتعاظم شأنه في الغرب منذ سبعينيات القرن الماضي، فإنه يتقدم على استحياء في الدراسات العربية.