تمتاز الثقافة اليابانية، كما فنونها التقليدية، بقدر كبير من التقشف والبساطة والدقة والتجريد والهدوء والانطوائية والحزن.. وهي الميزات التي يتلقفها الإنسان الغربي بإحساس قوامه لامبالاة قد تبلغ حد الاستخفاف. ولنذكّر في هذا الصدد بالبستان الشهير للزان في كيوتو، بمعبد «رييو-آن»؛ فهذا البستان الذي يتألف من سرير من الحصباء الممشطة، ومن خمسة عشر جلموداً محاطة جميعها بالطحالب، يعد عند متصوفة الزن صورة للكون بأجمعه، تمثل فيه الحصباء الممشطة.. الأنهار والمحيط، والجلاميد.. الجبال. ولا تولّد رؤية تلك العناصر لدى الإنسان الأوروبي غير انطباع باليباس والكآبة، لخلوها تماماً من الماء، ولانعدام أية علاقات بشرية حميمة فيها، ولا أية زينة قد تستعذبها العين. وذلك مشهد هو بعيون غربية فضاء مقفر وبالغ الإيحاء. ومع ذلك ففي مثل ذلك الفضاء المجرد تحديداً ينبثق الإحساس بالجمال في الثقافة اليابانية.

يرى «داستسو سوزوكي»، المعروف عالمياً كأفضل من كتب عن بوذية الزن، أن فلسفة الزن كان لها تأثير عميق في كل مناحي الحياة الثقافية في اليابان، وذلك مذ عرفت اليابان تلك الفلسفة في عصر كاماكورا (القرن 12). ونُعرّف الزن بداية، على أنه فن الحدس والتعـاطي مع الفراغ. ولنضف من الآن أن ذلك الفراغ هو أيضاً الحياة، لأنه في فلسفة الزن، ما من شيء إلا ويولد من الفراغ وإلى الفراغ يعود. ويقول أحد معلمي الزن في هذا المعنى: «إن الفراغ هو حالة الامتلاء، وإن حالة الامتلاء لهي الفراغ»؛ وكذلك هي الحديقة اليابانية الصغيرة التي تحيل عند متصوفة الزن على الكون بأكمله.
والهايكو، هو ذلك القصيد القصير المكوّن من سبعة عشر مقطعاً صوتياً، والذي قد نرى فيه المعادل لتلك الحديقة؛ فهو قصيد بالغ الاختزال ولا يمثل غير لقطة أو لمعة من الحياة، ولكنه يكون قادراً في ذات الوقت على إحداث رعشة لانهائية في قلب الإنسان.
لنحاول، مقتفين أثر الفيلسوفين «داستسة سوزوكي» و«هايجين كاي هاسيغاوا»، ولوج هذا العالم.. عالم الهايكو، لنستشف مكانته في فلسفة الزن باليابان.

الحدس والمنطق
تدعونا فلسفة الزن إلى تنمية حدس جوهري بالحياة، حدس يتعارض تماماً مع التمشي الفكري النابع من اللغة والمنطق؛ فالآداب والمعارف والعلم والمفاهيم ينتمي جميعها عند الزن إلى ظلامات الجهل وإلى التشبث بحب الذات، تلك الصفات المعيبة التي تحول دون انبثاق المعرفة المتسامية. لذا وحتى يتيسر له الإفصاح، يلتزم متصوف الزن بالصمت، الذي يتعارض تماماً مع كل أنساق التفكير العقلاني.
وبدافع من تلك الاعتبارات ترفض فلسفة الزن بصورة قطعية اللغة والمنطق، لأنهما لا يسمحان بالقبض على ما هو جوهري في الأشيـاء، وعاجزان عن الإمسـاك بتلك الأشياء في كليتها، لاعتمادها المنهج التحليلي والتركيبي في البحث عن الحقيقة. فهي بعبـارة أخرى تربك التجربة المباشرة للحياة، وتكون كالمال الذي ينفق لشراء لباس، ولا يوفر للإنسان الدفء بشكل مباشر.
غير أنه لتبليغ فكرة ما، لا محيد لنا عن استخدام اللغة، فكيف حسم متصوفة الزن هذه المسألة؟ لابد من التأكيد هنا، أن الحوارات عند هؤلاء المتصوفة، هي دوماً حوارات خالية من كل معنى ظاهر.
وفيما يلي مثال على ذلك: حوار بين مريد ومعلمه عن البوذا:
المريد: ما هو البوذا؟
المعلم: إنه البوذا.
المريد: ما هي الطريق؟
المعلم: هي الطريق.
المريد: ما هو الزن؟
المعلم: إنه الزن.
فلا أثر هنا لأي شرح، لأن المطلوب هو ليس التفكير، ولأن الكلمات ليست سوى وسيط غير مباشر، أو وسيلة تقوم على تفكير عقلاني ومنطقي يفترض وجود طرف متكلم وشيء ما يتم الحديث عنه، بينما يكمن جوهر الأشياء في الفصل بين هذين الطرفين. فالحدس وحده يسمح بإدراك ذلك دونما التفاف فكري.
ولنأخذ مثالاً آخر قد نلامس فيه روح الزن، وهو مثال على علاقة وثيقة بالرسم. لقد سأل مريد معلمه عن كيفية رسم قصبة خيزران؛ وكانت هذه إجابة المعلم: «لترسم قصب الخيزران مدة عشرة سنوات، وبعد ذلك دعك تنسى كل ما تعلمته، لتغدو أنت ذاتك.. تلك القصبة». كان على المريد حينئذ أن يمسك دونما وعي منه بماهية قصبة الخيزران أو بروحها. كان عليه، بعبارة أخرى، أن يتفاعل بانسجام مع حركة إيقاعية للفكر كامنة على حد سواء في الرسام ذاته (الإنسان) وفي قصب الخيزران. ومن هذه الزاوية يكون الأمر كما لو كان ثمة تراسل أو حالة انصهار بين الفاعل والموضوع. غير أنه في فكر الزن، يعتبر التمييز بين الكيانين حالة لاحقة، تكون قد سبقتها حالة من التوحد؛ أو بصورة أدق، لن تكون هناك حالين، وإنما شيء واحد، يكون فيه الفاعل هو الموضوع والموضوع هو الفاعل. وقد نعمق وجهة النظر تلك متى تناولنا فكرة الفراغ عند المتصوفة الزن.
لنتصور في المثال الثالث، حواراً متخيلاً لباشو، أعظم شعراء الهايكو، مع معلم من معلمي الزن.
وقد عُرف باشو خاصة بالهايكو التالي الذي أحدث ثورة حقيقية في كتابة هذا النمط من الشعر:
إيه.. البِرْكة القديمة
ضفدعة تنط
صوت الماء

والحوار الموالي يتعلق تحديداً بهذا الهايكو الشهير:
معلم الزن: ما الذي يحدث اليوم؟
باشو: بعد المطر.. غداً الطحلب مبللاً
معلم الزن: أي عالم كان موجوداً قبل نشأة الطحلب؟
باشو: كان ثمة ضجيج.. أحدثته ضفدعة نطّت وسط الماء.

بصورة عامة، يعد هذا المقطع الشعري الثلاثي مترجِماً عن حالة هدوء وسكينة، تشي في أجواء يغشاها الصمت، بروعة ذلك العالم، الذي كان يبدو شديد التباين مع الضجة التي أحدثتها الضفدعة. غير أن هذا الحوار، مهما بدا غامضاً، فإنه يبين أن الأمر يتعلق بالمشهد الأصلي للعالم قبل الخلق. لقد غدا الطحلب الآن مبللًا، ويحملنا هذا على التساؤل عن حاله قبل وجود عالمنا البائد. وقد تأتي إجابة باشو على هذا النحو: لقد وجدت البركة القديمة بصورة دائمة في العالم الأبدي؛ إنها أقدم من كل الأشياء الضاربة في القدم، بينما تعد حركة الضفدعة جزءاً من حدث آني، خــاص وذاتي. فصوت الماء هو الذي أحدث الاختلاف بين العالمين، بين الأنا والطبيعة. وليس التفكير هو الذي سمح بتخيّل المشهد الأصلي؛ كما أنه ليس بوسع الإدراك أن يطال أصل الحياة ذاك، لأن التفكير العقلاني على درجة من البطء لا تسمح له بالقبض على تلك الطراوة المنخطفة والاستمتاع بتلك الحال السابقة للخلق. ولكن قد يلهمنا هذا الحوار، مثل ما هو الشأن بالنسبة لفلاسفة الزن، إحساساً حاداً بالأبدية المنطوية في تلك اللحظة المنخطفة، أي في الصوت الذي أحدثته الضفدعة وهي تنط وسط الماء.
هكذا تدعونا حوارات الزن إلى تجاوز مستوى الوعي والدخول بصورة حدسية في الفراغ.

فراغ الزن
يشكل الفراغ الأساس المتين لفلسفة الزن وركنها الركين. وقد تم اكتشاف فكرة الفراغ تلك، كما مفهوم الصفر، في الهند. ففي ما يتعلق بالصفر، كان فلاسفة الزن يرون أن كل الأرقام قابلة للاختصار في الصفر الذي هو أساس الحساب؛ وكذا الشأن بالنسبة لفراغ الزن، إذ كانوا يرون أن كل الأشياء في هذا الوجود يمكن أن تختصر في الفراغ، الذي هو أسـاس كل تلك الأشياء؛ ففي الفراغ ليس ثمة من ثنائية قد تجعلنا نميز بين الفاعل والموضوع، بين الذاتي والموضوعي، بين السبب والنتيجة، بين الرب والإنسان، بين الواحد والمتعدد، بين المتعدد والواحد...
ولنشر هنا إلى أن الأمر لا يتعلق بعملية انصهار بين كيانين من مستويات مختلفة، وإنما بحالة هذين الكيانين قبل أن ينفصلا عن بعضهما بعضاً؛ بعبارة أخرى، لا يكون العالمان، ولنقل الداخلي والخارجي، متماثلين، فالعالم المذهل هو عالم المثال، وعالم المثال هو عالم المذهل. والأنا واللاأنا قابلان للتبادل طالما أنهما يشكلان في ذات الوقت.. المطلق والإنسان. ويبدو هذا الأسلوب من التفكير متناقضا مع العقل الغربي، الذي يحرص الزن على تجاوزه؛ فأي شيء من الأشياء، قد يبدو في آن فرديا ومطلقا؛ فمتى كان فرديا، غدا متناقضا، لتأثره بعاملي الذاتية والموضوعية، والحياة والموت. ومتى كان مطلقا، فإنه سوف يظل بصورة آبدة ساكنا، وموجودا من ذاته.
وقد يدعونا ذلك إلى التساؤل: ألا توجد حالة شبيهة لذلك في الفكر الغربي؟ إني لأرى أن الإحساس المزعوم بالوجود الذي أفصح عنه جان جاك روسو في «أحلام جوال منفرد»، قد لا تسمح بغير فهم غائم لفكرة الفراغ عند الزن. ولنذكر هنا أن روسو، بجزيرة سان بيير، كان قد تماهى، وهو مستغرق في أحلامه المبهجة، مع الطبيعة:
«بحلول المساء، كنت أنزل من على مرتفعات الجزيرة مبتهجاً، فأجلس على حافة البحيرة عند ملجأ سري؛ هناك.. كان صوت الموج وهيجان الماء يثبتان حواسي، يطردان عن روحي كل ضجة أخرى، ويغمرانها بأحلام حلوة.. لذيذة (...). كان مد الماء المتواصل وجزره يطرقان بلا هوادة أذني ويقرعان بصري.. ليستكملا النبض الداخلي الذي كانت أحلام اليقظة تسكنه بداخلي؛ وكان ذلك كافياً كيما أشعر دونما جهد مني، بسعادة غامرة».
نلمس هنا اختفاء التمييز بين العالمين.. الداخلي والخارجي، إذ كانت حركة الماء وما تحدثه من أصوات.. تتناغم ونبض القلب. وقد نقول بلغة متصوفة الزن إن الأنا غدت هي الطبيعة، وإن الطبيعة غدت هي الأنا. وفي تلك الحال لن يكون ثمة غير حاضر أبدي، أو بالأحرى لن يكون ثمة من زمن.
ويردف روسو قائلًا: «تلك حالة كانت الروح تجد فيها متكئاً وثيراً تسترخي فيه وتستجمع كيانها، دون أن تكون بحاجة إلى تذكر الماضي ولا تخطي المستقبل؛ هناك حيث ينتفي حضور الزمن ويتواصل الحاضر وليس فيه من إحساس بالفقد أو بالمتعة، بالفرح أو بالكرب، بالرغبة أو بالخوف، غير ذاك الذي قُدّ منه وجودنا، والإحساس بأنه وحده القادر على ملئه بالكامل؛ ومتى استمرت تلك الحال، فذلك الذي سينعم به، يمكن أن يعد سعيداً، وسعادته تلك لن تكون منقوصة وبئيسة، كتلك التي تمنحها متع الحياة، وإنما سعادة وافية وتامة، لا تخلف في الروح أيّـما فراغ يجعلها بحاجة إلى ملئه».
لنتوقف عند ثلاث نقاط من هذا المقطع الرائع:
أولاً، في ما يتعلق بالزمن، تثير أحلام اليقظة لروسو، نفس الإحساس بالفراغ الذي نجده عند الزن، بالنظر إلى أنه لا وجو في تلك الحالة لفكرة الديمومة؛ «فالحاضر مستمر ويشي بأنه حالة آبدة. وفي المقابل، ورغم امحاء الحاجز بين الأنا والعالم الخارجي، يبقى الوعي بالأنا حاضراً ليومئ إلى إحساس بالوجود.
ثانياً، فحتى إن تحدثنا عن امحاء الأنا، فإن تلك الأنا تظل فاعلة ومحفّزة للإحساس، وإلا فلا شيء قد يوجد في أحلام اليقظة. وأما في الفكر الياباني، فإن الأنا، غالباً ما تتلف وتضمحل، ولنذكّر في هذا الصدد بنصيحة معلم الزن بخصوص قصبة الخيزران.؛ فلكي ترسم قصبة الخيزران، ينبغي لك أن تستحيل أنت قصبة خيزران، لأن الأنا وقصبة الخيزران هما نفس الشيء في الحقيقة.
ويحيلنا هذا على النقطة الثالثة؛ فعند روسو ثمة تعارض صريح بين حالة الامتلاء وحالة الفراغ؛ فالسعادة حالة امتلاء، تكتفي فيها الأنا بذاتها ولا يعتريها أي فقد؛ إنها حالة اكتفاء مطلق لا تخلف على حد قول روسو «أي فراغ في الروح». بينما في فكر الزن، فإن تلك الحالة المطلقة تسمى على وجه الدقة بحالة الفراغ، التي هي في ذات الوقت حالة امتلاء. إنها حالة مبهمة ينتفي فيها الإحساس بالوجود.
يكون الفراغ عند الزن حينئذ هو الحالة الأصلية المطلقة، ومن ثمة يبرز الاختلاف بين الوجودين المتعارضين وغير المطلقين: الأنا والعالم الخارجي، الفاعل والموضوع، الواحد والمتعدد، الوجود واللاوجود، الإيجابي والسلبي، القلب والجسد. إنه الموت وهو في ذات الوقت الحياة. فكل شيء ينبثق من ذلك الفراغ وإليه يعود.

انشطار الأشياء
يصف الهايكو مشهداً عادياً أو يقوم بِمسْح منخطف لمنظر طبيعي، ولكن شاعر الهايكو يفصح فيه أيضاً عن إحساس حدسي بعظمة الخلق، ويكون ذلك البعد الثنائي في الأشياء (الحسي والأبدي) مماثل للفراغ عند الزن؛ وبعبارة أخرى، فإن الهايكو يعبر عن رؤية للوجود هي ذاتها لدى جماعة الزن. فعلى المستوى الجمالي يكون للبساطة والتقشف رنين يتردد إلى ما لا نهاية، وتلك الطبيعة الثنائية هي مفتاح الجمال الشفاف والعميق للهايكو. ولعله من المهم التوقف عند هذا الجنس من الشعر الذي ألهم عديد الشعراء الفرنسيين وحفزهم إلى إبداع الشعر الجديد.
لنعد من جديد إلى قصيد الضفدعة الذي ألفه باشو سنة 1686، والذي ترك بصمة وضاءة في تاريخ كتابة الهايكو. لم يكن الهايكو قبل باشو سوى لعبة كلمات تحيل على نصوص أدبية ذات طابع ظريف. وكان الهايكــو حينها لا يصنّف باعتباره جنساً أدبياً قادراً على الإفصاح عن إحساس كوني. وبقصيد الضفدعة، توفق باشو في صياغة ضرب جديد من الهايكو شبيه بالتيقظ الروحاني عند الزن. ولنعد إلى قراءة هذا القصيد الذي بات أشهر هايكو في تاريخ الشعر الياباني:
إيه.. البركة القديمة
ضفدعة تنط
صوت الماء
لا بد من الإشارة أولا أنه في اللغة اليابانية، لا يتم دائماً تحديد عدد الأسماء، حتى أنه قد يتعذر معرفة عدد الضفادع وعدد الأصوات التي نسمع. وإذا كُنتُ قد أوردت الشيئين بصيغة المفرد على غرار أغلب المترجمين، فذلك لأن الصمت والسكون المعبر عنهما في هذا القصيد يتناسبان أكثر مع فرادة الضفدعة والصوت الذي أحدثته. ويكشف الصوت هنا عن الصمت، وخاصة أن هذا الصمت هو صمت عميق.
يعرض لنا هذا الهايكو مشهداً بالغ البساطة: في بركة قديمة، لاشك أنها تقع في عمق الغابة، تنط ضفدعة وتحدث صوتاً حين حرّكت الماء. وعند متصوفة الزن، فإن العالم بأكمله يمكن أن يختصر في تلك اللوحة المجردة من كل زخرفة أو توشية، وفي ذلك التصوير الواقعي، الذي يثير في عالم الباطن إحساساً بالسكينة والحزن، كشف عنهما صوت ضئيل أحدثته ضفدعة صغيرة.
(...)
ثمة عالمان، عالم البركة وعالم الضفدعة. وقد أشار أحد مريدي باشو إلى هذه الحقيقة؛ فذكر أنه في نهاية شهر مارس 1886، وفي بيت صغير لباشو يقع بالقرب من نهر سوميدا إيدو، كان المعلم يجتمع ببعض مريديه لتأليف قصائد قصيرة، على وقع أصوات الماء التي كانت تحدثها الضفادع؛ حينها قام باشو بتأليف البيتين الثاني والثالث من ذلك المقطع الشعري الثلاثي. وكانت تلك الذكرى توحي بوجود عديد الضفادع وبالتالي عديد الأصوات. وبعد فراغ المعلم من تأليف هذين البيتين، اقترح أحد المريدين صيغة للبيت الأول: «إيه.. الورود الصفراء..» ليقيم علاقة بين تلك الورود ونقنقة الضفادع المبشرة بقدوم الربيع.
وقد أحدث باشو تجديداً في أسلوب كتابة الهايكو حين تحدث عن صوت الماء بالنسبة إلى الضفدعة، وقد نذهب إلى حد القول إن مدرسة باشو كانت يومها بصدد تجديد التقليد الناظم للشعر، الذي يكون مقنناً بصورة صارمة، ودائماً داخل شبكة من نصوص أدبية أخرى. على أن باشو لم يقبل اقتراح المريد، واقترح كبيت أول «بركة قديمة». وتبين هذه الحادثة بشكل واضح وجود قطيعة بين البيت الأول والبيتين الثاني والثالث، وأن العلاقة بين البركة وقفزة الضفدعة تشي بأنهما لا ينتميان إلى نفس الحدث.
ولنعد من جديد إلى البركة؛ كان باشو ومريدوه ينصتون إلى تلك الأصوات وهم داخل البيت ودون رؤية الضفادع؛ وأثارت تلك الحالة لديهم التساؤل التالي: أين تكون تلك الضفادع قد قفزت؟ ولنكرر أن باشو لم يرَ الضفادع وهي تغطس في البركة، وأنه تبعاً لذلك لم يسمع صوتاً للماء. وفي تلك اللحظة تواردت صورة البركة القديمة في ذهن الشاعر؛ لم يكن للبركة من وجود حقيقي، إذ كان لا وجود لها إلا في قلب الشاعر؛ وبالتالي فإنه ببيت «البركة القديمة» يكون عالم القلب هو الذي انفتح بالنسبة لباشو، وبالنسبة لتاريخ الهايكو.
وإذا كان يقال أحياناً إن هايكو الضفدعة هو الذي أسس لمدرسة باشو، فذلك لأن صوت الماء في العالم المادي كان يكشف، بـ«البركة القديمة»، عن عالم القلب فيقوم بإنعاشه. ندرك حينئذ أن القصيد لا يعني أن «ثمة ضفادع تغطس في بركة قديمة، وأننا ننصت إلى صوت الماء»، وإنما صوت الماء الذي نسمع في غمرة الصمت المخيم، هو الذي فتح عالماً متخيلاً في ذهن القارئ. هنا يرتبط العالمان ويتماهيان بصورة منكتمة، حد أننا لن نلمس أي انقطاع بينهما. فهذان العالمان يشكلان في الحقيقة عند الزن عالماً أوحد.
لقد غدا فن الهايكو جزءاً لا يتجزأ من الفنون اليابانية بما استُودع فيه من جمالية باهرة ورشاقة آسرة، وبما انطوى فيه من بساطة بالغة وتقشف في الإفصاح عن حالات روحانية أنيقة.. سامقة. وقد مسك بول كلوديل بالطبيعة الثنائية للهايكو:
«يتألف الهايكو بصورة أساسية من صورة جوهرية ومن رنينها في الكيان، فتغشانا ومضاته مثل لمع مجللة بهالة روحانية بالغة البهاء والشفافية».
لا شك في أن كلوديل يظل مستنداً إلى تلك الثنائية التي تميز الفكر الغربي، فيميز تبعاً لذلك بين الصورة المرئية والهالة الروحانية، فيما تشكل تلك الصورة وهالتها، في الحقيقة، كلاً غير قابل للتجزئة. وكم يبدو مارسيل بروست قريباً من كلوديل حين انتقد التباس الشعر:
«هل إن الطبيعة تحجب عنا الشمس أو آلاف النجوم الملتمعة بلا أحجبة، تلك النجوم التي يراها الجميع، ساطعة ومبهمة؟ ألا تجعلنا الطبيعة نلمس بشكل قاس جبروت البحر ورياح الغرب؟ إنها تجعل أثناء عبورها الأرض، كل إنسان يفصح بجلاء عن أكثر ألغاز الموت والحياة غموضاً وغرابة. (...) وينبغي لي أن أشير خاصة إلى ضوء القمر، حيث تحيل الطبيعة منذ قرون، ورغم تلألؤ ذلك القمر بلطافة على الجميع، الظلمة ضياء، وتعزف على وتر الصمت موسيقاها السرية».
بإمكان هذه الخاطرة البروستية أن تقودنا إلى شفافية عالم الهايكو؛ إن الطبيعة لا تخفي شيئاً.. وليس ثمة في هايكو باشو غير ضفدعة، ولا شيء يبدو في هذا الهايكو غامضاً كما هي كلمات بروست. وحتى ألغاز الحياة فإنها تبدو ظاهرة وبينة. ولكن قد تذكرنا تعابير بروست: «تحيل الظلمة ضياء» و«تعزف على وتر الصمت موسيقاها السرية»، بمحاورات الزن وتكشف لنا عن روح الهايكو.
دون أن تكون لنا معرفة ببوذية الزن، ندرك أن الهايكو هو دعوة إلى ولوج أسرار الحياة والطبيعة، حيث يندمج في قلب الإنسان عالم الحس وعالم الروح ليشكلا عالمًا أوحد، كما هو الشأن في حديقة الزن بمعبد ريو ـ آن بكيوتو. فيما تبرهن أمثلة كلوديل وبروست عن إمكانية أن ينبض قلب الإنسان الغربي بشكل يجعله قادراً هو الآخر على الإمساك بروح الهايكو، ليرفل بملء كيانه في جمال هو في ذات الوقت شفاف وعميق.

المعلم
باشو، واسمه الأصلي ماتسوو مانوفوسا عاش بين 1644 و1694م هو شاعر ياباني، ومعلم شعر الـ«هايكو» الأكبر بلا منازع، كان أيضاً بارعاً في شعر النثر الياباني أو «هايبون». ويشكل مع كل من «شيكاناتسو مونزا-إيمون» و«إهارا شائيكاكو» أعمدة الأدب الياباني في الفترة التي عرفت بـ«قرن أوساكا الذهبي».
ينحدر «باشو» من إحدى العائلات المحاربة (ساموراي)، وقد تلقى تربية تقليدية، وأصبح وهو في سن مبكرة تحت تصرف أكبر أبناء سيد المعقل الذي ينتمي إليه. وفي عام 1681م فضل حياة العزلة، فانزوى بالقرب من «إيدو» (طوكيو اليوم) في مكان أطلق عليه اسم «صومعة شجرة الموز» (باشو-آن)، ومنها استمد لقبه (باشو) والذي يعني شجرة الموز. قام بدراسة مذهب زن البوذي، وبدأ في ممارسة التأمل.
كرس «باشو» السنوات العشر الأخيرة من حياته للترحال والتأمل. وبالإضافة إلى أشعاره ترك العديد من المصنفات عن مشاهداته أثناء تجواله في البلاد.
رفض باشو أن يعلن انتماءه إلى أي من المدارس الشعرية، ولم يترك وراءه أي مصنف في هذا الفن. قام مريدوه بتجميع أهم أعماله، ومن أهمها المصنف المعروف باسم «الدرب الضيق في أقصى المعمورة».

العرّاف
ولد جان جاك روسو في جنيف، 28 يونيو 1712، وتُوفي في إيرمينونفيل، 2 يوليو 1778، وهو يعد من أهم كتاب عصر التنوير. ساعدت فلسفة روسو في تشكيل الأحداث السياسية، التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية.
تتسم آخر أعمال روسو بالإحساس بالذنب وبلغة العواطف. وهي تعكس محاولته للتغلب على إحساس عميق بالنقص، ولاكتشاف هويته في عالم كان يبدو رافضاً له. حاول روسو في ثلاث محاورات صدرت أيضاً تحت عنوان قاضي جان جاك روسو كُتبت في المدة بين عامي 1772-1776م، ونُشرت عام 1782م، الرد على اتهامات نقاده، ومن يعتقد أنهم كانوا يضطهدونه. أما عملُه الأخير، الذي اتسم بالجمال والهدوء، فكان بعنوان «أحلام اليقظة للمتجول الوحيد» (كُتب بين عامي 1776 و1778م، ونُشر عام 1782م). كذلك، كتب روسو شعراً ومسرحيات نظماً ونثراً. كما أن له أعمالاً موسيقية من بينها مقالات كثيرة في الموسيقى والمسرحية الغنائية (أوبرا) ذات شأن تسمى «عرّاف القرية»، و«معجم الموسيقى» (1767م)، ومجموعة من الأغنيات الشعبية بعنوان «العزاء لتعاسات حياتي» (1781م). وفضلاً عن ذلك، كتب روسو في علم النبات، وهو علم ظل لسنوات كثيرة تتوق نفسه إليه.

....................................................
هيساشي ميزونو
* أستاذ في الأدب الفرنسي بجامعة كوانساي في اليابان، و مختصّ في جيرار دي نرفال؛ أصدر خمسة عشر كتاباً عن أدب نرفال، ومؤلّفات كثيرة تناول فيها التّأثيرات المتبادلة بين الأدب الفرنسي والأدب الياباني.