تبقى الأسئلة الفلسفية مطروحة دائماً برغم تطور الحياة الإنسانية، وحدها الإجابات هي التي تتغير، ولقد أوصى الدكتور مصطفى محمود بقراءة الفلسفة قائلاً: «أنت في حاجة إلى قراءة الفلسفة والشعر والقصص، في حاجة إلى فتح ذهنك على الشرق والغرب، ليحصل الذهن على التهوية الضرورية فلا يتعفن، وستفهم نفسك من خلال الناس الذين تقرأ لهم، وإذا فهمت نفسك فقد وضعت نفسك على بداية الطريق وعرفت من أين يكون المسير»، لكن قراءة الفلسفة لا تخلو من الصعوبات، إذ تحوي الفلسفة على الأفكار المثيرة للجدل التي شغلت بال الفلاسفة والنظريات المتعلقة بالمشاكل الفلسفية، لها مصطلحات خاصة ومدارس فلسفية متعددة، ومن الصعب فهم تلك الأفكار الفلسفية الشرقية والغربية دون التعرض للتاريخ المرتبط والاتجاهات الفكرية المتعددة والأديان، لكنها رغم صعوبتها تحقق لنا المتعة والمعرفة والحكمة.

قد تكون رواية «عالم صوفي» الشهيرة لكاتبها جوستاين غاردر أبسط مدخل لقراءة الفلسفة، إذ تتناول قضايا فلسفية في أحداث روائية. وأن تقرأ الفلسفة لا يعني أن تقرأ الكتب التي تحب فقط، بل ستكون بحاجة لقراءة الأعمال الأدبية والفكرية التي ترتبط بالفلسفة، بالإضافة إلى قراءة العلوم الاجتماعية والتاريخ والأديان، وقد وجدت نفسي استمتع بقراءة كتاب «السعي إلى المكانة» للكاتب آلان دو بوتون هذا الكتاب الفلسفي المحدث الذي يناقش قيم ومفاهيم الفلسفة بطريقة تفاعلية معاصرة.
الخطاب الذي يقدمه دو بوتون من النوع السهل الممتنع، وما يميز كتاباته هو اهتمامه بالجانب العملي لتلك الأفكار الفلسفية، فهو يبحث ويناقش طرق تطبيقها في حياتنا اليومية، لهذا قام بتأسيس «مدرسة الحياة» العالمية في لندن عام 2008، والتي تهدف إلى تطوير الذكاء العاطفي وممارسة التطبيق العملي لعلم النفس والفلسفة والثقافة في حياتنا اليومية، يتعلم المشاركون فيها كيفية إجراء محادثات أفضل مع الآخرين، وإقامة التوازن بين العقل والقلب ومشاركة المشاعر في عملية اتخاذ القرارات بطريقة مدروسة، كما توفر المدرسة بيئة مناسبة لمناقشة أسئلة وجودية مهمة تتعلق بكيفية إدارة العلاقات وإطالة عمر الحب، ومواجهة الموت ومشاعر الفقد.
وبهذا تحققت المقولة التي تصف من اختبر الحياة بمواقفها وتجاربها بأنه تخرج من مدرسة الحياة، وتحولت إلى واقع ملموس يبني الأفكار الإيجابية في المجتمع ويتعلم فيها كل شخص مهارات الحياة من خلال المناقشات الفلسفية والتطبيقات العملية في ورش تعليمية، كما فتح لتلك المدرسة فروعا كثيرة في عدد من الدول والعواصم مثل باريس، اسطنبول، سيول، امستردام، ملبورن، سيدني وريو دي جانيرو.

المكانة والتضحية
وفي كتابه «السعي إلى المكانة» يتساءل دو بوتون: هل يستحق البحث عن المكانة أن نقدم كل تلك التضحيات؟ إذ ثبت أنه من المستحيل الاحتفاظ بثقتنا في أنفسنا ما أن يتوقف الآخرون عن منحنا أمارات الاحترام، وقد لاحظ الفلاسفة منذ أمد بعيد أننا حين نشرع في تقصي آراء الآخرين وامتحانها، نتوصل غالبا إلى اكتشاف يحزننا، وفي الوقت ذاته يحررنا على نحو مثير للفضول. واستطرد الكاتب لشرح وجهة نظره المقنعة: «سوف نفطن إلى أن آراء أغلب الناس حول أغلب الموضوعات تحفل بثغرات استثنائية من الخلط والخطأ، قد يكون من المؤلم الإقرار بفقر الرأي العام، ورغم هذا الفعل نفسه قد يهون بطريقة ما قلقنا بشأن المكانة، ويخفف من رغبتنا المنهكة في التأكد من أن الآخرين يروننا بعين الرضا ويهدئ من لهفتنا المذعورة على أمارات الحب»، لهذا يدعونا الفلاسفة أولا لأن نمتحن مدى إنصاف سلوك الآخرين نحونا، فلا ينبغي أن نسمح لأي إدانة خارجية أن تحطم احترامنا لأنفسنا، وعلينا أن نسأل أنفسنا إن كانت أراء الشخص تستحق الإنصات إليها من الأساس.
بعد تلك المقدمة التي شرح من خلالها الكاتب معنى المكانة، يأخذنا هذا الكتاب الفلسفي في رحلة للبحث عن أسباب قلق السعي إلى المكانة والحلول، حيث يتناول الكتاب جذور وأسباب القلق الذي يتخذ أشكالاً شتى باختلاف المجتمعات والحضارات لبلوغ مكانة مرتفعة، فنجد الفرد يسعى إلى مجاراة قمم النجاح التي وضعها المجتمع لنيل شرف المنزلة والاعتبار، لأن صورتنا الذاتية تعتمد بشدة على ما يراه الآخرون فينا.
ونجد أن الكاتب يقوم بزعزعة الأسس التي تبدو في أول الأمر راسخة وكأنها عمل من أعمال الطبيعة، ثم يرصد تحولاتها من عصر إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، حتى يتأكد تدريجيا لدى القارئ نسبيتها وهشاشتها وربما جدارتها بالسخرية والتجاهل، ثم يدعو القارئ إلى تجاوز الأوهام الزائفة للمكانة الاجتماعية عبر اجتهادات إنسانية متنوعة في خمسة دروب أساسية هي: الفلسفة والفن والسياسة والدين والبوهيمية.

القلق والحب
أول وأهم أسباب السعي إلى المكانة في المجتمع هو افتقاد الإنسان للحب والقلق النفسي، فقد تجد بعض البشر يسعى طوال الوقت لسماع كلمات الثناء والإعجاب ورؤية نظرات الانبهار من الآخرين، بسبب جهله في الغالب لقيمته الخاصة لأنه يستلهمها من انطباع الآخرين وحبهم، وهذا ما يفسر بعض الظواهر الاجتماعية مثل اقتناء السلع ذات الأهمية الفريدة، ويفسر سعي الإنسان نحو المال والسلطة أو الشهرة لكي يشعر بالحب، فهو من دون تلك المحبة لن يكون قادرا على الثقة في شخصيته.
وقد أشعلت وسائل الإعلام الجديدة في قنوات التواصل الاجتماعي أشواقا في النفوس ليس فقط عبر محتواها ولكن أيضا عبر الإعلانات التجارية عن كل شيء وأي شيء، حيث تزايدت فرصة الاطلاع على حياة المشاهير وتفاصيل مقتنياتهم وقدرتهم المادية، مع ظهور فئة تسمي نفسها بالمؤثرين وتدّعي قدرتها على التأثير على الرأي العام وتسويق الأفكار والمنتجات.
وكما يقول دو بوتون إننا قد نتحلى بالحكمة والذكاء لكن طالما أننا لم نستطع الحصول على علامات معترف بها اجتماعيا لخصالنا تلك، فسوف يبقى وجودنا بلا أي قيمة في نظر هؤلاء المتغطرسين، وإذا كان الفقر هو العقوبة المادية المعهودة لمن يشغلون مكانة دنيا فإن الإهمال وإشاحة النظر بعيدا هي العقوبات العاطفية التي وضعها عالم متغطرس. ويستعرض الكاتب الأسباب من أكثر من جهة ويعود إلى حقب تاريخية مختلفة ويتحدث عن غطرسة أصحاب المكانة العليا تجاه الأدنى عبر التاريخ.

الحسد والرضا
في ثنايا الكتاب نجد الكثير من الاقتباسات لآراء المشاهير والفلاسفة توضح مدى تأثر الكاتب وسعة اطلاعه ومدى اجتهاده في البحث عن جذور المشكلة كي يقدم الحلول الأمثل لها، والتي استعرضها بتفصيل في الجزء الثاني من الكتاب حيث بدأ بالفلسفة ودعا إلى تطبيق النظرة الفلسفية، فليس المهم ما نبدو عليه في أعين الناس تجاهنا، بل المهم إجراء تقييم نزيه لمواطن قوتنا وحكمنا بأنفسنا على قيمتنا الخاصة، حينها لن يجرحنا افتراض الآخرين بأننا بلا شأن، حيث سنكون على ثقة من شأننا وجدارتنا الحقيقية التي نستحقها.
وقد أشار دو بوتون لمشاعر الحسد التي تنتاب الإنسان وأسبابها النفسية واستدل بما كتبه دافيد هيوم ضمن رسالته في الطبيعة البشرية: «لا يتولد الحسد عن التباين الشديد بيننا وبين الآخرين، بل على العكس الحسد وليد التقارب»، إذ افترض عالم النفس الأمريكي وليم جيمس أن قدرة المرء على الشعور بالرضا عن نفسه لا تتعلق بتحقيقه النجاح في كل مسعى من مساعي الحياة، حيث لا يستطيع المرء تقدير ما بين يديه لقيمته الخاصة أو حتى بالمقارنة بما كان هو عليه سابقا من ضيق أو فقر، بل يقارنه مع أقرانه فلا يرضى عن مكانته إلا حين يملك مثلما يملكون أو أكثر مهما كان الذي يملكه، لأننا نصنع تلك المعايير عن طريق مقارنة حالنا بحال مجموعة مرجعية لجماعة الناس الذين نعتقد أنهم يشبهوننا مثل الأقران والنظراء لا سيما المترفين منهم، وهذا ما يفسر بعض الظواهر الاجتماعية التي نراها في مجتمعاتنا للأسف.
ثم أعاد دو بوتون التساؤل الذي كان مطروحا في بريطانيا خلال ستينات القرن التاسع عشر عن الانتفاع بالفن بصوره المتنوعة مثل الرسم وكتابة الروايات والأعمال التراجيديا والكوميديا وغيرها فتساءل «بماذا ينفعنا الفن؟»، واستعرض بعض الإجابات: إن الفن لا يكاد ينفعنا بشيء، فعلى أي حال لم يكن الفن هو ما شيّد المدن الصناعية الكبرى أو مدّ سكك الحديد، بينما نلاحظ بأن جورج اليوت يقول: «إن لم يوسع الفن حدود التعاطف الإنساني فلا نفع له من الناحية الأخلاقية»، ويرى أرنولد بأن الفن ترياقا لأعمق المخاوف والمصاعب التي يجابهها الإنسان في هذه الدنيا، وافترض أن كل عمل فني عظيم يتسم صراحة أو تلميحا بالرغبة في إزاحة الخطأ الإنساني وتجاوز اضطراب البشر ومحو معاناتهم، وطالما كان الفن صرخة احتجاج على الأوضاع القائمة وبالتالي حافزا على تقويم بصيرة الناظر أو تعليمه إدراك الجمال ومعاونته على فهم الألم وإنعاش حساسيته ووجدانه مع تغذية قدرته على التعاطف أو إعادة التوازن لرؤيته الأخلاقية عبر التفاعل مع الفن بصوره المختلفة.

صوت العقل
ثم انتقل دو بوتون إلى الحلول الأخرى التي أسهب في الحديث عن كل منها وهي السياسة والدين والبويهمية، واستحضرت وأنا اقرأ هذا الكتاب كل مظاهر الترف والسعي إلى المكانة، وحيرة بعض البشر في تفسير تصرفاتهم على نحو منطقي، وأدركت أننا قد تعرضنا لبرمجة عصبية ولغسيل أدمغتنا يجعلنا نشعر أننا غير جديرين بالحب وبالاحترام ما لم نمتلك كل تلك الماديات كما يملكها من حولنا، فالكاتب قام بكشف زيف المجتمع وطالب بعودة الإنسان إلى ذاته، وعدم الانصياع لقوة الجماعة والعقائد المهيمنة على المجتمع بل الاحتكام إلى صوت العقل والضمير، ومحاولة فهم الذات وامتلاك الشجاعة الكافية لإيجاد صوتنا الخاص وطريقتنا الشخصية في الحياة دون ضغوط أو تضليل من جانب عقائد المجتمع ومسلماته.
الإغريق عرفوا الفلسفة بأنها حب الحكمة، وهي نتاج تفاعل آراء وحجج وأفكار الآخرين وتداخل بين النقاشات والجدالات المعقدة، وهي بالغة الدقة مبنية على شبكة متصلة من المعرفة، ولاستيعاب المفاهيم والأفكار الفلسفية لابد من إعطاء مساحة في عقلك للعصف الذهني ومساحة كبيرة للرأي المخالف مهما كان شاذا أو منبوذا، فهي أكبر من مجرد تسلية بأفكار غريبة، ونحن بحاجة إلى العقل والأخلاق معا، ندرب عقولنا ونضبطها لتمييز الفرق بين الصواب والخطأ وبين الحق والباطل، فالعقل والفضيلة مجتمعان يمكن أن يصلا بنا إلى الحكمة ويضعا لنا الأساس الصحيح لانخراطنا في العالم من حولنا، وكما قالت عابدة المؤيد العظم في كتابها«جدي علي الطنطاوي كما عرفت»:«حياة الإنسان قصيرة، ولا يمكنه تجربة كل شيء ليتعلم، وأفضل طريقة للتعلم هي الاستفادة من تجارب الآخرين، والقراءة توفر هذا، وقد ينسى الإنسان المعلومات التي قرأها ولكن يبقى له أهم شيئين: الحكمة، وبعد النظر».

فيلسوف الحياة اليومية
يلقب آلان دو بوتون بفيلسوف الحياة اليومية، وهو كاتب ومقدم برامج تلفزيونية ولد عام 1969 في سويسرا ويقيم في لندن، يعتمد في أغلب كتاباته على التراث الفكري والفلسفي للإنسانية، وتناقش كتبه وبرامجه التلفزيونية قضايا ومواضيع معاصرة، فهو يقدم العقائد والفلسفات القديمة، ويقوم بتفكيكها محاولاً استكشاف نقاط ضعفها وإضافة نظرته الخاصة. كتب كتابه الأول «مقالات في الحب» عام 1993 عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وحقق مبيعات تقدر بمليوني نسخة. وباتت كتبه على قوائم الكتب الأفضل مبيعاً. وتأثر في بداياته بكاتب المقالات الفرنسي رولان بارت، وتعلم من خلاله طريقة الكتابة الواقعية حيث ألهمته كتب بارت مثل «شذرات من خطاب محب» في تشكيل ملامح كتابه الأول في موضوع الحب.

مياسة السويدي
كاتبة بحرينية