بأسلوب يتسم بنوع من السلاسة والتسلسل، سأحاول أن أبسط عشر مسلمات أساسية للعيش الحكيم، حيث تقوم كل مسلمة على عدد من المبرهنات الأساسية، لا تخلو بدورها من سلاسة وتسلسل.
* المسلمة الأولى:
كما نفكر نكون
(مسلمة مستلهمة من الرواقية)
المبرهنة الأولى:
- القضية الأولى: ليست الانفعالات سوى أثر الأفكار على النفس.
شرح القضية: ليست الانفعالات هي أثر الأشياء على النفس لأن هذا يسمى بالإدراك، بل الانفعالات هي الأثر الذي تحدثه على النفس انطباعاتنا وآراؤنا حول الأشياء.
- القضية الثانية: مصدر الانفعالات السيئة أفكار سيئة.
شرح القضية: حين أفكر في أن كلامك يسيء إليّ، فأنا على الأرجح، سأشعر بالغضب.
- القضية الثالثة: لذلك، عندما تسوء أفكارنا تسوء مشاعرنا وانفعالاتنا.
شرح المبرهنة: الغيرة شعور سيئ يهدد الطمأنينة، ومصدره أفكار سيئة تقوم في مجملها على افتراض سوء النية، وإساءة الظن، والرغبة في امتلاك ما لا يُمتلك، وما إلى ذلك. وهي أفكار تمليها بعض الغرائز البدائية، لكنها تظل في آخر المطاف عبارة عن تصورات في الذهن.
المبرهنة الثانية:
- القضية الأولى: أفعالنا ليست سوى أثر لانفعالاتنا.
شرح القضية: قد أشعر بالغضب فأكسر الكأس، قد أرغب في ممارسة الجنس فأتزوج، أو أتحرش، إلخ.
- القضية الثانية: أصل الأفعال السيئة انفعالات سيئة.
شرح القضية: من الواضح أن أصل السرقة جشع، وأن أصل الكذب خوف أو طمع، وهكذا دواليك.
- القضية الثالثة: لذلك، حين تسوء انفعالاتنا تسوء أفعالنا.
شرح القضية: مثلا، سرعان ما تصبح الغيرة غضبا وحقدا ووسواسا، وقد ينجم عن ذلك عنف موجه نحو الذات أو نحو الآخر.
المبرهنة الثالثة:
- القضية الأولى: تتوقف جودة الحياة في الأعيان على جودة الأفكار في الأذهان.
- القضية الثانية: لذلك، من الواجب إخضاع كل الأفكار التي تسيطر على الذهن للفحص الدقيق.
شرح المبرهنة: في أول تجربة للسفر عبر الطائرة قد تستبد بك مخاوف نابعة من فرضية أن الطائرة قد تسقط، لكنك ما أن تتفحص الفرضية بحساب الاحتمالات حتى تجدها مجرد هواجس وهمية يجدر بك التخلص منها لأجل صحتك الروحية. أما إن كنت تنوي التفكير في الآخرة فالوقت غير مناسب.
* المسلمة الثانية:
لا يبقى لنا سوى أفكارنا
(مسلمة مستلهمة من أفلاطون)
- القضية الأولى: لا نملك الفعل إلا في لحظة وقوعه.
- القضية الثانية: قبل أن نبدأ الفعل يكون الفعل فكرة.
- القضية الثالثة: بعد أن ننتهي من الفعل يصبح الفعل فكرة.
شرح المبرهنة: أفكر في أن أنهي عقد العمل مع مشغلي. تنتقل الفكرة إلى مرحلة الفعل بأن أكتب رسالة استقالة. وبعد الموافقة ينتهي الفعل. فماذا سيبقى بعد ذلك؟ هل سأشعر بالراحة والفرح؟ هل سأشعر بالأسى والندم؟ هل سأشعر بالخوف والتوتر؟ كل هذا مرتبط بفكرتي حول الفعل الذي قمت به، وهي الفكرة التي قد تتغير، قد تتطور، وقد تتدهور أو قد تسوء أكثر. إن فكرتي حول الاستقالة هي كل ما يبقى لي بعد أن يتحقق فعل الاستقالة.
المبرهنة الثانية:
- القضية الأولى: بوسع الأفكار التي تكون في مستوى التصور الذهني أن تحدد أسلوب الحياة في مستوى الواقع العيني.
- القضية الثانية: لذلك، بوسع الأفكار السيئة أن تهدد قدرتنا على الحياة.
شرح المبرهنة: مثلا، فإن الحكم على ما فعلته بأنه عمل سيئ، سينتج مشاعر الندم والسخط والتذمر، ومن ثم أصبح عاجزا عن التخطيط للمستقبل.
* المسلمة الثالثة:
الفكرة الجيدة تثير الفرح
(مسلمة مستلهمة من سبينوزا)
المبرهنة الأولى:
- القضية الأولى: من منظور الحياة، لا توجد فكرة صائبة مقابل فكرة خاطئة، بل توجد فكرة جيدة مقابل فكرة سيئة.
- القضية الثانية: تكون الفكرة جيدة حين تمنحنا الشعور بالفرح.
- القضية الثالثة: تكون الفكرة سيئة حين تمنحنا الشعور بالحزن.
شرح المبرهنة: قد تخطر ببالي الفكرة التالية: حين أشيخ وأصبح طاعنا في السن فقد لا أجد من يعنى بي. وبذلك سأشعر بالحزن الشديد. والحال أن هذه الفكرة بصرف النظر عن كونها ستتحقق في الأخير أم لا، إلا أنها فكرة سيئة طالما تبعث في النفس مشاعر الحزن والأسى، ومن تم تستنزف قدرتي على الحياة هنا الآن.
المبرهنة الثانية:
- القضية الأولى: ترتبط السعادة بنوعية الأفكار الموجودة في أذهاننا.
- القضية الثانية: لذلك لا نكون سعداء إلا بقدر ما تكون لدينا أفكار جيدة.
شرح المبرهنة: لكي نواصل المثال السابق، أضيف ما يلي، عندما أصبح طاعنا في السن، وتتدهور صحتي بشكل نهائي، سألتهِم الشوكولاتة السوداء التي أحبها، دون أن أخاف من السمنة أو أمراض القلب.
* المسلمة الرابعة:
الفرح دليل على النمو
(مسلمة مستلهمة من سبينوزا وبرغسون)
المبرهنة الأولى:
- القضية الأولى: الشعور بالفرح هو الإشارة التي تدل على أننا نحقق نمونا.
- القضية الثانية: الشعور بالفرح هو هدية الروح إلينا عندما نمنحها النمو الذي تبتغيه.
شرح المبرهنة: عندما نكتسب مهارة جديدة، أو نبدع شيئا جديدا، فإننا نشعر بفرح كبير. لذلك، ليس مستغربا أن تكون فترة الأفراح في مجتمعات الفلاحين خلال موسم الجني والحصاد، طالما ثمة تواطؤ بين النفس والطبيعة.
استدراك: لكن، إذا منحنا لأرواحنا نموا وهميا فستمنحنا فرحا وهميا كذلك.
مثلا: في حالة الإدمان على شرب الخمر، أو على مشاهدة مباريات كرة القدم، أو على الصور البورنوغرافية، فإن الأمر -في حالة الإدمان- يتعلق بأفراح وهمية طالما لا تحقق لنا أي نمو حقيقي في أي مستوى من المستويات، بعكس حين نمارس الرياضة، أو نرقص، أو نقرأ رواية، أو نخوض تجربة عاطفية هادئة وعميقة.
المبرهنة الثانية:
- القضية الأولى: ترتبط السعادة بكل ما يخدم إرادة النمو لدى الشخص.
- القضية الثانية: اتجاه النمو هو الذي يجب أن يحدد الإرادة.
- القضية الثالثة: لذلك تكون إرادة النمو هي الحدس الداخلي الذي يجب أن يتبعه كل إنسان.
شرح المبرهنة: حين يقرر قدرك أن تكون موسيقارا (والقدر هنا بمعناه الفلسفي)، فلن تكون سعيدا إلا حين يتجه نموك نحو ما حدده قدرك، وفي النهاية أن تبدع في مجال الموسيقى.
* المسلمة الخامسة:
أصل المشاعر السلبية أفكار سيئة
(مسلمة مستلهمة من الأبيقورية والرواقية)
المبرهنة الأولى:
- القضية الأولى: كل المشاعر السلبية (الغضب، التعصب، الخوف، الغيرة، الحسد، الحقد، إلخ)، هي نتيجة أفكار سيئة طالما تمنحنا الشعور بالحزن.
- القضية الثانية: لذلك فإن الشعور بالحزن هو مقياس سوء الفكرة.
المبرهنة الثانية:
- القضية الأولى: يحتاج التحرر من «الأهواء الحزينة» إلى المرونة الفكرية.
- القضية الثانية: لذلك تكون القدرة على تغيير الأفكار، بمعنى المرونة الذهنية، مهارة من مهارات الحياة.
شرح المبرهنة: في محطة القطار يخبر الإعلان الصوتي بأن القطار سيتأخر عن موعده بساعة لأسباب قاهرة. قد أتذمر بلا جدوى. لكن بشيء من المرونة الذهنية سيكون بوسعي أن أعيد صياغة فكرة «إن القطار سيتأخر» لأجعلها على النحو التالي: سأتابع قراءة الرواية التي أهدتها لي أختي، إلى غاية قدوم القطار.
* المسلمة السادسة:
الأفكار السيئة خاطئة
(مسلمة مستلهمة من الأبيقورية والرواقية)
المبرهنة الأولى:
- القضية الأولى: من وجهة نظر الحياة فإن الأفكار الخاطئة هي الأفكار التي لا تخدم إرادة النمو.
- القضية الثانية: الانفعالات السيئة لا تخدم إرادة النمو.
شرح القضية: ذلك أن الانفعالات السلبية من قبيل الحزن والغضب والندم والحقد والحسد إلخ، فإن كل ما تفعله هو أنها تستنزف قدرتنا على الحياة.
-القضية الثالثة: لذلك تكون الأفكار القائمة على الانفعالات السلبية أفكارا خاطئة بصرف النظر عن مطابقتها للواقع.
المبرهنة الثانية:
- القضية الأولى: الفكرة السيئة التي تمنحنا الشعور بالحزن قائمة على تأويل سيئ.
شرح القضية: مثلا، كلامك يسيء لي لأني أراه كذلك.
- القضية الثانية: يسمى تأويل سيئ كل تأويل يضر بصحة الروح.
شرح القضية: أن تضر فكرة ما بصحة الروح معناه أن تتسبب في إعاقة أو إجهاض النمو، وتستنزف من ثم القدرة على الحياة.
- القضية الثالثة: لذلك، بوسعنا أن نعيد النظر في كل الأفكار السيئة، سواء من جهة الحكم أو الصياغة أو التأويل.
* المسلمة السابعة:
الحياة هي رؤيتنا إلى الحياة
(مسلمة مستلهمة من شوبنهاور)
المبرهنة الأولى:
- القضية الأولى: ينبع أسلوب حياتنا من نظرتنا إلى الحياة.
- القضية الثانية: لا نعيش الحياة إلا وفق وجهة نظرنا في الحياة.
المبرهنة الثانية:
- القضية الأولى: حين تتحسن نظرتنا إلى الحياة تتحسن قدرتنا على الحياة.
- القضية الثانية: حين تسوء نظرتنا إلى الحياة تسوء قدرتنا على الحياة.
شرح المبرهنة: إننا لم نستطع –على سبيل المثال- أن نعيش الحياة بنحو جيد إذا كنا سننظر إليها باعتبارها مجرد خطيئة، أو محنة، أو ابتلاء.
* المسلمة الثامنة:
إعمال النقد يحررنا
(مسلمة مستلهمة من الشكاكين
والرواقيين وديكارت)
المبرهنة الأولى:
- القضية الأولى: الأفكار السيئة تأتي من التفكير غير المنظم.
شرح القضية: في حالات الشرود مثلا، غالبا ما تحضر الذكريات المحزنة، وذلك بسبب ارتباط ذاكرتنا الجينية بذكريات إنسان عصر الكهوف، والذي كان يحتاج إلى تخزين التجارب المؤلمة لأجل تفادي المخاطر في المستقبل.
- القضية الثانية: التنظيم الجيد للأفكار يمنحنا القدرة على التحكم فيها، وتوجيهها نحو مقتضيات الواقع.
المبرهنة الثانية:
- القضية الأولى: الانفعالات السلبية قائمة على انطباعات وهمية.
- القضية الثانية: لذلك، حين نخضع انفعالاتنا السلبية للتفكير النقدي يكون بوسعنا التقليص من أثرها.
شرح المبرهنة: مثلا، لماذا أحسد جاري الذي استطاع اقتناء سيارة جديدة؟ إذ يكفي أن أفكر ساعتها بصفاء ذهني حتى يتقلص الانفعال الذي قد يستنزفني، وقد يدفعني من ثم إلى خيارات خاطئة.
المبرهنة الثالثة:
- القضية الأولى: تقوم الانفعالات السلبية على أساس أحكام جاهزة.
- القضية الثانية: لذلك، فإن الشك في أحكامنا يحررنا من الانفعالات السلبية.
شرح المبرهنة: (أ)، تخرج زوجتي بدون استئذاني. (ب)، أنت إذن ترى الأمر سيئا؟ (أ)، نعم هو كذلك. (ب)، ولماذا هو سيئ؟ (أ)، سيئ لأنه.. لا يجب.. لا يجوز.. لا يعقل.. (ب)، كأنك تجيب عن السؤال لماذا هو سيئ؟ بالقول، لأنه سيئ ! مرة أخرى، لماذا هو سيئ؟ أو تحديداً ما السيئ فيه؟ (أ)، قد يحدث كذا، وقد يكون كذا.. (ب)، هل تلك الـ»قد» تطابق الواقع أم أنها مجرد هواجس في عقلك؟ (أ)، ولتكن مجرد هواجس، فالمرأة العاقلة تحترم هواجس الرجل. (ب)، وهل تظن في المقابل بأن من يطالب الآخرين باحترام هواجسه هو إنسان عاقل كما ينبغي؟!
* المسلمة التاسعة:
التأمل يخفف من الألم
(مسلمة مستلهمة من البوذية والرواقية)
المبرهنة الأولى:
- القضية الأولى: بصرف النظر عن مصدره فإن الألم إحساس.
- القضية الثانية: قد يكون الإحساس بالألم إما أكثر حدة، أو أقل حدة، من الحالة التي عليها مصدر الألم.
- القضية الثالثة: الفارق هنا تصنعه تمثلاتنا الذهنية للألم.
شرح القضية: لذلك السبب، عادة ما يكون الشعور بالألم أكثر حدة حين لا نعرف سببه.
المبرهنة الثانية:
- القضية الأولى: التأمل يقلص من الانفعالات السلبية.
- القضية الثانية: الانفعالات السلبية التي يثيرها الألم تزيد من حدة الشعور بالألم.
- القضية الثالثة: حين يشتد الألم فإن التأمل في الألم من شأنه أن يخفف من الإحساس بالألم.
شرح المبرهنة: بلا شك فإن التأمل يمنح للشخص نوعا من المسافة الكافية للحفاظ على الطاقة الحيوية أثناء مواجهة أشد الظروف قساوة وضراوة.
* المسلمة العاشرة:
السعادة وظيفة الفلسفة
(مسلمة مسلمة مستلهمة من
أبيقور وأرسطو والفارابي)
المبرهنة:
- القضية الأولى: المصدر الرئيسي للشقاء هو أفكارنا.
- القضية الثانية: الفلسفة هي الحقل الذي يتعامل مع الأفكار.
شرح القضية: الفلسفة في آخر التحليل هي علم التعامل مع الأفكار، وفن التعامل مع الحياة.
- القضية الثالثة: لذلك، ستكون السعادة وظيفة الفلسفة. بل إنها وظيفتها الأكثر نبلا وأصالة.
شرح المبرهنة: ثمة اتفاق في تاريخ الفلسفة على أن السعادة هي الغاية القصوى للوجود الإنسان. والسعادة إما أنها تتحقق في سياق مشاريع تاريخية واجتماعية كبرى، مثلما رأى فلاسفة الأنوار، ثم وصولا إلى الهيجليين والماركسيين، وإما أنها تتحقق في سياق تنمية قدرة الشخص على الحياة، مثلما رأى الأبيقوريون والرواقيون، ثم وصولا إلى النتشويين المعاصرين اليوم.