الزوج الوفي
مع اقتراب طلوع الشمس، لم تعد رجلاه قادرتين على حمله، فأسند ظهره إلى الجدار كأنه يحتمي بجبل من سيل هموم قادم، فهو وأشقاء زوجته يقفون على أعصابهم منذ عصر أمس بعد أن أدخلت زوجته إلى قسم العناية المركّزة في المستشفى، على إثر ارتجاج المخ الذي أصابها نتيجة حادث سيارة.
خرج الأطباء من القسم وهم يقطعون الممر بسرعة متجنبين النظر إليهم، وقبل أن يتدافعوا نحو مدخل القسم، خرجت ممرضة وأعلنت نبأ وفاتها، فتعالت أصواتهم بالبكاء، وبدأ الزوج يذوب على الجدار مثل شمعة، وانتهى جالساً على أرضية الممر، باكياً لاطماً جبهته براحة يده، بينما أشقاء زوجته يساعدونه على النهوض وهم يبكون.
تحامل على نفسه ووقف على رجليه وأخذوا يحضنونه ويمسحون على رأسه، لكنه انفلت من بين أيديهم ومشى إلى قسم العناية المركّزة بخطى مثقلة كأنه أسير يحاول الفرار بينما الكرة المعدنية المربوطة برجيله تعيق حركته. دخل القسم وارتمى على جثمان زوجته وأخذ يقبّلها وهو يبكي حتى امتلأ ما بين عينيه وعدسة نظارته بالدموع.
رفض الخروج من القسم وتركُ جثمان زوجته، وأنهى أشقاء المتوفاة إجراءات إصدار شهادة وفاتها وتصريح الدفن. وحين وصلت سيارة الإسعاف، ارتفع نحيبه وأخذ يسير متأوّهاً خلف السرير المتنقل الذي ترقد عليه الجثة وهو حافي القدمين، محمر العينين، منكوش الشعر. صعد سيارة الإسعاف وجلس صامتاً بالقرب من الجثة المغطاة بالكامل بملاءة بيضاء، وأخذ أحد أشقاء المتوفاة نعال ونظارة وجوّال الزوج والتي تركها في المستشفى.
بعد أن وُضعت الجثة في غرفة غسل الموتى الملحقة بالمقبرة، طلب منه قريب له ملتح أن يترك الغرفة لأنه لا يجوز له رؤية الجثة بعد أن انقطعت العلاقة الزوجية بالوفاة، لكنه صرخ في وجهه ودفعه وحدث هرج ومرج وتعاون بعض الحضور في إخراجه قسراً من الغرفة رغم مقاومته وتمزّق كندورته.
جلس خائر القوى وأسند ظهره إلى جدار غرفة غسل الموتى وهو يفكّر في طريقة يدخل بها ليلقي النظرة الأخيرة على زوجته الطيبة والحنونة والجميلة التي لم ولن يحب غيرها، فهو يعلم أنه لن يراها ثانية بعد إخراجها من غرفة الغسل مغطاة بالكفن.
قام من مكانه واستدار حول الغرفة وانسل إليها بسرعة لكن قريبات المتوفاة صرخن في وجهه، خصوصاً أن مظهره أصبح مخيفاً، وأخذت المرأة المسؤولة عن الغسل تغطي يديها وتسدل النقاب على وجهها وهي تسبّه بأنه قليل الحياء والأدب، فخرج بسرعة وهو يشعر بالرضا بعد أن لمح جزءاً من وجه المتوفاة، ستكون ذكرى خالدة في حياته.
أخذ يسير بين القبور وهو يقرأ أسماء بعض المدفونين الذين بقيت شواهدهم تقاوم عوامل الزمن والإهمال، ثم عاد إلى حيث تجمّع الناس وهو يمسح ما علق على كندورته من تراب وغبار محاولاً تغطية الأجزاء المتمزّقة منها. سأل عن أغراضه التي نسيها في المستشفى. أحضر أحد أشقاء المتوفاة أغراضه وعانقه طويلاً. لبس النعال ووضع النظارة بعد أن مسح عدستها ونظر في الجوّال ثم وضعه في جيبه.
سار إلى غرفة الوضوء بينما الجميع يراقبه بنظرات الأسى والشفقة. غسل قدميه ويديه وشعر رأسه ثم توضأ استعداداً لصلاة الجنازة، ووقف أمام المرآة ورتّب شعره، وتذكّر غترته التي نسي وضعها على رأسه بسبب سرعة انطلاقه من البيت إلى المستشفى بعد أن وصله نبأ الحادث.
حين خرج من غرفة الوضوء، لم يجد أحداً، وحاول الوصول إلى مسجد المقبرة عبر قطع المساحة الترابية، لكنه استدرك ومشى عبر الطريق المرصوص بالإنترلوك، وهو طريق أطول. حين دخل المسجد كان المتواجدون قد فرغوا من صلاة الجنازة وأخذوا يتدافعون لحمل الخشبة التي يرقد عليها الجثمان. مشى خلف المشيّعين ببطء متعمّد وهو يلتفت إلى الوراء. توقف في منتصف الطريق وقبل الوصول إلى موضع الدفن.
توقفوا قليلاً قبل البدء في دفن الزوجة، التفتوا حولهم يبحثون عنه، لكنهم لم يجدوه، وقال أحدهم إنه لا يجرؤ على إهالة التراب على وجه زوجته لأنه كان يحبها كثيراً، وشرعوا في دفنها.
في مساء اليوم نفسه، ارتدى كندورة جديدة وتعطّر وذهب لمقابلة والد المرأة التي غسّلت الفقيدة الغالية.