أثناء حملته الانتخابية في منطقة ''كاوا زولو ناتال'' الأسبوع الماضي وجه جاكوب زوما انتقادات لاذعة إلى القس الحائز على جائزة نوبل، ''ديزموند توتو''، لأنه حسب زوما ''انحرف''عن مسؤولياته الكنسية، مشيراً في انتقاداته أنه''في حدود علمي يقتصر دور رجال الدين على الدعاء للمخطئين بالهداية وليس التنديد بهم''، رغم أن زوما نفسه قضى معظم العقد الأخير يكافح تهماً بالفساد والتصرف غير اللائق. وقد سجلت تعليقات الرجل الذي من المفترض أن يصبح الرئيس المقبل لجنوب أفريقيا منعطفاً حقيقياً في السياسة الداخلية للبلـــد لما تضمــره من اعتراف زوما بأن قــادة البلـــد لم يعد بإمكانهم الظهور أمام الرأي العام وكأنهم نموذج يُحتذى به على شاكلة نيلسون مانديلا، وجاءت تصريحات ''زوما''، مرشح حزب ''المؤتمر الوطني الأفريقي'' للرئاسة رداً على انتقادات ديزموند توتو بأنه غير صالح لتولي رئاسة البلاد. فإلى جانب العديد من الجنوب أفريقيين يعتقد ''توتو'' أن القائد الحالي لـ''المؤتمر الوطني الأفريقي'' ليس قادراً على تولي المسؤولية بسبب التهم الموجهة إليه، وأن إسقاطها خلال الشهر الجاري بعدما تبين أن المحقق العام انتهك إجراءات الدعوى القضائية، لا يغير في الأمر شيئاً، لكن ''زوما'' يصر من جهته أنه كان ضحية مؤامرة سياسية يقف وراءها سلفه وخصمه اللدود، الرئيس السابق لجنوب أفريقيا، تابو مبيكي. ورغم الانتقادات الموجهة إلى ''زوما''، فقد أظهر على الأقل قدرة على التخلي عن السخاء المالي لمستشاره المالي بعدما أودع السجن بسبب تلقيه رشى، ثم جاءت تهم الاغتصاب التي برئ منها في العام .2006 لذا يبدو ''زوما'' بالنظر إلى هذه التهم ناهيك عن مستواه الدراسي والمشاكل المرتبطة بحياته الشخصية (متزوج بعدة نساء ولديه ما يقارب عشرين ابنا) أنه قد يكون غير مهيأ لقيادة الدولة الأهم في أفريقيا ورائدة الديمقراطية فيها، إلا أنه مع ذلك يبقى الأوفر حظاً للفوز في انتخابات اليوم الأربعاء بأغلبية أصوات قد تفوق 60 في المئة، بل أصبح الأكثر شعبية بين جميع السياسيين، لا سيما في أوساط الفقراء. هذه الشعبية الطاغية تستند إلى مجموعة من الأسس أولها أن حزب ''المؤتمر الوطني'' أصبح بمثابة ''الوطن الخاص'' للأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا والتنكر له في نظرهم هو في مقام التنكر لعائلاتهم، ثانياً تستقطب الأخطاء الإنسانية التي ارتكبها ''زوما'' الناس العاديين، فضلا عن شعبيته الكاسحة التي ترجع إلى أصوله الريفية المتواضعة وحياة البساطة البعيدة عن صورة الرجل المثقف لسلفه تابو مبيكي. لكن في كل ذلك تبقى النقطة الأهم بالنسبة لـ''زوما'' هي حالة الاستياء العام التي يشعر بها الجنوب أفريقيون، إذ رغــم مرور 15 عاماً على وصول حزب ''المؤتمر الوطني الأفريقي'' إلى السلطة، وتحسن جودة الخدمات، مازال أغلب السكان يعانون من الفقر ويشعرون بأنهم مستثنون من كعكة النصر التي تستغلها نخبة صغيرة من السود، فيصور ''زوما'' نفسه على أنه أحد ضحايا تلك النخبة. والحقيقة أن ''زوما'' أظهر براعة نادرة في تجاوز العقبات السياسية والتغلب على العراقيل، وإنْ كان قد اكتسب سمعة إرضاء الجميع والتودد لهم سواء كانوا من العمال، أو من أرباب الشركات دون أن يبلور رؤية متماسكة، بحيث يعتمد في حشد التأييد على''اليسار''، لا سيما النقابات العمالية ذات النفوذ القوي في جنوب أفريقيا، لذا يتساءل المراقبون كيف سيتمكن ''زوما'' من الموازنة بين الأجندة ''اليسارية'' لمؤيديه، وبين احتياجات السوق الواقعية.وفي الوقت الذي يقلل فيه الخبراء من احتمال تلاعب ''زوما'' بالثوابت الاقتصادية للبلاد وعدم مجازفته بالإخلال بالتوازنات الاقتصادية الدقيقة، إلا أن هناك مخاوف من أن يلجأ إلى تبني سياسات محافظة على الصعيد الاجتماعي تتعارض مع القيم الليبرالية التي كرسها مانديلا، فهو كثيراً ما أعلن عن مواقفه المحافظة في بعض الأمور المتعلقة بحالات الحمل الشائعة في أوساط المراهقين، ومعارضته للمثليين الجنسيين، فضلا عن دعوته للجماعات الدينية المختلفة إلى إعادة تفسير الدستــور مثـــل مراجعـــة حق الإجهــــاض. والمشكلة حالياً في جنوب أفريقيا أن حزب ''المؤتمر الأفريقي'' سواء بقيادة تابو مبيكي، أو جاكوب زوما خلط بين الحزب والدولة إلى درجة أن البلاد تحولت على أرض الواقع إلى ''دولة الحزب الواحد''، بحيث يبدو أن الحزب تماهى مع أساطيره المؤسسة القائمة على التحرر الوطني وطور شعوراً بملكيته الخاصة واحتكاره المنفرد لمصير جنوب أفريقيا. والنتيجة ظهور نظام سياسي قائم على الرعاية الأبوية وتوزيع المكاسب على الحلفاء، وفي المقابل تهميش المعارضين وإقصائهم، ما يهدد أسس الدولة التي جاء الحزب لإقامتها، ولهذه الأسباب جميعاً ربما سيصوت العديد من مناصري حزب ''المؤتمر الوطني الأفريقي'' القدماء، بمن فيهم أنا، لصالح المعارضة. مارك جيفيسر باحث في جامعة بريتوريا بجنوب أفريقيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست