«ميل جيبسون» العاشق يبحث عن حل لسؤال محوري «ماذا تريد النساء»
رجل الرجال، عازب مكرس، عاشق تصعب مقاومته، تلك بعض الألقاب والصفات التي يحوزها نيك مارشال (ميل جيبسون) في فيلم سينمائي استُوحي عنوانه من سؤال محوري طرحه مؤسس علم النفس الحديث، سيجموند فرويد، بعد أن عاش ثلاثة وثمانين عاماً، أمضى الجزء الأكبر منها في محاولة استنباط إجابته: “ما الذي تريده المرأة”؟! الفيلم من إخراج الأميركية نانسي مايرز.
تربى نيك في ناد ليلي، كانت والدته تشغل فيه منصب راقصة مميزة، كان في طفولته محاطاً بنساء على قدر من الإثارة، وهو موضح حفاوتهن الأنثوية، الأرجح أنَّ طفولة بهذا القدر من الخصوصية لا بد أن تمنح الرجولة المنبثقة عنها شيئاً من التمايز.
وقد تكون المهنة التي اختارها غير محايدة على هذا الصعيد، فإن يجذبه العمل في الإعلان عن السلع النسائية ليس قراراً يمكن الدفاع عن حياديته أو موضوعيته بالضرورة.
أب مع وقف التنفيذ
مارشال الخارج من الملهى الليلي هو الآن حجر الرحى في شركة إعلانات تهتم بالمرأة، كما سبقت الإشارة، كان مكتفياً بما تتيحه له مهنته من فرصة استعراض الوسامة والأناقة، والاستمتاع بأثر ذلك كله على زميلاته من بنات الجنس اللطيف، وقد غدا مع التجربة متمرساً، أو هكذا خيل له، لم يعد ملزماً ببذل الجهد المضني لإضحاك النساء من حوله، والخروج من كل موقف يجمعه معهن، وهو موقف دائم الحدوث، بجرعة إضافية من الثقة بالذات، لعلَّ هذا القدر من الإشباع الذكوري هو الذي أتاح له أن يذهب لوداع زوجته السابقة فيما هي تمضي مع زوجها الجديد لقضاء شهر العسل دون أي إحساس بالغيرة، بل على العكس بدا كما لو أنه يرثي لحال العريس الذي يشي تهذيبه المفرط بقدر من السذاجة. رجل الرجال هو، واللقب ليس بعيداً عن الواقع بأي حال.
بمحاذاة زوجته وعريسها كانت ابنته أيضاً، لم تبد معنية بإظهار الود، أو الاحترام حتى، لوالد تخلى عنها طيلة الأعوام الستة عشر التي مضت على وجودها في هذه الدنيا، “هل قررت أن تصبح أبي الآن”؟! تسأله أكثر من مرة فيما هي تناديه، بازدراء واضح، باسمه المجرد.
الرجل الاستثناء
نيك مارشال محور أحداث الفيلم، حاضر دوماً في كل مشاهده، سواء أكان متسلحاً بكامل وسامته وابتسامته الساخرة، أو محاطاً بنقاط ضعفه وإرباكاته المتعددة، في الحالين يبقى الرجل محافظاً على استثنائية ما، ويبقى حضوره مشعاً ومؤثراً، في داخله كثير من ذلك العبق الإنساني الذي يدفعه للابتسام ساخراً، حتى من نفسه إذا اقتضى الأمر، ومن أمكنه الضحك على خيباته يصعب عليه أن يشعر بالخيبة.لكنَّ الأحوال دوامها من المحال، وهذا ما سيبنى عليه المنعطف الحاسم من مسار الحدث السينمائي، إذ يأتي نيك ذات صباح إلى عمله، متأخراً كعادته دوماً، ليجد اثنتين من موظفاته بانتظاره مع بسمة فيها الكثير من البشرى: الرئيس أرسل بطلبك! لم تكن لدى المرأتين أي فكرة عن هدف الرئيس من استدعاء نيك، لكنهما كانتا موقنتين دوماً أنَّ شيئاً إيجابياً في الأفق، فهو اعتاد الربح باستمرار، حتى في تلك اللحظات النادرة التي كان البعض يظن أنه يتعرض للخسارة.. تفاؤل موظفات نيك انتقل إليه، ولعله لم يكن يحتاج إلى ذلك، فهو لديه من الرضا عن الذات ما يكفي.
موعد مع الخيبة
قبل أن يغادر لمقابلة رئيسه سأل مارشال الموظفتين متحاذقاً: هل يسعكما العمل في الطابق الثامن والأربعين؟ كان يلمح إلى ترقية ما ستتيح له تغيير مكتبه، بتتابع الأحداث سيتبين لنا أنه يطمح إلى شغل منصب رئيس قسم الإبداع في الشركة، وهو محق في طموحه، إذ لا يجد الناظر إليه صعوبة في تبيان مقدرته الإبداعية، خاصة عندما يكون الأمر متعلقاً بالنساء..
في اللقاء مع الرئيس ستتغير الانطباعات، وسيكون نيك أمام تلك اللحظات النادرة التي تفرض عليه أن يقطب جبينه للحظة، يعود بعدها إلى مزاجه الساخر، سيعرف سريعاً أن القيمين على الشركة، قرروا إسناد المنصب الذي يحرك مطامعه إلى امرأة من مؤسسة منافسة تمكنت من إثبات جداراتها في مجال العمل نفسه، إذن ما ينتظر نيك هو مرحلة جديدة من العمل تحت سلطة امرأة، وتلك مأساة بالنسبة لرجل لم ير في النساء يوماً أكثر من كائنات ملطفة للمزاج، أما المأساة الأكبر فتعود إلى قدوم الرئيسة الجديدة من تجربة ناجحة، مما يعني تسلطاً ونزوعاً نحو عدم قبول الآراء المجادلة، فهل هي بداية الانهيار بالنسبة لإمبراطورية القادم من ألق النساء، وعلى يد واحدة منهن؟!
معركة العمر
لوهلة بدا الأمر كذلك، فقد صدقت التوقعات، وجاءت دارسي (هيلين هانت) محملة بإرث النجاح وبعقده أيضاً، وكان بدهياً أن ترى في مارشال خصماً مفترضاً، لأنه الأكثر جاذبية بين مرؤوسيها الجدد، أما هو فقد تعامل مع الموقف بمرونة الواثق من قدرته على تخطي العثرات مهما بلغ حجمها، كان مجاملاً وملاطفاً، إذ إنه وعلى الرغم من كون دارسي رئيسة متعبة تمخضت عنها عاديات القدر، إلا أنها تبقى امرأة بالمحصلة، وامرأة جميلة أيضاً، وذلك عامل ملطف لأعقد الأمور. لمرة نادرة رأى مارشال نفسه ملزماً بالتدقيق في قدراته المهنية، خاصة بعد أن حاضرت دارسي في موظفيها، وهو بينهم، واضعة بين أيديهم حقيبة فيها الكثير من المستلزمات النسائية، طالبة من كل منهم أن يضع تصوراً دعائياً لإحدى تلك المستلزمات.
“ما الذي تريده المرأة”؟! رأى الخبير الإعلاني نفسه مضطراً لطرح سؤال فرويد مجدداً، وإذا كان مرجع علم النفس الحديث قد أطلق أحجيته ومضى تاركاً لمتتبعيه ومريديه، وخصومه أيضاً، أن يجدوا الحل، فإن مارشال كان ملزماً باجتراع معجزة الجواب، حتى لا يخرج من معركة العمر خاسراً..
إلى الأعماق
تحول الأمر هاجساً يقض مضجع الرجل الذي اعتاد النوم مطمئناً إلى أمجاده الأنثوية، لم يكفه التفكير النظري بالأمر، بل حاول تقمص شخصية المرأة ليستطيع النفاذ نحو أعماقها، استخدم العديد من المحتويات النسائية الحميمة التي تمخض عنها صندوق دارسي، بينما هو يجرب مجفف الشعر ذلت به القدم ليقع في مغطس الحمام المملوء بالماء، كما يمكن التوقع فقد تعرض لصدمة كهربائية أفقدته الوعي، لم يصح منها إلا على صوت مدبرة المنزل: أرجو أن لا يكون قد مات”! “كلا لم أمت”، قال بهدوء أدهش المرأة إلى حدود الفزع، قلنا إنه صحا على صوتها؟! الصحيح أنها لم تنطق بأي كلمة، كان الأمر يجول في أعماق فكرها، خرج مارشال من صدمته الكهربائية يمتلك خاصية التنصت على ما يدور في دواخل النسوة، أي أنه امتلك الجواب على السؤال اللغز من حيث لم يكن أحد ليتوقع: مغطس حمام مكهرب بمجفف للشعر! الأرجح أن فرويد لو علم بما سيؤول إليه حال سؤاله التاريخي لفضل الاحتفاظ به..
شريك في السلطة
بعد أكثر من تجربة تأكد مارشال أن الصدمة التي تعرض لها أفقدته بديهة البشر العاديين، صار يعرف أكثر مما يجب، والأمر مماثل لأن يعرف أقل، فالزيادة صنو النقصان، صرخ في وجهه بعد أن أشبع أوراقه بحثاً عن عنوان طبيب يعرفه: أحتاج طارد أرواح!! وبغتة وجد نفسه يطرد على باب طبيبة نفسية، استخفت الطبيبة بالأمر واضعة إياه في التوتر النفسي، لكنها أصيبت بالذعر عندما طلب منها أن تضمر عدداً من خمسة أرقام ثم عرفه.
بعد أن استعادت الطبيبة هدوءها أقنعت مريضها أن ما يشكوه هو نعمة وليس نقمة، المرأة هي التي تحكم العالم اليوم، وبإمكان من يعرف ما في داخلها أن يشاركها في السلطة! فجأة لمعت عينا مارشال بكل خبث الدنيا: ما الذي بوسع دارسي أن تفعله بعد أن أضحت أفكارها مكشوفة أمامه ككتاب مفتوح؟!
ذئب وفريسة
كانت دارسي هي فريسته الأثمن، لذلك ربما لم يبال نيك بما استرق من سمع على أفكار النساء الأخريات حياله، لم يتوقف كثيراً عند أولئك اللواتي يبتسمن في وجهه، فيما هنَّ يضمرن له الاحتقار، ولم يجد صعوبة في تطييب خاطر إحدى ضحاياه اللاتي أقام معها علاقة عابرة، ثم تركها تواجه الإحساس بأنها غير مرغوبة لكون التجربة لم تتكرر، كان بإمكانه أن يسمع بوضوح توسلها الداخلي وهي تهجس بفكرة مؤرقة: “إذا لم تكن مثلياً فذلك يعني أنني امرأة فاشلة”، لم يتردد في القول لها إنه مثلي إلى أبعد الحدود!! انفرجت أسارير المرأة، وغادرت على ثقة مستعادة بذاتها الأنثوية. أما الرئيسة الناجحة فحديث آخر: كانت تظن نفسها تناقش مرؤوساً لها عندما راحت أفكارها تنسل من رأسها نحو ثغر مارشال ، لم يدع خاطرة تمر في الدماغ الأنثوي إلا والتقطها طارحاً إياها بوصفها فكرته، كان على دارسي أن تقر بالهزيمة أخيراً، وأن تسلم لنيك بالريادة، ليس أمامه فقط، بل وفي داخلها أيضاً، وهنا مكمن الصعوبة الحقيقية بالنسبة لامرأة كانت تظن نفسها ناجحة.
العودة إلى الذات
الأرجح أن مخرجة الفيلم نانسي مايرز قد منحت بطلها من مواصفات القوة ما جعلت عقدة الفيلم تستعصي على الحل، لهذا كانت ملزمة بابتكار نهاية ملفقة لا تليق بالخط التصاعدي للأحداث الذي بدا قادراً على السير نحو ما لا نهاية له من الدهشة، كان الحل الوحيد الذي بدا متاحاً أن ينهزم مارشال الوصولي والانتهازي والطامح في السيطرة، أمام مارشال الإنسان العاشق الذي يصحو ضميره فجأة، ويقرر الاعتراف بما ارتكب، وكان لصدمة كهربائية أخرى أن مارشال يفقد موهبته التنصتية ليعود إنساناً عادياً، وليكون فرحاً بما خسره..
كلام على الشاشة:
إذا كنت تخبرني بأنني لم أخسر عملي وأنني لا أزال رئيستك فأول ما أنوي فعله هو طردك من العمل.
(دارسي بعد أن اعترف مارشال أمامها بما ارتكبه)
المصدر: أبوظبي