دينا محمود (لندن)

في مستهل الأسبوع السادس من جلسات نظر القضية المتعلقة بحصول رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم على «عمولاتٍ سريةٍ» من قياداتٍ سابقةٍ في مصرف «باركليز» البريطاني الشهير، وجه بعض من هذه القيادات اتهاماتٍ لـ «ابن جاسم» وأعوانه بابتزاز المصرف واستغلال الأزمة المالية التي كانت تعصف به قبل عقدٍ من الزمان، من أجل الحصول على مزايا تفضيليةٍ وتأمين تلقي تلك العمولات، التي ناهزت مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية، وبلغت نسبتها ضعف المعدلات المعتادة.
وفي الوقت نفسه، قدم ممثل الادعاء عن مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الكبرى البريطاني دليلاً جديداً إلى هيئة المحلفين في محكمة ساوث وارك، عبارة عن تسجيل صوتي لأقوال ريتشارد بوث المدير التنفيذي السابق للمؤسسات المالية الأوروبية في البنك. وأضاف بوث أنه أبلغ موقفه بوضوح خلال محادثات مع جنكينز، أثناء مناقشة كيفية تدبير وسيلة لدفع المبالغ التي طالب بها القطريون آنذاك مقابل الموافقة على الاستثمار بعدة مليارات من الجنيهات الإسترلينية في بنك باركليز في ذروة الأزمة المالية لعام 2008.
ويكشف التسجيل الصوتي عن حالة التوتر التي انتابت المديرين التنفيذيين السابقين في بنك باركليز، حيث أوضح بوث في أقواله أنه عارض فكرة عقد الصفقة الجانبية لأنه لم يكن يعتقد أنه من الصواب أن يتم دفع مبالغ لمستثمر أكثر من بقية المستثمرين، خاصة أن المبالغ التي كان يصر الجانب القطري على الحصول عليها توازي أكثر من ضعف ما كان يحصل عليه المستثمرون الآخرون خلال عملية جمع رؤوس الأموال وجذب الاستثمارات، فقد طلب جنكينز من بوث أن يجد أفضل طريقة لتدبير دفع المبالغ المطلوبة.
وفي إفادةٍ استمعت إليها هيئة المحلفين في محكمة «ساذرك» بجنوب لندن، أشار ريتشارد بوث المسؤول السابق عن قسم المؤسسات المالية الأوروبية في «باركليز» إلى أن الحصول على «أموالٍ طائلةٍ في صورة رسومٍ» شكّل «الدافع الرئيس» بالنسبة للقطريين الذين شاركوا في الصفقة المشبوهة، التي أدت في نهاية المطاف إلى تجنيب المصرف «سيناريو التأميم الحكومي» في ذروة الأزمة المالية التي ضربت العالم أواخر العقد الأول من القرن الماضي.
ونقلت صحيفة «الجارديان» البريطانية عن بوث قوله في شهادته عن المستثمرين القطريين - الذين قادهم حمد بن جاسم بوصفه رئيساً لوزراء قطر وقت إبرام الصفقة ومالكاً لشركة «تشالنجر يونيفرسال المحدودة» التي شاركت فيها كذلك - إن «دافعهم الأساسي كان يتمثل في أن هذا المصرف يحتاج الأموال.. والعالم سيواجه كارثةً لا محالة، (لذا) فبوسعنا إتمام الصفقة بتكاليف زهيدة.. وأن نحصل على خصمٍ قيمته 10%، كما أننا نريد الحصول على أكبر رسومٍ ممكنةٍ» من المؤسسة المصرفية العريقة في المملكة المتحدة.
وأشارت الصحيفة إلى أن اعترافات المسؤول المصرفي السابق تكشف النقاب عن أن كل ما كان يهم قطر من وراء دخولها الصفقة هو «شراء أسهم (باركليز) بأسعارٍ رخيصة خلال الأزمة المالية العالمية، وليس بلورة علاقةٍ استراتيجيةٍ مع المصرف».
وأقر بوث - في اعترافاته التي عرضها ممثلو الادعاء على المحكمة - بأن زميله المتهم معه في القضية روجر جينكينز طلب منه «إيجاد آلية» أو بلورة «شكلٍ من أشكال الاتفاقات»، التي تسمح لثاني أقدم مصارف المملكة المتحدة بـ «أن يدفع لقطر رسوماً إضافيةً كجزءٍ من (الصفقة التي تضمن) مشاركتها في جمع تمويلٍ للمصرف في يونيو 2008».
وتولى جينكينز في تلك الفترة المسؤولية عن وحدة التمويل الاستثماري المختصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المصرف، وكان يُوصف بأنه «المسؤول الأول» عن التعاملات مع أركان «نظام الحمدين»، من خلال اتصالاته بحمد بن جاسم.
وعبر مقابلةٍ مسجلةٍ أجراها محققو مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الكبرى في بريطانيا الذي قام بتحريك الدعوى مع بوث، اعترف المسؤول المصرفي السابق بأن اتفاقيتيْ الخدمات الاستشارية المزعومتيْن اللتين تم من خلالهما تغطية العمولات التي حصل عليها رئيس الوزراء القطري السابق وعددٌ آخر من الشخصيات المرتبطة به، أثارتا القلق في أوساط مديري «باركليز» من إمكانية الدفع بعدم قانونيتهما.
وأضاف أن أحد زملائه قال له في هذا الشأن إن مسألة دفع العمولات المثيرة للجدل للقطريين «أمرٌ شائكٌ»، ونصحه بأن «يتوخى الحذر» في التعامل معهم.
وأشارت «الجارديان» إلى أن تلك النقاشات تميط اللثام عما دار في كواليس المشاورات التي جرت بين المسؤولين التنفيذيين السابقين في «باركليز» حول هاتين الاتفاقيتين، اللتين تم وضعهما على الأوراق الرسمية «من أجل التمويه على مطالب قطر بالحصول على عمولاتٍ أكبر» مقابل تأمينها جزءاً من حزمة إنقاذ المصرف، التي ناهزت قيمتها 12 مليار جنيه إسترليني (16.6 مليار دولار أميركي).
وبحسب محضر الجلسة - الذي نشرته العديد من الصحف البريطانية الكبرى - اعترف بوث بأن هاتين الاتفاقيتين «لم تكونا لَتُبْرَمان من الأساس، ما لم تطلب قطر الحصول على خصمٍ أكبر على استثماراتها» في المصرف قائلاً إنهما كانتا عبارةً عن «آليةً لدفع رسومٍ إضافيةٍ للقطريين» ليس أكثر.
وتحت ستار الاتفاقيتين المزعومتين، حصل حمد بن جاسم وشركاؤه على 320 مليون جنيه إسترليني (أكثر من 420 مليون دولار أميركي) في صورة رسومٍ سُدِدَت لصندوق الثروة السيادية القطري. كما قدم المصرف البريطاني قرضاً لشركة «قطر القابضة» - المملوكة لحكومة الدوحة - بقيمة 2.7 مليار جنيه إسترليني (أي ما يوازي ثلاثة مليارات دولار).
وأكد ريتشارد بوث - الذي يواجه إمكانية الحكم بالسجن عليه لمدة تصل إلى 10 سنوات حال إدانته - أنه فكر في مرحلةٍ ما أنه ربما يتعين على «باركليز» ورؤسائه أن يقولوا للمستثمرين القطريين بأن «يذهبوا إلى الجحيم».
ويُتهم بوث وجينكينز - جنباً إلى جنب مع جون فارلي الرئيس التنفيذي لمصرف «باركليز» وقت إبرام الصفقة وتوم كالاريس الذي كان مسؤولاً وقتذاك عن وحدة إدارة الثروات في المصرف وقتذاك - بإخفاء المعلومات الخاصة بالتعاملات المشبوهة التي جرت مع الدوحة عن المستثمرين في أسواق المال البريطانية، وهو ما يشكل انتهاكاً للقواعد التي يخضع لها المصرف باعتباره مُدرجاً في البورصة في المملكة المتحدة، ويلتزم بحكم القانون بالكشف علناً عن تفاصيل الاتفاقات التي يبرمها.
كما يُتهم المسؤولون الأربعة بالضلوع في دفع عمولاتٍ لحمد بن جاسم والجهات القطرية المشاركة في الصفقة، لحملهم على المسارعة بضخ مليارات الدولارات في شرايين المصرف. ويقول ممثلو الادعاء إن قيمة هذه العمولات بلغت أضعاف ما مُنِح للمستثمرين الآخرين في ذلك الوقت.
ونقلت صحيفة «دَيلي تليجراف» عن بوث وصفه لتلك الصفقة بأنها كانت «مروعةً وملعونةً». وأبرزت محاولته التنصل من مسؤوليته عنها بالقول إنه طالما أكد ضرورة ألا يلقى القطريون المشاركون فيها معاملةً تفضيليةً من أي نوع.
وأشارت الصحيفة إلى أن مسؤولي المصرف البريطاني المتهمين في القضية كانوا يرون طوال الوقت أن لدى «المستثمرين القطريين (الذين يشاركون في عملية التمويل الطارئ) شعوراً بأنهم يبسطون هيمنتهم على (باركليز) نظراً لأنه كان في حكم الميت من دون أموالهم».
وأبرزت «دَيلي تليجراف» ما ورد في اعترافات روجر جينكينز من أنه كان - وقت إجراء الاتصالات مع القطريين - لا يريد التورط في أي مخالفاتٍ متعلقةٍ بملف «العمولات» المثير للجدل، من أجل إنقاذ وظائف مسؤولين آخرين في المصرف، مثل جون فارلي المتهم معه في القضية، وبوب دياموند الذي لم يرد اسمه في لائحة الادعاء، وكان يرأس قسم الخدمات المصرفية الاستثمارية في عام 2008.
الاعترافات الأخيرة لـ «جينكينز» كانت كذلك محوراً لاهتمام صحيفة «فايننشال تايمز»، التي أشارت إلى ما قاله الرجل من أن فكرة إخفاء العمولات التي حصل عليها حمد بن جاسم وأعوانه تحت ستار إبرام اتفاقاتٍ وهميةٍ مع المصرف البريطاني «راقت للقطريين»، رغم المشكلات التي تنطوي عليها، خاصةً إذا عَلِمَ بها المستثمرون الآخرون الذين يحصلون على الأسهم بأسعارٍ أكبر.
وفي هذا الإطار، أشارت الصحيفة - المتخصصة في شؤون المال والأعمال في العالم - إلى أن ممثلي نظام تميم بن حمد أصروا خلال مفاوضاتهم مع مسؤولي المصرف على أن تبلغ نسبة العمولة التي سيحصلون عليها مقابل مشاركتهم في حزمة إنقاذ «باركليز» 3.5%، أي ضعف النسبة المعتادة التي لم تكن تتجاوز في المعتاد 1.75%.
وأسهمت هذه المطالب المُبالغ فيها إلى جانب الشبهات الأخرى التي اكتنفت ملابسات الصفقة، في دفع مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الكبرى في بريطانيا إلى فتح تحقيقٍ بشأنها في عام 2012، ليُجري خلال السنوات الست التالية لذلك تحقيقاتٍ شملت 40 شخصاً من بينهم 12 من كبار المديرين التنفيذيين لمصرف «باركليز».
وتحظى المحاكمة الجارية في القضية - والتي يُنتظر أن تستمر ستة شهورٍ على الأقل - باهتمامٍ واسع النطاق من جانب الأوساط السياسية والاقتصادية في بريطانيا، في ضوء أنها الأولى من نوعها التي تتناول تصرفات مسؤولين مصرفيين خلال الأزمة المالية العالمية.
كما تميط جلساتها اللثام عن جانبٍ من المحاولات القطرية المستميتة لتعزيز الروابط مع المؤسسات الفاعلة على مختلف الصعد في المملكة المتحدة، وذلك في إطار حملة حشد التأييد المكثفة التي أطلقتها الدوحة منذ فُرِضت المقاطعة على نظامها الحاكم منتصف عام 2017 من جانب الدول العربية الأربع الداعمة لمكافحة الإرهاب (السعودية والإمارات ومصر والبحرين).