عبير زيتون (دبي)

العلاقة مع الكتاب والقراءة هي علاقة حياة نوعية، فيها ذاكرة الرحيل السري إلى عوالم مختلفة وجديدة مع الفكر والفن والمعرفة، نلجأ إليها لجعل الحياة أكثر جمالاً ومتعة وفائدة.
في هذه اللقاءات حول الكاتب ومكتبته، يتحدث الكتاب والأدباء والفنانون والأكاديميون عن علاقتهم الشخصية مع المكتبة الخاصة التي شيدوها في أمكنتهم الحميمية، لنتعرف من خلالها على تاريخهم الشخصي مع عوالم الكتب والقراءة، باعتبارها سيرة حياة تحمل ذاكرة زمنية مضاعفة في طبيعة رحيلها الحقيقي مع عوالم الكتاب، ولا تقل أهمية في تفاصيلها عن تجارب الحياة الأخرى.
عن علاقتها الخاصة مع المكتبة؟ وكيف تشكلت؟ وممَّ تتكون؟ وماذا تقرأ الآن؟ والكتاب الذي أثر في مسيرتها الأدبية؟ تحكي الكاتبة والروائية لولوة المنصوري، بلغتها السرديّة العذبة قصة مكتبتها.

حكايات زينب وأنسابها
في زمن هادئ لم أصل فيه بعد إلى إدراك شكل المكتبة والوعي بماهيتها وسحرها أتذكر أن أول نظرة تلصصية كانت على أوراق صفراء وكتب جلدية مهترئة صُفّت على أرفف حجرية عتيقة مجوفة في جدار بيت في البحرين لامرأة تدعى زينب عبد الرحمن الشريف، تتقن قول الشعر وتروي الحكايات وتحفظ الأنساب.
هكذا بدأت لولوة المنصوري إجابتها عن سؤال: ما الذي جاء بكِ إلى عالم الكتب؟، لتضيف: في منتصف الثمانينيات عرفتُ شكل المكتبة، مفهومها، جوهرها، وشهدتُ تفاصيل تخلّقها ورائحة تكوّن جسدها الخارجي ثم شهدتُ على مدى سنوات لحظات نفخ النور بداخلها ونموّ وتطوّر تلك الرّوح. بعد أربعين عاماً من تجربة العبور في الحياة أستطيع القول إن أول مكتبة رأيتها في حياتي كانت مكتبة منحوتة بيد أبي، رحمه الله، رأيتُ تشكّلها وهي في مراحل النشر والطرق والتكوين المسماري على يد النجار الذي أتقن الخلوة والصمت العظيم مع الخشب. لا ترتاح عيني إلا بتذكّر عيدان أصابعه الدقيقة، خزانات عطر من خشب وماء بين ثنايا الأصابع، أمزجة رطوبة وعرق متداخل، رائحة لوح مركب خشبي يمتزج بملح البحر، وحين نحت مكتبة البيت صار البيت كله لأخشابه، وصوت البيت كله له، استند البيت على يديه، ولأجل فكرته أصبح البيت ميناءً للفكرة وغابةً من الضيوف، وكل ما له حضور وحياة ورائحة وادخار وقف احتراماً لخلوته مع الخشب، وليس في بال الخلوة غير الطريق إلى فكرته.

عالمي المعتق
في بيت الثمانينيات الكائن بمنطقة جلفار برأس الخيمة كانت لنا مكتبة من خشب الهند الأصيل يكسوها زخرف الماضي وفن الحاضر، لها رائحة شباب أبي وحكمة صبر أصابعه، كانت عالمي الفريد المعتق وركني الذي أُحب رغم صعوبة محتواها، تدريجياً بدأتُ أتعلق بكل ما يضيفه أبي إلى مكتبته رغم تباين اهتماماتنا، مكتبة متناقضة، علمية فلكيّة تراثية ودينية وأكاديمية عسكرية بامتياز كما حوت بعض الكتب عن تاريخ وقبائل الخليج العربي، أنظّفها شهرياً وأعيد تعبئة الأرفف بالمجلدات والصور والدروع والأوسمة والهدايا التذكارية. ثم أخيراً سمح لي النجار بأن أضيف كتبي الأدبية الخاصة إلى مكتبته، وكل ما يتعلق بدراستي الأكاديمية التي بدأت تتكاثر سنة بعد سنة، حتى صار لزاماً بأن تكون لي مكتبة خاصة في بيت والدي.
في شتاء عام 1999 امتلأ البيت مجدداً برائحة الخشب، وبتعالي دقات المطرقة وانخفاضها، اصطفت المسامير المعدنية على الدكّة المقابلة لحوش البيت، لقد راود الحنين أبي والشوق إلى سيرة النجار من جديد، وبهندسة متقنة وتخطيط مسبق نحت تفاصيل مكتبتي الخاصة، وصار لي في بيته مكتبة خشبية بيضاء حالمة وأنيقة ذات أبواب زجاجية، حوت كل جهدي الدراسي والبحثي والقرائي ومفضلاتي من الروايات والقصص والمجاميع الشعرية.
انتقلت هذه المكتبة معي إلى بيت الزوجية، وباتت تزدان وتنمو أكثر ولا تتسع الأرفف لاستيعاب أكثر من الحجم الأنيق المحدود، في البداية رفضت فكرة التخلي عن المكتبة التي فصلها أبي خصيصًا لي. وفكرت بأن أرفقها بمكتبة مجاورة رغم ضيق مساحة غرفة الضيوف، استبعدت التخلي عنها، كانت تحمل عبق سقف بيته، أصابعه الحبيبة المنتمية إلى الفن والإبداع بعفوية إنسانية والمتورمة من جراء قبضة المنشار والمسامير وضربات المطرقة.
إلا أني فوجئتُ ذات مرة في يوم التنظيف الدوري بتوغل حشرة الرمَّة التي أتلفت جزءاً عميقاً من جوف المكتبة، بدأت تزحف وتتغذى على المكتبة مهددة سلامة الكتب وصحة الأرفف. صار محتماً عليّ تجهيز مكتبة جديدة ذات قابلية أوسع لاحتواء الكتب المستقبلية، وجديرة بالكتب المضافة عبر الزمن.

كتب وشهادات تقدير
وعن محتويات مكتبتها تقول لولوة: تحوي مكتبتي الجديدة كتباً في التراث والأنثربولوجيا وفلسفات الحب في حضارة الهند والصين، والأساطير والحكايات الشعبية وأدب الرحلات المتنوعة والملاحم القديمة، وكتباً أخرى في الفكر الصوفي والفلسفي والروحانيات والسيرة والماورائيات، أما القسم الثالث والأوسط فيحوي أرفف مجلات ودوريات في التراث والأدب والفنون وكتباً للأسرة والصحافة والإعلام، إضافة إلى معاجم وقواميس لغوية، وقواميس فلكية وعلمية خاصة بوالدي، رحمه الله، وهي تعد الإرث العزيز والأغلى على نفسي من بين مجاميع الكتب. كما تحوي أرفف هذه المكتبة شهادات التقدير والمشاركات والدروع التذكارية والتقديرية وهدايا الأصدقاء.

طريق قديم.. سحب بيضاء
أنهت لولوة قبل أيام قراءة كتاب مشوّق، وفق قولها، يحكي بموضوعية عن سيرة المستنير بوذا وتعاليمه (طريق قديم.. سحب بيضاء) للكاتب الفيتنامي ثيت نات هانه، ترجمة الشاعر الإماراتي عادل خزام. أما الآن فتقرأ كتباً في النحت الصخري ولهجات أهل السراة، وفي جعبة قراءاتها المستقبلية بحوث في النظريات اللسانية والدلالة العربية المقارنة. أما الكتاب الذي أثر بها ويناديها باستمرار فهو المنظومة الشعرية «منطق الطير» لفريد الدين العطار، الذي يلاحقها - كما تقول - منذ سنوات و«الذي لا يهدأ من محاورتي وبث انسجامه العميق وأسراره الملهمة».
مثل الكثير من الكتاب والمثقفين والمفكرين تنحاز لولوة للكتاب الورقي، تقول: إلى الآن أجدني عاجزة عن قراءة كتاب إلكتروني، أتحيز للورق، للمتاح من الغابات والمزارع وللكتابة بأدوات الطبيعة، أتأمل السطور والهوامش، ألمح الغابات التي تنتشي على سطحها دون نهاية، وأشم رائحة البداية والبياض المحفز للأفكار، ثم أرسم عوالمي المتخيلة أو أضع علامات وملاحظات على الأرضية الراكزة.