إبراهيم الملا
ارتبطت قصائد الشاعر الإماراتي الكبير علي بن رحمة الشامسي مع الحالة الشعرية الزاهية والمحتدمة في الإمارات والتي ظلّت متواصلة منذ أواسط السبعينيات وحتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، عندما كانت برامج الشعر الشعبي في الإذاعات والتلفزيونات المحلية تتسابق وتتنافس على تقديم الأفضل والأجود من الجلسات المخصصة لتداول الشعر بين الرواد المخضرمين وبين الأصوات والمواهب الشابة حينها.
حضور علي بن رحمة كان مشعّاً وفارضاً لنفسه في هذه الجلسات الماتعة التي يتناوب فيها الشعر على تناول القضايا المحلية، وملامسة الأغراض الشعرية المختلفة من مديح وغزل ومساجلات وردود ومشاكاة وإهداءات ومجاراة، إضافة إلى طرح الإشكالات والظواهر الاجتماعية المحيطة بالحياة اليومية والتي تفاعل معها هؤلاء الشعراء واتخذوها مواضيع وهواجس دارت حولها قصائدهم بأبعادها الذاتية والعامة.
احتل الجانب العاطفي والغزلي المكانة الأعلى، والمحلّ الأسمى في قصائد علي بن رحمة الشامسي، حيث أبدع في هذا الجانب وكانت له إسهامات لافتة فيما يتعلق بتصدير الغزل العفيف إلى حواسّ متابعيه من المستمعين والمشاهدين، وكان تعاون المطربين الإماراتيين معه ملحوظاً، خصوصاً الفنان ميحد حمد الذي نقل قصائد علي بن رحمة إلى مرحلة جديدة وفارقة ساهمت في انتشار نتاجه الإبداعي الثري والمتميز والإقبال عليه وتداوله بين الناس، وكانت الكلمات العذبة والأسلوب السهل الممتنع في شعر الشامسي سبباً في تقبل الناس لهذه الأغنيات وحفظها وترديدها حتى اليوم، وذلك ضمن ذاكرة شعرية وموسيقية ممتدة وملامسة للوعي الجمعي الفني في المكان، ونذكر من هذه القصائد المغناة: «إذا مريت صوب الدار الأول»، و«أحبك يا نظر عيني غناتي»، و«يوم أمر واطلع دياره»، و«يا قمر سود الليالي»، وغيرها من القصائد التي شنفت آذان مستمعيها أثناء انتشار ظاهرة «الكاسيت» وسط الفئات العمرية المختلفة، وبين الشرائح المتنوعة في المجتمع، فكانت الأغنية هي المعبر الأهم للقصيدة النبطية في تلك الفترة الزاهية التي سيطرت فيها قصائد علي بن رحمة على المشهدين الشعري والفني بالإمارات ودول الخليج.
ويصف الدكتور عبدالعزيز المسلم، رئيس معهد الشارقة للتراث، الشاعر علي بن رحمة بأنه كان راعياً وحاضناً للشباب، ومن أكبر المشجعين لهم، يساعدهم في تنمية مواهبهم، ويستمع باهتمام إلى تجاربهم، حيث أنشأ مجلساً للشعر في منزله أسماه «مجالس الربيع» تجتمع فيه الأجيال الشعرية، كما ظل مستمراً في عطائه ومشاركاته في برامج الشعر، وشارك أيضاً في إعداد وتقديم العديد من البرامج الإذاعية الشعبية التي تدور حول الشعر والتراث.
ويذكر معاصرو علي بن رحمة الشامسي أنه قرض الشعر وهو لم يزل في الخامسة عشرة من عمره، وتمتع في يفاعته بالحفظ والفهم والحرص على حضور مجالس الكبار والاستماع للشعراء في مناطق الشارقة المختلفة، وساهم علي بن رحمة في تطوير مواضيع الشعر الشعبي واستلهام الفلكلور المحلي المتمثل في العادات البدوية وتقاليد أهل البحر، كي تتعزز قصائده بصنوف متنوعة من الصور الشعرية والتراكيب اللفظية التي تستوحي الماضي وتصيغه في إطار معاصر وقريب من نبض الشارع والحياة، ولذلك حظيت قصائد الشامسي بالاحتفاء والقبول والتفاعل منذ ظهوره كشاعر مجدد وصاحب لمسة راقية في فن القصيد، مع امتلاكه الرؤية الثاقبة لمجريات الأمور وتحولات النفس الإنسانية، وبالتالي ظلت إسهاماته الأدبية مؤثرة وحاضرة، محتفظة ببريقها مثل شعلة فائضة بالإبداع الخالص والمتفرد، سواء في حياته أو بعد رحيله.
لؤلؤة القصيدة
ولد الشاعر علي بن رحمة الشامسي في منطقة «الحمرية» الساحلية بالشارقة عام 1930 وعمل في بداية حياته كطوّاش «تاجر اللؤلؤ» وبعد اندثار هذه التجارة عمل في الخدمة الحكومية لمدة ثلاثين عاماً، وعاصر العديد من الشعراء المشهورين أمثال راشد بن سالم الخضر، وحمد بن سوقات، وحميد بن سليمان، وراشد بن ثاني، وحمد بوشهاب، وراشد المخيمري، وسالم الجمري، وربيع بن ياقوت، ومحمد الكوس، وراشد بن طنّاف، وغيرهم، وصدر ديوانه الأول في السبعينيات.
توفى علي بن رحمة في العام 2006 عن عمر ناهز ستة وسبعين عاماً، تاركاً خلفه مساحة شعرية فارغة، لم يملأها أحد بعده، وخصوصاً ما يتعلق بالشعر الغزلي الذي كان يكتبه الراحل بروحية منتمية لعشق متوثب ومتماه مع أحوال المحبّ ومع الانشغالات الذاتية المرتبطة بالوجد والهجر والفراق والشغف والذكرى واستجلاب اللحظات المبهجة عند رؤية المعشوق، واللحظات المثقلة بالحزن والانكسار عند غيابه، واضعاً كل هذه الأحاسيس المتداخلة والمتضادة في قالب تعبيري مرهف عززته المفردات المحلية.
خيالات
يقول علي بن رحمة الشامسي في قصيدته «غناتي» التي تحولت إلى أغنية مشهورة، وإلى عنوان لأحد دواوينه الشعرية:
احبك يا نظر عيني غناتي.. وأحب الأرض لي تمشي عليها
وأحبك حتى أكثر من حياتي.. وأسوم الروح لجلك وأشتريها
ويوم أذكرك وأنا في صلاتي.. يداخلني الفكر وأشك فيها
ويوم أذكرك في حزّت مقاتي .. أترك وجبتي لو أشتهيها
وتترجم هذه القصيدة الأسلوب السهل الممتنع الذي يعتمده بن رحمة في معظم قصائده، وهو أسلوب لا يخلو أيضاً من صور وخيالات مكثفة يتم توجيهها ضمن خطاب «الأنا» في مقابل «الآخر»، الذي يتحول بدوره إلى ذات منصهرة في الأنا، بحيث تزول الحواجز والحدود المفرقة بينهما، ويصبح الخطاب موجهاً بالتالي لكيان مشترك، وتصبح لعبة الضمائر مجرد وهم لذيذ، يجعل المتلقي للقصيدة في حالة من الانجذاب السمعي والنفسي تجاه مفردات القصيدة بمقاصدها الظاهرة والمباشرة والأخرى المستترة والرمزية.
البرّ
في قصيدة بعنوان «أحب البرّ» يقول بن رحمة:
أحب البر واشدّ الرحايل
وأدوّر قلب ضايع في البوادي
واشيّد خيمتي والدمع سايل
وانوح بصوت وأزقر بلحودي
وحمّس البن ما بين المقايل
غريم الشوق والورقا تنادي
وسلي خاطري بحلا المثايل
من الليعات واصفج بليادي
لكن الحب خذني بالدغايل
وخلاني معذب في ودادي
زرعت الحب في أرضٍ محايل
وقمت أسقيه من لولب فوادي
وفي هذه القصيدة تبرز براعة علي بن رحمة في المزج بين مكونات الطبيعة وبين حيرة المحب فيما يشبه الجناس والتطابق، فالأرض العطشى هي نفسها أرض الذات التي هجرها الحبيب وترك فيها بصمته وذكراه، وهي ذات الأرض التي يعود لها الشاعر اليوم كي يعيد إحياء طقوسه القديمة لعلها تشكّل فضاء جديداً من المشاعر المستعادة والتي يمكن أن يستدل بها «غريم الشوق» وأن يعيد الوصل، مثلما تعود المياه إلى مجاريها، وتروي وله العاشق المقيم في البوادي اليابسة والممحلة، وحيداً ومنعزلاً عن صخب الحياة وضجيجها، منادماً عذاباته وآلامه الموعودة بالخلاص والفرج، ومستفرداً بأحلامه وآماله القابلة للتحقيق والإنجاز.