من يرتدي من، الزيّ أم الجسد؟
نتساءلُ دائماً عن الهويّات الغائبة داخل الأقمشة، وعن الحقائِق الرَّاسخة في التّمويه، فالكثير من الأفراد تلبَسهم أثوابهم، فيما هنالك أشخاصٌ يبرزون مهما كان ما يرتدُون، أفراد تُخبّئهم الأقمشة وآخرون تختبئ فيهم، أقمشة على المقاس وأخرى تتوارى مثل المعاني خلف الكَلمات، ورغم هذا علينا دائماً الاقتناع بشيء هامّ، أن ما نرتِديه هو عبارة عن حوار عميق بين الذّات والمُجتمع، ديالوج من الإقبال والإعراض عن فكرة ما تستندُ أساساً إلى استفهام جادّ يُحوّل الجسم إلى إشارة نابضة تطرحُ أجوبتها عن طريق الأزياء، بالمقابل علينا الإيمان أيضاً بأنّه وإن كان الزيّ واحدا فلا يكون ارتداؤُه بنفس الطّريقة على أجساد مُختلفة التفاصيل، يمكننا تبنّي نفس الفكرة لكنّنا لن نشتبه مهما اعتقدنا.

لهذا نطرحُ أجوبة مرادفة للتساؤل، هل هو هويّة، معتقدٌ أم أنّة توهيم؟
هو أقربُ لفلسفة تقومُ بأدوارها الاجتماعيّة، هويّة قد تظهرُ في الملابس التقليديّة، وتوهيم يستطيعُ أكثر الناّس فظاعة التستر بأناقته، هو لفت انتباه، ويكون أيضاً وسيلة تاريخيّة تُعبر بها المُجتمعات عن ميولها ومُعتقداتها، فالخُطوط المستقيمة على الزيّ الفرعونيّ عبّرت عن الجديّة التيّ أوحت بالثبات والاتّزان والقوّة والشُّموخ، أمّا عند الإغريق فقد صاغُوه من مبدأ الحريّة الّذي تبنوّه فترجمته أزياؤهم الواسعة والفضفاضة التّي تحمل فتحات تُسهل حركة السير، وراح الرّومانيون يبالغون في زخرفة ما يرتدُون بعد استيلائهم على بلاد الإغريق ليبرزوا ثراءهم الفاحش الذي كان يعني السُّلطة، وحين ظهر الدين المسيحي اختفى أغلب هذا تحت رادع الاحتشام واعتناق الزُّهد، فبلور الفناّنون ذلك عبر تصاميم ابتعدت تمامًا عن التَّكلف، ثم جاء الدّين الإسلامي الذي أكدّ بدوره على ما أقرتّه المسيحيّة وزاد فظهرت الأزياء حسب التعاليم، بعدها انتقلت الأضواء إلى أوروبا في عصر النَّهضة في القرن الرابع عشر حين برزت المُوضة كحرفة، لكنّ المُصمّم الإنجليزي تشارلز وورث قفز بها إلى الإبداع حين كسر القيود الفنيّة القديمة بين الحرفة والفنّ وكانت تلك نهاية العصر التقّليدي، ومع الحركة الديناميكية السَّريعة في القرن العشرين، أصبح التّصميم يعدُّ فن البحث عن الحقيقة لارتباطه المبُاشر بتطوّر الفنون من التأثيريَّة إلى الوحشيّة إلى التّكعيبية وغيرها من المدارس فكسرت ثورة القماش على ذاته القوالب النمطية وصممت امتداداً جديداً يبدأ بالفنّ ولا ينتهي عند أي جسد.

التفكير عبر الأقمشة
إن كانت الفكرة تُصمِّم موقفاً فهل تستطيع أن تكون تصميماً؟ هل نفكّر أيضاً عن طريق الأقمشة؟
يُعبّر القُماش عن المادّة الخام التّي من خلالها يُمكننا نحت التَّفاصيل الدَّقيقة لغِمار الأفكار، أمَّا المِقص فهو وسيلة إبداع لتحقيق تلك العواطِف، إنّه الرّيشة التّي من خلالها يُمكن للفنَّان توصيل موقفه من العالم للعالم، أمَّا الجسد فيتحوّل إلى عارض يقُول ما يؤيِّده ويؤمن به عن طريق الارتداء، فاللّباس طريقتُنا في الحديث وتبنِّي اتجاهات دون أن نقُول شيئاً، ففي حياتنا العامّة أو في مناسبات عامة أو في أيّ مجال، يكفي رؤيتنا للآخرين حتى تبدأ الأجوبة البديهيّة عنهم في التكوين، فلن يكون لك فرصة للحديث مع الجميع عن أفكارهم، لهذا تتكفل الأزياء بإدارة حوارها السّريّ علناً، إنّها رسالة اجتماعيّة صامتة تفتح لك مجالاً ولو كان ضيقاً أو مبدئياً للتّعرف على الأشخاص ويوضح هذا مقولة للمُصمّمة ميوشا برادا «ما ترتدينهُ هو بالتّحديد الأسلُوب الذي تختارين تقديم نفسكِ به وخاصّة في عصرنا اليوم، فالموضة باتت لغة معبّرة وفوريّة»، ربما لهذا اعتبرت المصمّمة كوكو شانيل المِقصّ طريقتها في التَّعبير عن أفكارها الثوريّة، فقد كانت تقصُّ القُماش على دمى العرض وعلى الأجساد وفي كلّ مكانٍ كانت ترى الزاَّئد منه لأنَّه بلا فائدة، يجعل فكرة المنظر قبيحة مردِّدة: أنا أقصُّ كلَّ شيء أراه بلا فائِدة، حتى أصبحت أزيائي قطعاً صغيرة، في حين يُجسِّد القُماش القِطعة القابلة للتَّعديل دائماً مثل الأفكار تماماً وهذا ما جعلها تتعاملُ معهُ بحساسيِّة ملموسة عالية، تطويه تُمزّقه وتُعيد إقامة إرادة جديدة بخياطته، إنَّها فكرة التَّجديد بعينها، وتجلّى هذا في تحرير النساء من تقليد المِشدّ وأعطتهن تلك الراحة والحريّة، ولعلّ فستانها الأسود القصير الذي دخل التّاريخ لدرجة أن مجلة فوغ أطلقت عليه فورد، لأن العالم كلّه كان يريد الحُصول على واحدة منه يعبّر عن صلابتها أمام التقليديّ، فقد حمل في قَصَّته ولونه أحزان الكثيرات اللَّواتي رافقت الجنازات تفاصيلهن بعد الحرب في أوروبا الغربيّة، وتحوَّل إلى رمز للشَّجاعة والاستقلال، ألم تقل يوماً إنَّ الموضة لا تتعلَّق بالملابس فقط، وإن لها أثرا على كلّ شيء في السّماء في الشارع، بل إنه واجبٌ عليها أيضاً الاهتمام بالأفكار، وبالطَّريقة التي تحياها وبما يحدث حولنا»، فنحن نعلمُ أنّ دراسة التّصاميم كفكرة هي امتداد لدراستها كفن يجعلكَ واعياً ليس فقط بالتّيارات الفنيّة المُختلفة، بل أيضاً بالفلسفة التي أفرزت تلكَ التيارات وأثَّرت عليها أو تأثَّرت بها، وهذا ما يُعطي التّصميم عمقاً فنياً وفلسفياً ينعكس كإبداع.

فلسفة الزي
كيف اعتنى التَّصميم بالفنّ وكيف اغتنى التَصميم بالفنّ؟
باعتبار الزيّ فلسفة يقدمها الإبداع عن طريق أدوات جديدة، سهّل على الفُنون نقل انطباعها إلى أزياء النَّاس، فارتدُوا أجمل اللّوحات وتبنُّوا أكثر الأفكار تجديداً عن طريقها، وفيما اعتُبر الجسد مبعثاً لكثير من الفَّنانين ومسرحاً لتناول فُنونهم معتبرينه أداة ثمّ مصدراً ثم إلهاماً يحملُ قيماً جمالية، درسها الفنَّان وحلّلها ثم قدَّمها بصياغات جديدة، جاء فنّ الأزياء من الاتِّجاه المُعاكس، فلم يبدأ منه بل وصل إليه، إذ اعتبره هدفاً لا مصدراً، يظهر هذا على تاريخ تعاقب المُوضة عبر العصور، فاندمجت المُوضة بالفنّ وتداخل الفنُّ بها إلى الحدّ الذّي أصبح فيه من الصّعب التّمييز بين الاثنين، وغدا الجسد متحفاً متحركاً بينما تحوَّلت الملابس إلى أفكار إبداعيّة وتجديديّة كسرت المفاهيم النَّمطيّة التّي حدَّدت علاقة جامدة بين الاثنين، وكانت مصممة الأزياء إلسا سكياباريلي صاحبة الروح الفنتازية المرحة والسوريالية بالفطرة أحد الرُّموز الرّائعة التّي سطعت تحت هذه السّماء، فلطالما اعتبرت التَّصميم عملاً فنياً ممتعاً ككتابة مقال مثلاً، وجسَّدت هذا المنظوُر في الأفكار التّي كانت تصُوغها ثمّ تقدّمها لدار لوساج للتَّطريز، فتقوم الدّار بتحويل تلكَ الأفكار إلى تطريز، ولأنّنا نُدرك أنّ نجاحك الحقيقيّ هو ما تُشارك به الآخرين عنهم، فإنّ النتائج التي حصدتها إلسا عن دراية بهذا الأمر، لقد جاءت في وقت الكَساد العالميّ الذي كان في حاجة ماسَّة للمرح فقدّمته له في فترة الثلاثينيات، فانبهر بها كوكتو وكان تقديمها قلم رصاص لهُ عبارة عن عملٍ معاً تخيّلا فيه الكثير من الأزياء التّي تركت بصمتها الخالدة، لكن تبقى معرفتها أبا السُّوريالية سلفادور دالي علامة فارقة، كانا يُشكلان تكاملاً فنيا، استفادا من بعضهما البعض، ومثل كوكتو عبر دالي انبهاره بإلسا بطريقته الفنيّة الخاصَّة، إذ كانت إلسا تظنُّ أنّها قبيحة فتخيّلت يوماً نفسها بأزهار تنمُو خلف أُذنيها، فقرَّرت وضع بذُور في أنفها وأذنيها معاً حتى كادت تختنِق، ونظر دالي إلى هذِه القصّة الطّفولية بروحه السُّوريالية، وترجم افتتانهُ ذلكَ بابتكار المرأة ذات الرَّأس المُزهر، ومعاً استمدَّا الوحي من الشّخصيات السوريالية في هذهِ اللَّوحة وصمَّما فستان الدُّموع ذا القِطع الممزّقة الخياليّة، وفي نفس الفترة طلبت سكياباريلي من دالي أن يرسم كركدناً على أحد فساتينها للسّهر بعد أن استوحت هذه الفِكرة من إحدى صوره التّي التقطها، وفوراً شاهد العالم هذهِ اللّمسة الفنيّة على غلاف مجلّة فوغ حين ارتدته دوقة وينزر بعد بضعةِ أشهر من تنحّي زوجها، واستمرّ المرح معهما حين اعترف دالي بأنّه يُحب الاستلقاء واضعًا حذاءً على رأسه لتُحول إلسا ذلكَ سريعاً إلى قبعة ارتدتها غالا زوجة دالي دون تردّد، الأمر ذاته ينطبق على عرض الباليه الرّوسي «القطار الأزرق» الذّي جمع شخصيّات من القرن العشرين، ومن خلاله كان هنالك كوكتو وستارة عرض من تصميم بيكاسو وموضوع من كتابة لورانس وموسيقى من ألحان ميلو، وجاءت الأزياء التّي وضعت تصاميمها الرَّائدة والمجددة غابريال شنال فاكتملت التحفة فنياً وفكرياً.
إن كان الزيّ هو فنّ التعبير عن العواطف والأفكار فهل تُدير أقمشتنا اليوم حديثاً من طرف واحد؟