لم أستوعب أن تمر مرورَ الكرام، زيارةُ الناقدة والمنظرة الهندية البارزة جياتري سبيفاك، إلى القاهرة لإلقاء محاضرة في مؤتمر تنظمه الجامعة البريطانية بالقاهرة، نهاية الشهر الماضي، هكذا، ولولا منشور عابر على فيسبوك لمرَّت الزيارة دون أن يعلم بها أحد أو تستوقف أحداً!
ليست «سبيفاك» بالتي يمكن أن تمر زيارتها إلى بلد من البلدان بهذا الصمت الكابي، إنها واحدةٌ من أهم وأكبر المنظرين والنقاد والمفكرين في العالم، امتدت تأثيراتها في الفكر والنظرية النقدية في العالم كله، شرقاً وغرباً.
هذه السيدة التي أنتجت أفكارًا (ضمن مجموعة من الأسماء البارزة، منها الفلسطيني إدوارد سعيد، والباكستاني إعجاز أحمد، والهندي هومي بابا، فيما عرف بنقاد ما بعد الاستعمار، ثم دراسات النقد الثقافي) أحدثت ثورة حقيقية في مجال النظرية النقدية، والنقد الثقافي، وأسست لما عرف بنظريات (التابع ينهض أو يتكلم) في مجال الدراسات الثقافية. لا يوجد مشتغل بالنقد النظري والدراسات الثقافية لا يعلم من هي سبيفاك وقيمتها وأثرها في العالم كله.

(1)
تعود شهرة جياتري سبيفاك في الثقافة العالمية (وضمنا الثقافة العربية) لأسباب كثيرة، منها أنها واحدة من أهم وألمع العقول المفكرة المعدودة في عالمنا المعاصر، سواء بإنجازاتها المعرفية والفلسفية التي لم يتوقف تدفقها إلى اليوم، أو تأثيراتها الفكرية العابرة للأقطار والقارات. ومنها أن إنجازاتها تلفت الانتباه بثرائها الكمي والكيفي الاستثنائيين، فهي واحدة من النقاد القلائل الذين لا تقل غزارة إنتاجهم عن عمق فكرهم وجذريته في آن. ولذلك لا تخلو موسوعة عالمية في مجالات النقد والفلسفة أو غيرها من فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية، بل الفنون، وبما في ذلك الفروع القديمة كالنقد الأدبي، والمحدثة كالنقد الثقافي، من التقديم المسهب لأفكار «سبيفاك» التي تزايدت شهرتها في الأعوام الأخيرة أضعاف ما كانت عليه قبل عشرين عاماً مثلًا.
ولعل ذلك هو السبب في ترجمة العدد العديد من كتبها إلى لغات العالم، في حركة موازية لحركة شيوع أفكارها الجذرية ومراجعاتها النقدية والمعرفية معا.
أثارت زيارة سبيفاك شجونا وذكرياتٍ أعتز بها منذ فترة الطلب والدرس والتلقي، أذكر جيدًا أنني سمعت اسمها لأول مرة من جابر عصفور في المحاضرات التي كان يلقيها علينا في مادة «مذاهب النقد الأدبي» (في مرحلة الماجستير، بكلية الآداب جامعة القاهرة، سنة 2002)، وأذكر آنذاك أن حماسه كان جارفًا لشرح أفكار سبيفاك، ووضعها في سياق تطور النظرية النقدية المعاصرة، من البنيوية إلى التفكيك، وصولًا إلى ما يجاوزهما من نظريات ما بعد الاستعمار، والنقد الثقافي.
وأذكر جيداً أنه أحالنا إلى بعض نصوصها التي كلّف واحدًا من أنبغ تلاميذه «حسام نايل» لنقلها إلى العربية ضمن حركة ترجمة نصوص النقد المعاصر (من البنيوية وما بعدها) إلى العربية. كما أذكر ما قرأته عنها لرضوى عاشور في دراساتها عن الرواية الأفريقية (التابع ينهض)، ومحسن الموسوي (في دراسته عن مواجهات إعجاز أحمد)، ثم ترجمة سامية محرز لإخدى دراساتها المهمة.
ترجم حسام نايل، فيما أذكر، المقدمة المستفيضة التي كتبتها لترجمتها الإنجليزية لكتاب دريدا (علم الكتابة)، ووضحت في هذه المقدمة مراجعتها الجذرية لتيارات الحداثة وما بعدها ليندرج إسهامها في الدائرة التي ضمت الأسماء الألمع في الدراسات النظرية في العالم كله.
وتداعت الذكريات وطفت على السطح قراءات ونصوص واستحضارات معرفية وأفكار مهمة مثلت طفرة حقيقية لطالب وباحث في مستهل حياته البحثية يحاول أن يستكشف المنجزات المنهجية والنظرية والتحليلية ليستعين بها في مقاربة همومه ومشكلاته المعرفية النظرية والتطبيقية على السواء.

(2)
كان نطق الاسم كاملا (خاصة الثاني «تشكرافورتي») ثقيلًا للغاية، وكان استيعاب الأفكار التي أنتجتها صاحبة الاسم أكثر عسرا وصعوبة، في ذلك الوقت (أواخر التسعينيات من القرن الماضي.. منذ ثلاثة وعشرين عاماً بالتمام والكمال!)
بالكاد كنت انتهيت من قراءة النصوص الأساسية في تيارات النقد المعاصر (من البنيوية إلى ما بعدها). كان الانتقال من التفكيك إلى نقد ما بعد الاستعمار (بوست كولونياليزم) يستدعي هدنة ولو بسيطة. في ذلك الوقت صدر عن المشروع القومي للترجمة بالقاهرة، عام 2002، كتاب اسمه «صور دريدا» ترجمة وتقديم حسام نايل (سيكون أحد أهم وأبرز المعابر المعرفية لفكر التفكيك ونصوصه وتشعباته المعرفية في الثقافة العربية). وأذكر أن الدكتور جابر عصفور في واحدة من محاضراته قد وزع علينا نسخًا من الكتاب، وطلب منا أن نكتب تلخيصاً وافياً له.
كان هذا الكتاب أول اتصال مباشر مع المنظرة والناقدة الهندية جياتري سبيفاك التي يتردد اسمها ضمن أبطال الموجة التالية للبنيوية، وما بعدها.
لم يكن الكتاب سهلاً بالمرة كان شديد الصعوبة، وللأمانة فإن ذلك لم يكن راجعاً للترجمة بقدر ما كان يعود إلى أسلوب الكاتبة نفسها (أشار الدكتور ماهر شفيق فريد، مراجع الكتاب إلى ذلك في مقدمته).
وبدأت أعي، شيئاً فشيئاً، أهمية الدراسة الأولى في الكتاب، وكانت بعنوان «مدخل إلى الجراماتولوجيا»، ففي عام 1976 قدمت سبيفاك لترجمتها كتاب جاك ديريدا الأساسي «علم الكتابة» أو (أون جراماتولوجي) إلى الإنجليزية، والذي ترجم إلى العربية ب «في علم الكتابة» أو «عن علم الكتابة»، قدمت سبيفاك بدراسة بالغة الأهمية في الدلالة على عمق تأثرها بفلسفة ديريدا التي انبني عليها إسهامها اللاحق في «خطاب ما بعد الكولونيالية».
مضت جياتري إلى تفكيك الخطاب الكولونيالي بمجمله، بوصفه خطاب هيمنة لا سبيل إلى مواجهته إلا بنقضه.
ولم تكن ترجمة كتاب دريدا إلى الإنجليزية التي اضطلعت بها سبيفاك عملية سهلة على الإطلاق، وقد أشارت هي بذاتها إلى الجهد المضني الذي بذلته في الترجمة، آنذاك، ترجمة لا ينهض بها إلا المتمكنون في المعرفة بأصول ديريدا الفكرية، وجذورها الضاربة في الفلسفة الألمانية بوجه خاص، فضلاً عن كثافة تناصاته التي تشبه إحالاته وإلماحاته.
وقد أحدثت الترجمة -فور صدورها- تأثيراً ملحوظاً في عملية استقبال فلسفته في الولايات المتحدة، ومن بعدها العالم الأنجلوفوني. وكان ذلك بسبب ما كشفت عنه الدراسة والترجمة من عمق فهم المترجمة لفلسفة ديريدا، وتقديمها الكاشف لأصولها. وهو تقديم يرهص بالتوجه الذي تميّزت به كتابات سبيفاك في ما بعد، خصوصًا في منحاها الذي يصل ما بين النزعة النسائية، وخطاب ما بعد الكولونيالية.

(3)
لقد فتح خطاب ما بعد الكولونيالية أبوابًا جديدة من البحث في قضايا إشكالية، مثل «الأنا والآخر»، و«المحلية» و«الخصوصية»، و«التهجين»، فضلا عن قضايا «الهجرة»، و«الشتات» أو «المهاجر» و«المنافي»، ونشأ ما يعرف بدراسات «التابع» فضلاً عن تعدد لغات الكتابة أو الكتابة بلغة مستعارة غير اللغة الأم... إلى آخر ذلك من القضايا والموضوعات التي لم تكن تدخل، تقليديا، في دائرة النقد الأدبي والنظرية الثقافية، وهو ما يبرز إلى أي مدى أسهمت جياتري سبيفاك مع زملائها من أقطاب النظرية، والنقد الثقافي، في دفع عجلة تطور الفكر الإنساني والوعي الثقافي العميق بالأنا في مواجهة الآخر ومشكلاتها.