معركة الغاز وغياب سياسات الطاقة الأوروبية
مع فقدان أجزاء من أوروبا الشرقية للتدفئة بسبب نزاع الغاز الطبيعي بين روسيا وأوكرانيا، يعترف عدد من المسؤولين في أوروبا بأن عليهم أن يكثفوا جهودهم من أجل منع روسيا من التحكم أكثر في هذا السلاح الاستراتيجي· ففي بلغاريا، التي تعتمد على روسيا في كل احتياجاتها من الغاز تقريباً، تسببت الأزمة في إغلاق العشرات من المدارس والمصانع؛ بينما تفيد وسائل الإعلام البلغارية بأن آلاف السكان في مدن رئيسية مثل فارنا وبورجاس باتت من دون تدفئة وغاز الطهي· وقد أدت الأزمة إلى تهافت الناس على اقتناء أجهزة التدفئة الكهربائية عبر البلاد، غير أن الإفراط في استعمال هذه الأجهزة تسبب في انقطاع قصير للتيار الكهربائي في العاصمة صوفيا يوم الأربعاء الماضي· وتقول ''دانا إيفانوفا''، بائعة الصحف في صوفيا: ''لا أعرف لماذا يفعل الروس هذا بنا، فنحن أصدقاء!''· وتضيف ''إيفانوفا'' قائلة إنها لم تعد تزيل معطفها حين تدخل بيتها بعد العمل في شوارع المدينة الباردة·
اليوم، تخلى الاتحاد الأوروبي عن مقاربته التي كانت تقوم على عدم التدخل، محاولا حل حرب الغاز الشعواء المستمرة منذ نحو أسبوع بين روسيا وأوكرانيا· فبعد اجتماعات مع مسؤولين من ''غازبروم'' الروسية و''نافتوهاز'' الأوكرانية في بروكسل يوم الخميس الماضي، قال المتحدث باسم المفوضية الأوروبية ''جوهانز ليتنبرجر'' للصحافيين إن أوروبا تتوقع من موسكو وكييف أن تحلا خلافهما وإلا فسيتعين عليهما أن تتحملا عواقب وخيمة، مضيفا: ''المشكلة الآن هي مشكلة أولئك الذين فقدوا إمداداتهم من الغاز؛ أما على المديين المتوسط والطويل، فالمشكلة تتعلق بأولئك الذين سيثبت أنه لا يمكن الاعتماد عليهم في التزويد بالغاز··· وهذا يعني بالطبع أن الزبائن سيضطرون للتفكير في بدائل''·
وفي الآونة الأخيرة حاول الاتحاد الأوروبي الالتزام بموقف ''محايد'' من النزاع المركزي بين موسكو وكييف؛ ولكن ذلك لم يكن ممكنا في ظل مواجهة النمسا والمجر وسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا، إضافة إلى كرواتيا والبوسنة الطامحتين إلى الانضمام إلى الاتحاد، لانقطاع الغاز الروسي، حيث يعتزم الاتحاد الأوروبي إرسال مراقبين للتحقق من إمدادات الغاز بين روسيا وأكرانيا، بعد أن حذر رئيس المفوضية الأوروبية ''مانويل باروسو'' كلتا الدولتين من أن من شأن استمرار انقطاعات الغاز أن يضر بالعلاقات·
وقد خلق غياب سياسة أوروبية مشتركة للطاقة في وقت انخفضت فيه درجات الحرارة إلى ما دون الصفر وعمدت فيه روسيا لقطع إمداداتها من الغاز شعوراً بالاستياء والتذمر بين دول الاتحاد الأوروبي الصغيرة التي تشعر بأنها خُذلت وتم التخلي عنها لتواجه مصيرها بمفردها· ذلك أن الاتحاد الأوروبي لا يتوفر على مقاربة مشتركة بخصوص الطاقة، حيث تدافع كل دولة بمفردها عن مصالحها لدى موسكو· ونتيجة لذلك، فإن الاتحاد الأوروبي، وعلى غرار عام 2006 حين هددت موسكو بقطع الإمدادات، يجد نفسه اليوم أمام أزمة حقيقية، ولكن الضغوط تتزايد عليه من أجل التحرك· فقد هددت بلغاريا يوم الأربعاء الماضي بإعادة فتح مفاعل نووي كان إغلاقه جزءاً من اتفاق يسمح لهذه الدولة البلقانية بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي· وحسب ''جون كاتريمر''، الذي يدير مدونة فرنسية على الإنترنت تعنى بالشؤون السياسية للاتحاد الأوروبي، فإن أوروبا غير قادرة اليوم على التحدث بصوت قوي موحد لأن روسيا تفاوضت مع الدول الأوروبية بشكل فردي وأبرمت معها اتفاقات تخدم مصالح بعض البلدان الأوروبية الكبيرة إذ يقول: ''إن فرنسا وإيطاليا وألمانيا تربطها علاقات تفضيلية مع موسكو من دون تنسيق أوروبي، وهي لا تنوي تعريض هذه العلاقات للخطر''· غير أن أزمتي المال والطاقة خلال الشهر الماضي أرغمتا أوروبا على التوحد والتلاحم، حسب كاتريمر الذي يقول: ''لقد ساهمت وول ستريت وفلاديمير بوتين كثيرا في مشروع الوحدة والبناء الأوروبي''·
وتطالب روسيا أوكرانيا بدفع أسعار السوق مقابل الغاز، الذي تمدها به وأن تتحلى بقدر أكبر من المسؤولية بخصوص أنبوب الغاز، الذي يمر عبر أراضيها وينقل الغاز الروسي إلى الغرب (يذكر هنا أن أوكرانيا دفعت العام الماضي متوسط 179 دولارا عن ألف متر مكعب من الغاز، أي أقل من نصف ما يدفعه المستهلكون الأوروبيون)· غير أنه حين رفضت كييف زيادة الأسعار في ،2009 قامت ''غازبروم'' بقطع حصة أوكرانيا من أنبوب الغاز· ويقول الأوكرانيون إن تغيير الروس لكمية الغاز الموجهة إلى أوروبا تسبب في النقص المسجل، في حين ترد موسكو بالقول إن أوكرانيا ''تسرق'' الغاز بدون استحياء· وفي بيان رسمي صدر هذا الأسبوع، طلبت ''غازبروم'' من الأوروبيين التفهم قائلة: ''إن غازبروم تدرك مسؤوليتها عن التنفيذ الصارم لعقود إمداد شركائها الأوروبيين بالغاز، وتقوم بكل ما في وسعها من أجل تقليل العواقب السلبية الناجمة عن أعمال أوكرانيا غير القانونية··· وبتصعيد أزمة الطاقة، فإن أوكرانيا إنما تضر بنفسها''·
ويجادل عدد من الخبراء الروس بأن ما تقوم به أوكرانيا ينبغي أن يدفع الأوروبيين إلى الاعتراف بأن كييف ليست شريكاً مناسباً، سواء تعلق الأمر بانضمامها إلى ''الناتو'' أو مجرد استيفاء الشروط والمتطلبات التجارية· وفي هذا السياق يقول ''فياشيسلاف إيجرونوف''، مدير ''معهد الدراسات السياسية والإنسانية'' المستقل في موسكو: ''في ظل هذا الوضع المتوتر -ليس بسبب الغاز فقط؟ على أوروبا أن تدرك أنه لا يوجد بديل للعمل والتعاون مع روسيا، سواء الآن أو في المستقبل القريب''·
ولكن بعض الخبراء يحذرون من أن روسيا الساعية بشكل متزايد إلى تأكيد وفرض نفسها كقوة عالمية تسبب أزمات هدفها تركيع دول سوفييتية سابقة تسعى للاستقلال عن النفوذ الروسي مثل أوكرانيا· وفي هذا السياق ترى ''تامي لينتش''، المحللة من ''معهد دراسات النزاعات'' بجامعة بوسطن، أن موسكو استعملت في جورجيا الصيف الماضي طرقا عسكرية لتذل جارا جامحا، معتبرة أن قطع إمدادات الغاز تكتيك مماثل تحركه دوافع سياسية إذ تقول: ''إذا استطاعت روسيا تحقيق أهدافها عبر قطع الغاز عن أوروبا، رغم وجود عقود سليمة، فإنها ستدرك أن هذا النوع من السلوك يمكن تكراره في نزاعات أخرى؛ فقد استخلصت روسيا الدروس من عدم قيام أوروبا بالرد على أعمالها في جورجيا، وستستخلص درسا مماثلاً من هذا النزاع''·
فريد وير - موسكو
ينشر بترتيب خاص مع خدمة كريستيان ساينس مونيتور