صالحة عبيد

قد نستيقظ من غفوة أحياناً أو من نوم عميق لنسأل في أي زمن نحن وأين؟ ولعلي لطالما رأيت في لحظة الخلخلة العابرة تلك ما يؤكد تشاركنا في اللحظة الجمعية التي بدأت منها الأسئلة الأولى من نحن؟ في أي زمن وأين؟ مرتبكين في لحظةٍ آنيةٍ من قلق، هي في أصلها الذات الجمعية القلقة التي تحاول أن تصل إلى طمأنينةٍ ما، فتفتش وتجرب وتبتكر مراكمة الإجابات المحتملة.

في كتابه «الطمأنينة الفلسفية» الصادر عن دار التنوير 2019 والواقع في 238 صفحة مقسمة على خمسة فصول رئيسة هي (الطمأنينة وإصلاح الذات، الطمأنينة وإصلاح الحضارة، الفلسفة وإصلاح الكينونة، تمارين العيش الحكيم، الفتنة والإصلاح)، يذهب سعيد ناشيد ليقدم تحليلاً أولياً للزمن الذي نحن فيه، فما الذي تبقى مع أخذ البعد التاريخي والاجتماعي والسياسي للأمر- ما الذي تبقى بعد انهيار منظومات لم تجلب وفق المفهوم الشمولي سوى الحروب التي دمرت الإنسان على مستوى الحضور الفيزيائي، سنوات طويلة من الاقتتال والموت وفق رؤى أحزاب، بينهم بشرٌ يساقون إلى الموت على هيئة فصائل تؤمن بالهدف الأسمى للإنسان، تلتها أزمنة من التفرقة الإيديولوجية التي تكاد تلغي فيها كل جماعة الحضور الفكري والذهني للجماعات الأخرى معيقة نمو السؤال الإنساني كما يجب، وهو يتعاطى الأفكار كلها من أقصاها إلى أقصاها. وذلك قبل أن يأتي أخيراً زمان العلوم التي سهلت الوصول إلى كل شيء إلا تلك الطمأنينة المنشودة بل إنها راكمت في خضم ما تقدمه من إجابات مبتورة تساؤلات الذات والمكان والزمان في شكل أكثر رعبا، حدى بالكثير للبحث عن الإجابات بالردة نحو التطرف الديني أو الإيديولوجي، حتى في زمان ما بعد انهيارها.

استعادة السؤال
فما هو المسار الصحي لإكمال رحلة السؤال الحضاري؟
يجيب «ناشيد» هنا بمصطلح «الأتراكسيا» وهي الطمأنينة وفق التعريف المناسب باللغة العربية، تلك الطمأنينة التي قد يكون لها أن تتحقق في زمن ما بعد الدين وما بعد الإيديولوجيا، وزمن سيطرة العلوم المادية على الروح بطرق السؤال الفلسفي، بالعمل على انتشال الروح من جمودها الذهني لمعالجة توترها الوجودي القائم، بمواجهة كل أسئلة الوجود الممكنة، وهي تواجه الخوف والفناء، فيقول ناشيد هنا:
«حين لا نشعر بالخوف، لا نشعر بالحزن، ولا نشعر بالغضب، ولا نشعر بالأسى ولا الحقد ولا الأسف، لا مشكلة في الأخير إلا فيما نعتبره مشكلة ما معنى ذلك؟ معناه أن بداية الحل- هي أن نعيد التفكير في المشكلة أن نعيد التفكير في طريقة تفكيرنا بها أن نفكر في صيغتها وصياغتها، أن نفكر في فهمنا وتصورنا لها، أن نعيد بناء تأويلنا لها. بداية الحل أن نبحث عن الحل داخل مفاهيمنا وآرائنا وتصوراتنا أي داخل ذواتنا بالذات، فالجذع المشترك لكل المشكلات هو مشكلة العلاقة بالذات، الأمر الذي يعيدنا إلى قاعدة سقراط الفلسفية الكبرى «اعرف نفسك». والذي منه تنبثق فكرة العود الفلسفي اليوم انطلاقاً من النفس مروراً بالآخر والمحيط الاجتماعي والسياسي بل وحتى الاقتصادي. وهو الأمر الذي ينقلنا إليه «ناشيد» وهو يتناول علاقة استمرارية السؤال الذاتي للإنسان بتقدمه حضارياً، وفق الحاجات الروحية الجديدة التي يجب أن تأتي في تراتبية أعلى من تلك التقليدية منها المرتبطة بالعبادات المتعارف عليها، وعليه يقول «ناشيد» «تقوم روحانيات ما بعد الأديان على ثلاثة مبادئ أساسية: المبدأ الأول: الحريات الفردية، بنحو يتيح لكل فرد أن يحقق نموه الخاص، بعيداً عن مسائل القدوة والتنميط، المبدأ الثاني: الجماليات الروحية، ذلك أن الخبرات الدينية التي ستستمر في المستقبل هي التي تغذي حاجة الروح إلى الجماليات، المبدأ الثالث: وحدة النوع البشري، من خلال التركيز على الحدس الروحاني الذي تشترك فيه البشرية بكل أديانها وثقافاتها والذي لا ينتمي إلى حقل محدد بل يخترق كل حقول النشاط الإنساني من قبل روحانية الموسيقى، روحانية المعمار، روحانية الزمان والمكان واللامتناهي، روحانية القيم الوجدانية وعلى رأسها المحبة والرحمة والحكمة والغفران» وهي مبادئ لا تنمو إلا بالتأمل في فلسفة الروح مجردة من كل حدود، تلك التي تبني الإنسان القادر على الحياة والذي بدوره سيصنع الحياة المحيطة به حضارياً.

الوعي النقدي
يلفتنا «ناشيد» في موضع آخر وهو يربط بين الطمأنينة الفلسفية والنمو الحضاري للإنسان إلى أهمية الوعي النقدي الذي يرفض النظر إلى أي صورة باعتبارها اكتمالاً من دون شوائب أو نهاية لا جديد بعدها، ولا صواباً أبديا من دون هفوات وأخطاء تحتاج إلى التقويم، خصوصاً في مسألة «العلمنة والحداثة»، ومن هنا قد يسأل البعض عن كيفية الربط بين الطمأنينة وعدم الاستقرار، ليجيب «ناشيد» بما يعنيه القول بأن الكينونة التي تنمو بنمو الحس النقدي تستقر أكثر ما تستقر وعي تدرك أن لا نهاية، وأن هناك جديداً دائماً، يحميها من الجمود والاضطراب والارتداد أمام المتغيرات الكبرى، فلا ثابت إلا المتحول.
وبالحديث عن الكينونة، فإن ناشيد يؤكد في القسم الثالث من الكتاب أن لا كينونة لها أن تستقيم لتحقق انتعاشها الطبيعي من دون مهارات فلسفية دائمة، تتمرد على كل الأفكار السائدة التي تضع الثوابت وتتعامل معها بمثابة البديهيات، ومن هنا أفكر متأملة ماذا لو أن «جوردانو برونو» استسلم للثابت الديني الفلسفي في آنها، هل كان لنا أن نصل إلى الفضاء في شكل يبين التلاقي المهم لرفد الفلسفة للعلوم الحقيقية التي يحاول كثر فصلها عنها وعن أخلاقياتها الضرورية؟ يقول «ناشيد» «يبدو تاريخ الفلسفة أحياناً كأنه مجرد محاولات متتالية لإزالة سوء الفهم الذي يتعرض له الفلاسفة في مجرى التاريخ وإكراهاته لعلها مهمة لا تكتمل طالما لا يوجد تأويل أصيل يمكن بلوغه باطمئنان، إذ ثمة سوء فهم يحدثه الاندفاع المؤدلج للعقل نحو التصنيف والتبويب والاختزال وإطلاق الأحكام، وكل ما من شأنه أن يعجل بالحقيقة ويجعلها جاهزة للحفظ والترديد والتلقين، تبعاً لما تمليه آمال العصر ومخاوفه».
على الجانب الآخر، أجدني أختلف قليلاً مع «ناشيد» في فصله تمارين في العيش الحكيم الذي ضمنه بمجموعة من القواعد التي يستلزم الشخص انتهاجها للوصول إلى الطمأنينة الفلسفية، كوني أرى في مرحلتي هذه أن العيش الحكيم هو نتاج تجارب فردية تشترك في الأدوات والذاكرة الأولية لكنها تختلف كلياً في مساحات التطبيق والوصول، لقد توجست في هذا الفصل شيئاً من تلك القواعد المجانية التي قد يوزعها مدربو التنمية البشرية على متلقيهم مجاناً لكأنهم مجرد متناسخات بشرية عن بعضهم البعض، بنيت هذا على السؤال الذي طرحته وأنا أنتهي من هذا الفصل: ألا تعيدنا هذه القواعد إلى جذر المشكلة التي بني عليها العمل؟ ألا نعود بذلك لنخلق أصناماً جديدة ندور حولها متخلين عن فردانيتنا الضرورية؟ ألا يناقض ذلك جسد الفلسفة الحيوي المتيقظ والمتغير والناقد دائماً؟ ألا يلزمنا اضطرابٌ عظيم خاصٌ بكل منا على حدة قبل الإيمان بفتنة السؤال وأنه القائم الأبدي؟
يختم «ناشيد» فصول كتابه بفصل خامس مختلف بعض الشيء إذ ضمنه محاضرة ألقاها في مؤسسة مؤمنون بلا حدود في تونس، ويناقش فيها ضرورة مراجعة الثوابت الكبرى في الموروث وإصلاح المفاهيم والعودة بالفكر في المنطقة الإسلامية إلى منطقة الفلسفة التي تجنبنا هشاشة الثوابت المفروضة قسراً وإكراهاً وخوفاً، لا تأملاً وتفكيراً ومحبة، وهو يحاول من خلال ذلك أن يضع اللبنة الأولى التي ستحقق الطمأنينة الفلسفية المنشودة في عالمه المحيط الذي هو عالمنا المشتعل والمرتبك أيضاً.