لينا أبوبكر

برية من وهاد وهضاب وجبال، من رمل الذهب النبيل الذي يغتسل بالماء الملكي ويتدثر بصلصال الطمي الحجري، ممتطياً عربات الشمس في بادية السماء، ومخترقاً ساعة الفلك، والمجال الزمني في رحلة العودة إلى التاريخ. صحراء كجنة من نخيل، وقلعة من حجر الشمس الوردي، على تخوم الشرق وخاصرة الشمال، بين وادي رَمْ ووادي القرى، وبين تيماء والمدينة المنورة، معلقة كلوحة من ماء السماء على جدارية الخلد.. فماذا بعد؟
هناك ارتباط معماري بين البناء الموضوعي للقصيدة الجاهلية وتأثير الأثر المكاني على تجليات الذاكرة بأبعادها العاطفية والاجتماعية والرمزية، ولذلك يحتل الطلل مركز المقدمة في هذا البناء الشعري، بحيث يكرس كل شاعر ما أوتي من براعة في إعادة تشكيل المكان ضمن معطيات هندسية لا تعتمد على نظريات فيثاغورس الرياضية بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها تحول ما تراه من أشكال مرئية إلى صيغ أو معماريات فنية، مع صبغة تحليلية لما كان عليه المكان على اعتبار ما سيكون، ربما في محاولة للبحث عن حقيقة تختبئ بين الركام أو سر ذاكراتي لا يمكن لغير الإخضاع الجمالي له أن يكشفه أو حتى يكتمه، ولذلك يراوح الشاعر الجاهلي بين الوصف المادي والتعبير العاطفي في كل دفقة شعرية، في حضرة الطلل!
طلل خولة الذي تحول إلى فتات، لم يزل يلمع كبارق النار التي تدق حجر الوشم بيديها، هو هناك يحتاج إلى كل هذا الضخ اللغوي حتى يستعيد روحه، في محاولة شعرية لمواكبة المهمة التاريخية للبدوي عبر الزمن، ألا وهي إعمار الأرض، ولذلك لن أجنح لتفسير سطحي وعاطفي مسطح مفاده أن الوقوف بالطلل مجرد استحضار للحبيبة المرأة، فالتزام نهج البناء الشعري في جزيرة العرب لم يأت من فراغ بلاغي، بل من اتكاء قومي على إرث حضاري طويل من تاريخ العمارة، وهو ما يليق بذكاء الشعراء، ورثة الفلسفة المعمارية لأقوام الصحراء.
لا شك أن تقنية الجيوتكنيك أو ما يعرف بمكانيكا التربة، عامل فطري ووراثي عند البدوي، ولذلك فإن تخصيص المقدمة الشعرية للوقوف بالأطلال كان نابعاً من حس مهني عال بالمنشأ المطمور في سبيل إعادة إحيائه بعد تأمل خواصه الجمالية، فـ «حدوج الماكلية» التي كـ«خلايا سفين» والعدولية أو «سفين ابن يامن» ما هي سوى عناصر متممة لموقع القبيلة الجغرافي في خريطة القصيدة الطللية، رغم ما قد تحمله من نفس رثائي سبق بكثير رثائيات المدن في العهد الأندلسي، وهو لا يشذ بالضرورة عن أن يكون باكورة هذا الفن ضمن قالب بدوي مشبع بالنفس التاريخي للعمران الحضاري الذي عكسه التقسيم الوحداتي والعروضي للقصيدة العربية.
فذكرى المنازل بين الدخول فحومل، والرسوم الدارسة التي لم يعف رسمها، وحتى خمر0 عمرو بن كلثوم بين أندرون ودمشق، ودار عبلة بالجواء التي كلمها عنترة العبسي، ودار أم أوفى بحومانة الدراج، وبرقة شما، كلها ديار، عزز حضورها غياب أهلها عنها؟

حكمة الأطلال
يرجح جل باحثي الغرب أن شعراء الجاهلية قد كانوا شعراء طبيعيين وليسوا خارقين كما يحاول المؤرخون العرب تصويرهم، بل وتعتبر المصادر الغربية أن جهل هؤلاء الشعراء الذين بالكاد يقرؤون ويكتبون، تم تعويضه بالحروف والإحساس الجميل والفطرة الإيقاعية، بينما يفتقرون لفكر عميق ومستشرف، بل إن فكرهم أقرب إلى الفكر الطفولي لمجموعة من صبية الصحراء يعبرون عن شغفهم بمجال حر ومفتوح للعب واللهو وممارسة الخير أو الشر فكانوا يودون بشدة ويكرهون بمرارة، وقد أعانتهم لغتهم الغزيرة والفتانة على التعبير عن دفقاتهم الشعورية الآنية، أو الحولية، مع فكر محدود كما عبر وليام موير.
فهل كان نيتشه مثلاً عبقرياً وذخراً فلسفياً رغم أنه مهووس ومجنون؟ وهل كان لشكسبير أن يكون شاعراً وطنياً وملحمياً رغم أن الكثير من الدارسين يرجحون وهميته الشعرية؟
انظر هنا، يعتبر أغلب الباحثين في الغرب أن حياة الشاعر البدوي حياة متهورة، محفوفة بالمخاطر والحرمان، والمتع المحرمة، مع غوايات لا تخلو من طقس خرافاتي، كتعلق امرئ القيس مثلاً بالعرافات، رغم تأكيدهم أن جستنيان قتله بسترة مسمومة، لأن عربياً من قومه وشى به، ورغم أنهم يعربون عن إعجابهم باللغة الوصفية للطبيعة حتى حين تبلغ المستوى الدراماتيكي للبلاغة، بحيث تصبح اللغة غير الواضحة كالزوجة الوفية – إلا أنهم يعبرون عن إعجاب عابر للتصوير الكاريكاتوري المبهر والمبهم لمشاهد الحياة الصحراوية، وربما كان هناك استهجان أن الشاعر العربي له قلب مولر حين يتعاطف مع كائنات الطبيعة ويستغرق بوصف طويل يعوض الملل منه ببراعة الرسم، في حين أن هؤلاء يعتبرون عنترة متعطشا للذبح والانتقام بشكل عنيف ودموي، مع تزويد قرائهم بصورة مغايرة لهذا عند أبي سلمى الذي نبذ الحرب باعتبارها وحشاً قبيحاً وأما للمجاعة والخراب، مستخلصين من كل ما سلف، أن المعلقات ما هي إلا فسيفساء من الشظايا الشعرية العربية... ويلاه!
لا نستطيع أن نحاكم هؤلاء، الذين يلوموننا أننا لم نضف على ما ترجمه السير «W . Jones» ما يبدل وجهة نظرهم ويغير منطقهم، ولذلك لا بد أن يكون هناك حملات ثقافية شاملة، تترك في مكتبات هذا الكوكب ذخراً تأملياً وفلسفياً لحكمة القصيدة الطللية، سواء على صعيد البناء والتقسيم الوحداتي المستلهم من النفس المعماري للبدوي أبي الحضارة، أو على صعيد الروابط الاجتماعية والسياسية والبيئية والدينية التي كانت تحكم الإبداع في ذلك الوقت، مع التركيز على رؤية الدكتور نصرت عبد الرحمن الذي اعتبر المقدمة الطللية في الشعر الجاهلي صلاة لأجل الخصب والماء!

عنصرية التأمل.. أم غيرة الحضارات؟
الاستهانة بحكمة شعراء الجاهلية على صغر سنهم وثراء تجاربهم وتلقيهم أعلى درجات التعليم البلاغي واللغوي في البادية، يعتبر أمراً عنصرياً لا يمكن قبوله، فهذه هي الصحراء التي فتن بها الرسامون والمستشرقون والغزاة، قبل حتى أن يكون هناك طائرات وحروب عالمية ونفط وغاز وناطحات سحاب، و إلا لماذا يتنافس الغرب باستخدام التصوير الفضائي للعثور على مدن الصحراء الغارقة تحت الرمال، كأنهم يدركون جيداً أنه لم يخلق مثلها..
في إحدى محاضرات التاريخ هنا في جامعة لندنية تطل نوافذها على جنة مسروقة، حدثنا أستاذ الآثار، عن صحراء غامضة وساحرة، صحراء تثير حواسك برومانسيتها وخوائها الذي يخض دماء الرهبة والرغبة في النفس، صحراء شكلت الفلسفة الخيالية والخلفية المشهدية لقصص ألف ليلة وليلة، وشخصياتها التي فتنت الغرب وأسرت حضارته، صحراء تمتد على مساحة تفوق أربع مرات مساحة فرنسا - أكبر دول أوروبا الغربية، حيث سألنا البروفسور:
- هل تعتقدون أن شعوب الصحراء القديمة لم تعرف التكنولوجيا؟
كان السؤال صادما، ولكنه فتح الكثير من الآفاق حول تقدم التاريخ على المستقبل، وقد روى لنا أستاذنا الإنجليزي عن قدرات خارقة طورها الآشوريون بالتواصل مع الفضاء، والطاقة الشمسية، وعن اختراع الفراعنة أساليب تكنولوجية لم يستطع علماء هذا القرن بعد التوصل إلى أسرارها، حدثنا عن بلاد تعيش في رخاء لم تشهده البشرية، وتسمى بلاد اليمن السعيدة، عن ملكات خارقات في أساليب الحكم والإدارة، عن بيوت شقت في الجبال، ومعابد في أرض الشمس، حدثنا وحدثنا وهو ينظر إلى مكان بعيد هناك، يتدلى من قرط القمر، كنجمة مقدسة، يقص عليّ حكاياي وتاريخي وهو يبتسم بمقدار، ويقبض على دمعة عالقة في عين صحرائي، قائلا:
« نحن أبناء الحضارة المغرورة، اكتشفنا الفضاء، ولم نزل عاجزين رغم كل ما وصلنا إليه، عن إدراك كنه الصحراء»..
أيها القارئ الكريم، لقد بكى هذا الإنجليزي أمام طلابه، لم يكن يشعر بنفسه وهو يحلم يقظاً ببلادي، ويحن إلى باديتي، بكى مثل هرقل الذي ودع دمشق بفراق لا لقاء بعده.. ويلاه!
حسنا إذن، تغار الحضارات من بعضها، ربما تحس حضارة ما بفراغ عاطفي، حين تصبح القيمة المادية للتطور والازدهار طاغية على الانتعاش الروحي والمعنوي لهذه الحضارة، ربما هذا هو سر جاذبية الصحراء، فالفراغ لا يعتبر حيزاً فيزيائياً إنما وهمياً، تشغره تجليات لانهائية للأساطير، ومنها التاريخية وحتى الملحمية والإبداعية، ولهذا أحس بمرارة دموع أستاذ التاريخ التي لم تزل تتصبب من بين أصابعي ودم حبري كلما تذكرت تعلقه اللذيذ بحكايا جزيرة العرب، وقشعريرة كلماته وهي تكهرب روحي بإشعاع سحري كزيت القناديل.