سونيا فور
ترجمة: أحمد عثمان

سواء كانوا عرباً، مثل إدوارد سعيد، أو هنوداً مثل غاياتري سبيفاك، أو صينيين، نجد أن المثقفين ما بعد الكولونياليين جهزوا نقدهم عن الغرب في الجامعات الأميركية. منفى، وضع بين بين، مكنهم - حسبما عالم السياسة توما بريسون – من بناء فكر خلاسي يبحث عن عالمية جديدة.
من قال إن الدراسات ما بعد كولونيالية تتلخص في الهجوم على الغرب وتقاليده الفكرية؟ في كتابه «نزع المركزية عن الغرب»، يسرد توما بريسون، بروفيسور العلوم السياسية في جامعة باريس 8، مسيرة بعض هؤلاء المفكرين العرب، الهنود أو الصينيين، بدءاً بإدوارد سعيد إلى راناجيت جحا أو تو فيمينغ، الذين سعوا منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى بناء، بدءاً من الولايات المتحدة، بدائل المعرفة النظرية الأوروبية. عارفين بفلسفة القارة (الأوروبية)، وكطلبة ثم أساتذة في الجامعات الأميركية، قام هؤلاء المثقفون ما بعد الكولونياليين ببناء نقدهم للغرب من داخله. كيف تدبروا أمر هذه المفارقة؟ لماذا تحددت هذه المكانة، هذا المنفي في تيار الفكر الجديد؟ بعيداً عن التشويه المغالي فيه، بورتريه هذه الكوكبة الفكرية الذي يرسمه عالم السياسة يبين النزعة العالمية الجديدة.

*مشنع عليهم أم ممدوحين، من هم المفكرون ما بعد كولونياليين؟
- مفكرون عرب وهنود على وجه الخصوص، قاموا، منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي، بطرح سؤال مركزية الغرب. من الممكن الكلام عن الإجابة عليه: ولكن فرضيتهم: بعد سنوات من إزالة الكولونيالية، نحيا في عالم نجد أن فكره ومعارفه مصاغة من قبل الغرب، من قبل ثوراته العلمية والسياسية. ومع ذلك، من الممكن التفكير بطريقة مغايرة. وبالتالي، يبحثون عن إتمام «إزالة الكولونيالية العلمية»، عن بناء نماذج جديدة غير غربية. ولدت الدراسات ما بعد الكولونيالية من اللقاء داخل الجامعات ودور النشر الأميركية، بين مفكرين هنود، أمثال غاياتري سبيفاك أو راناجيت جحا، والكاتب الفلسطيني، إدوارد سعيد، الوجه المؤسس «للدراسات ما بعد كولونيالية». في نفس اللحظة، بعث مثقفون من أصول صينية فكر كونفوشيوس، محاولين تكييفه مع الحداثة. لا يعتبر هؤلاء الصينيون جزءاً من «الدراسات ما بعد كولونيالية» بالمعنى الضيق، مثل زملائهم الهنود أو العرب: ولكنهم مثلهم يسعون إلى إعداد مشروع مضاد للحداثة الغربية. هذه النيو كونفوشيوسية نشأت أيضا على الأرض الأميركية. وهذا ما وودت مساءلته: لماذا نقد الغرب بدأ من قلب الغرب من لدن مثقفين ناضجين «متغربين»؟

* ما هي مسيرتهم الشخصية؟
- أنهم مثقفون يقيمون بين عالمين. الصينيون، مثل تو فيمينغ، ليو شوهسيان أو جوليا شينغ، أخذوا طريق المنفى بعد وصول ماو تسي دونغ، بداية لجؤوا إلى هونغ كونغ، تايوان، سنغافورة، وأخيرا الولايات المتحدة الأميركية، حيث قام هؤلاء المثقفون النيو-كونفوشيوسيون بإنشاء ما يمكن تسميته أحيانا «كونفوشيوسية بوسطن». سواء كان المفكرون الهنود في كالكوتا أو لندن، الفلسطيني إدوارد سعيد في فيكتوريا كوليج بالقاهرة أو الصينيون في هونغ كونغ، يتبدى جليا أن لغتهم الأولى سرعان ما أصبحت الإنجليزية. فيما بعد درسوا في الغرب وعاشوا فيه.

* على وجه الدقة، نظرتهم النقدية غير قابلة للتفريق عن الغرب، لماذا؟
- هذا «البين بين» يبين وضعهم الثقافي. لقد سطره المفكرون ما بعد كولونياليين بأنفسهم. في سيرته الذاتية «خارج المكان»، عبر إدوارد سعيد عن مشاعره بأن لا مكان له في العالم. بالنسبة لغاياتري سبيفاك، عرفت نفسها دوما بكونها «حائزة على البطاقة الخضراء»، ولم تطلب يوما الحصول على الجنسية الأميركية. قلبت كمثقفة عالمية، بطريقة مدهشة، الأوضاع رأسا على عقب، على الرغم من كونها ولدت لعائلة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة في الهند. هذه الوضعية «المستحيلة» ترجمت من خلال مكانة ثقافية فريدة. تنتقل دوما، جسديا ونظريا. ارتكنت كثيرا على النسوية الغربية قبل أن تنتقدها بعنف، اغترفت من (ميشيل) فوكو قبل أن تستبعده.. يستعمل المؤرخ ديبيش شاكرابارتي، ومواطنها «هومي بابا» مصطلح «الغرابة المقلقة» Unheimlichkeit لفرويد، الذي يشير إلى من لا بيت له. المنفى يسمح برؤية ما هو مألوف تحت زاوية «الغرابة». ومن دون أدنى شك، يعرف هذا المصطلح بصورة مثلى المفكرين ما بعد كولونياليين: أن يكون المرء غريبا في بيته، وفي بيته يحيا في الغرابة. الانتقال الشخصي يسمح بانتقال الأطر التقليدية للفكر. ومع ذلك، في بداية عملهم، كان هؤلاء الأكاديميون حذرين – مثل كل الغرباء في بلاد الاستقبال. درس سعيد وسبيفاك الآداب، وهو مجال كان مستبعد حتى عصر ذاك من النقاش النقدي، ومخصص بالأخص للعلوم الاقتصادية والاجتماعية.

* لماذا اتجهوا ناحية الممارسة النقدية؟
- مسيرتهم الفريدة سوف تقابل التحولات العامة التي فتحت الطريق إلى الأفكار البديلة: بدءا من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أسال التقدم الغربي تدريجيا لعاب (حتى الغربيين) «التنانين» الأسيويين المنافسين لاقتصاد الغرب، الماركسية انهارت والجامعة الأميركية، كمركز ثقافي عالمي جديد، في حالة ثورة. بيضاء وذكورية حتى الستينيات، انفتحت الجامعة على الأقليات العرقية والجنسية تحت ضغط من الرئيس جونسون وأيضا الصراعات السياسية على مجه الخصوص. ولكن هؤلاء الطلبة السود الجدد أدركوا «الاحتكار» الأبيض، وبالتالي عملوا على مقارعته، بالدخول إلى معسكره... استراتيجيا الانفتاح سوف ترتد إلى الجامعة التي فهمت بأنه لا يكفي الانفتاح على طلبة جدد ولكن من اللازم تطوير المعارف.

* وهل هذا ما دفع المثقفون ما بعد كولونياليين إلى مقدمة المشهد؟
- في الواقع، سوف يساءلون المعارف القائمة. علم الصينيات، الذي ظل طويلا موجودا في الأوهام المرفهة لآسيا الأبدية، سوف يتغير بواسطة جامعيين قادمين من أسيا، لكي يكون الفكر الصيني حديثا وحيا. بالنسبة لسعيد، الذي يدرس في جامعة كولومبيا منذ الستينيات، سوف يحمل فجأة شعلة حركة لم يصنعها. في كتابه «الاستشراق»، الذي صدر في عام 1978، فضح أدبا يقلل بصورة منهجية من قيمة أصوات النساء، الشرقيين، الأقليات. تحديدا، يعيد سعيد النظر في «كراسات الشرق» لفلوبير: سرد علاقته مع امرأة ليل تركية يعني سماع صوت الرجل الأوروبي الذي يمتلك، بكل معاني الكلمة، امرأة شرقية. لا تتكلم أبدا. بالنسبة لسعيد، أنها صورة علاقة الكتاب الغربيين أنفسهم بالشرق: هيمنة تعمل على التقليل من قيمة العرب. مع «الاستشراق»، أصبح سعيد الوجه-الوصي على المعركة ما بعد الكولونيالية.

* المفكرون ما بعد الكولونيالية يرتكنون إلى كتاب غربيين لكي يبنوا نقدهم للغرب. كيف يتدبرون هذا التناقض؟
- درس أوائل النيو كونفوشوسيين، أمثال فانغ دونجمي أو مو زونغسان، كانط، هيغل، برغسون: في الولايات المتحدة، قام تلامذتهم بالنقاش مع راولز، رورتي أو تايلور. يستعير سعيد فوكو حينما يركز عمله على آثار السلطة في قلب النصوص. ترتكن سبيفاك على ديريدا ومفهومه عن «مركزية الذكر» Phallogocentrisme لكي تربط بين الدراسات ما بعد الكولونيالية والنسوية. في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فكر مفكرون إزالة الكولونيالية بإنهاء العلاقة مع الفكر الغربي. بعد عشر سنوات، سجل جيل ما بعد الكولونيالية عمله: إقامة فكر مناقض لمثيله الغربي الذي لا يحمل أي معنى. كان سعيد المنظر الكبير على هذا المستوى. سبيفاك أقل تباينا وقتما سعت إلى قطع الجسور مع النسوية الغربية أو مع جانب كبير من «النظرية الفرنسية» French Theory... من دون أي نجاح يذكر، كما اعترفت بذلك.

* كبرهان على ذلك، استعاد النيو كونفوشيوسيون مفهوم العالمية، الذين «فصلوه» عن فلسفة الأنوار...
- في بداية القرن العشرين، انهارت الكونفوشيوسية التي ظلت الأيديولوجيا الصينية قرابة الألفي عام، مع انهيار الامبراطورية. سعى النيو كونفوشيوسيون، المقيمون في المنفى، إلى التوفيق بين الاندماج في نظام سياسي وثقافي متحدر من الغرب وشكل من الوفاء إلى الذات والتقاليد. تحت امبراطوية كينغ، جلبت الكونفوشيوسية أخلاقا محافظة، مضادة للمرأة، مقرة بالسلطة القائمة. ومع ذلك، بدءا من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، اتجه الأكاديميون الأميركيون من أصول صينية، وهم ليبراليو النزعة بكل وضوح، إلى الاتجاه المضاد عاملين على إثبات إمكانية توافق الكونفوشيوسية مع الديمقراطية وحقوق الإنسان. المؤرخة جوليا شينغ، من بين عديدين، سوف تبعث فكر منسيوس (القرن الرابع قبل الميلاد)، مريد كونفوشيوس الأكثر شهرة، الذي نظر معارضة الطغيان. ولكن هؤلاء الأكاديميون ذهبوا بعيدا: من الممكن أن تصبح الكونفوشيوسية نزعة عالمية. وهكذا، قاموا بالالتفاف حول الخطاب الغربي الذي أكد من قبل: من الممكن أن يكون المرء صينيا وروسويا (نسبة الى جان-جاك روسو)، هنديا وشيوعيا. الكونفوشيوسيون يردون: من الممكن أن يصبح المرء نيويوركيا وكونفوشيوسيا. وهذا صحيح: الفيلسوف هنري روزمونت (1934-2017)، الأكاديمي الأبيض بدون أصل صيني، يدعي يكونه كونفوشيوسيا. النيو كونفوشيوسية، التي تفترض رابطة جمعية مع العالم والكون، انهارت حينما بدأ الغرب يعيد مساءلة انحرافاتها: النزعة الفردية الغضوب، عدم المساواة المتفجرة، تخريب الطبيعة... سواء كانوا عربا، هنودا، أو صينيين، سعى المثقفون ما بعد الكولونياليونالية إلى مساءلة الآراء المتعارضة للفكر الغربي، المعتاد طويلا على النظر إلى مقولاته على اعتبار كونها عالمية.

* بينت – كما فعلت – كل ما يدين المفكرون ما بعد كولونياليين للغرب، أليس هذا اختزالا لعلاقتهم بتاريخ الفكر؟
- هذا يحث، على العكس، إلى الحذر، إلى رؤية الهيمنة الغربية. المؤرخ الهندي ديبيش شاكرابارتي، البروفيسور بجامعة شيكاغو، ذكر إرادة «ترييف أوروبا»، كما يقولها في كتابه، إذ أشار إلى عدم التخلص بسهولة من هذا اللا تناسق، وحتى من الفكر الأوروبي، الذي سوف يظل لا غنى عنه في مختلف الاعتبارات.

* هذه حجة كلاسيكية موجهة ضد المفكرين ما بعد كولونياليين: وضعهم مزعزع...
- في التسعينيات، اتهمهم مثقفون من العالم الثالث بكونهم كومبرادوريين (الأثرياء الذين يغترفون ثروتهم من العلاقة مع المستعمرين). هؤلاء المثقفون فقدوا كل صلاتهم بعالمهم الأصلي لكي يحتلوا مناصب مريحة في جامعات النخب. أتم تداول هذا النقد في فرنسا، وأحيانا كان في محله. كان المثقفون ما بعد كولونياليون واعين إلى هذا اللبس، ولكن بالنسبة للكثيرين، هذه اللعبة غير العادلة تستأهل مشقة لعبها: في الولايات المتحدة، كلام التابعين أصبح مسموعا.