محمد قنور

مايكل لونغلي، أحد الأصوات الأيرلندية المتميزة في الأدب. إنه الشاعر الذي تجمع كلماته بين العاطفة والذكاء بلغة واعية؛ فيستغورُ كائنات محيطة ليكشف عن جمال يكاد يتلاشى بسبب السرعة المفرطة لعصر التكنولوجيا طيلة عقودٍ من الإبداع الغزير. إنه ينتصرُ للطبيعة والإنسان نكايةً في الحرب وخراب الصناعة من خلال الكلمة، ممّا جعله أمهر شاهد على دهشة ونعمة الحياة وتحوّلاتها البيئية والاجتماعية والسياسية فيما يزيد على عشرين كتاباً شعرياً.
ولد مايكل لونغلي في بلفاست عام 1939، ودرَسَ في المعهد الملكي، وأتمّ دراسته العليا في (كلية الثالوث) العتيقة بدبلن، حيث اكتشف الأدب، وعمل مُحرّراً للمجلّة الأدبية الطلابية (إيكاروس). ثم درّسَ اللغة الإنجليزية في دبلن ولندن وبلفاست قبل أن يعملَ في مجلس الفنون بأيرلندا الشمالية. كما أنه باحثٌ أثنولوجي ومحرر معروف في الأوساط الأدبية البريطانية، وهو مؤلف لما يزيد على عشرين مجموعة شعرية، ومن أهمها: «تحتَ ضوء القمر، فوقَ النُّجوم» 1971، و«الصّيد في السّماء» 1975، و«رجلٌ يتّكئُ على جدارٍ» 1976، و«بوّابة الصّدى» 1979، و«نيرانٌ في الرَّتَم» 1991، و«سفينةُ الرّيح» 1997، و«صحونٌ مكسورةٌ» 1998، و«الطّقسُ في اليابان» 2000، و«بركةٌ بلا اسم» 2005، و«مائةُ باب» 2011، و«تلّ الملائكة» 2017.
حصل لونغلي على جائزة (وايتبريد) للشعر، وجائزة (هاوثوردون) وجائزة (ت. أس. إليوت) وجائزة الأدب الأيرلندي للشعر. كما أنهُ حامل للميدالية الذهبية الأيرلندية لأستاذ الشعر، ومنحته الملكة وسام الإمبراطورية البريطانية من رتبةِ قائد (CBE) في قائمة الشرف عام 2010.
يعدُّ عمل مايكل لونغلي، على حد تعبير الناقد نيل كوركوران، «مرجعاً للذوق الرفيع والفهم العميق للأشياء التي تحيط بالإنسان». يعمل الذوق عند لونغلي من خلال البحث والشكل، ويعتمدُ طريقة غنائية مع الكثير من الدقة والتكثيف اللغوي، فيقولُ: «قم بتكوينٍ عميق، وأنتج شكلاً فنياً بمعنى عاطفي وروحي ولغوي، إن هذه الأمور الثلاث تترابط معاً». إن الشعر الذي يدقق في الأناقة والمتمثل في معظم قصائده هو دليل قاطع على قولهِ بأنّ: «نشر الكلمات في أدق معانيها ترياقٌ مهم للحد من القتل المنتشر بين الناس والناس ضد الطبيعة».

شاعر البيئة ضد العنف
هديّة مايكل لونغلي الخاصة هي عينه الثاقبة ذات المذهب الطبيعي، ودهشته الواضحة على تفاصيل العالم المتشعبة بجميلها وقبيحها. كما يوحي في الكثير من القصائد التي تحتفي بالبيئة قائلاً: «إن مهمة الشاعر هي الدفاع عن الحياة بكل أشكالها، حتى تلتقط كل الأحياء أنفاسها».
ترتكزُ معظم أعمال لونغلي على الحياة النباتية ومجموعة الحيوانات (Flora & Fauna) التي تعيش في بلده، وأبدعها في قصائد خالدة، قصائد تنشد إغاثة ما تبقى من الحياة، فيقول الشاعر الأيرلندي بيتر سير: «تحمل بعض القصائد تفصيلاً دقيقاً عن الأحياء التي انقرضت والأخرى المهدّدة بالانقراض مع حمولة عاطفية هائلة تجاه الطبيعة». لقد واظب لونغلي في استكشاف والاحتفاء بطبيعة بلده في أغلب أعماله، وذلك «نوع من الولاء لثقافة البلد، وإحساس بحبّ الانتماء، وهذا هو الجوهر الذي يدعم صوتي الشعري،» كما يقول.
في عام 1994، نشر قصيدته «أوقفوا إطلاق النار»، مستخدماً مُهادنة أخيليس وبريام في حرب الإلياذة لهوميروس من الميثولوجيا، وربط علاقة شاعرية بين إله الحب إيروس وإله الموت ثاناتوس. وبعد بضعة أيام، أصدر الجيش الجمهوري الأيرلندي بيانًا يُعلن فيه وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب الطائفية الأيرلندية، وجاء في السطور الأخيرة كلمات من قصيدة لونغلي. لقد اشتهر كأحد أعظم شعراء الحرب والحب في عصرنا، لم لا وهو ابن العقيد ريتشارد لونغلي، الذي حصل على وسام ملكي بسبب خدمته في الحربين العالميتين. فقد ظلَّ شبح الوالد الجندي يطارد مايكل حتى في شعره، فكتب نصوصاً ملحمية عديدة ضد الحرب، ليوجّه له قصر باكنغهام دعوة كذلك لتسلم وسام شرفي نظير مسيرته الشعرية.

الأماكن والذاكرة
غرب أيرلندا هو أرض الوطن؛ المكان الذي نستكشفه كثيراً في شعر لونغلي. «إنه المكان الأكثر ظهوراً في شعره، حيث ناقش باستمرار قضايا المجتمع والبيئة والهوية والحب والعنف» كما يقول الناقد الشاعر والناقد إيمون غرينان.
لقد صوّر لونغلي منطقة (مايو) –حيثُ ترعرع- بكل أحيائها ومكوناتها الطبيعية في شعره، خصوصاً في كتاب «مشهدٌ منسوفٌ»، ليبدو الكتاب كدليل سياحي ومادة دسمة للباحثين الذين يدرسون علم الأحياء في منطقة معينة. وكما يكتب شاعر أيرلندا الحائز على جائزة نوبل شيموس هيني عن منطقة موسباون، فإن لونغلي قد وضع المنطقة الغربية كمكان جسدي وعقلي له أهميته القصوى. فهيني كتب عن المكان كنقطة للنُّزوح، فيما ارتبط لونغلي بأرضه اختيارياً واعتبرها مكان يصلح للاستقرار العقلي والنفسي. فيقول ملتزماً بحب الأرض: «أريد أن أقدم نافذة على المشهد الرعوي الذي يغلب عليه الغموض، وقليلاً ما يلتفتُ له الفنانين». ويوازن لونغلي بين هدوء مايو والأخبار العنيفة القادمة من بلفاست، مستخدماً نظرته الثاقبة عن ما يحدث لتقديم وجهة نظر أوضح لتقييم البلد ككل.

العائلة الأدبية
يقول لونغلي: «إن الكاتب هو الذي تتشابك عنده مواضيع الحب والحرب والموت والصداقة والفن في الشعر مثل نباتات الدّغل، ويمكننا إدراك الاختلاف فقط بعد تعميق البحث، فنجدُ أن كل نبتة منفصلة عن جارتها.» ولطالما كتب لونغلي شعره مستمداً طاقته ومزاجه من محيطه وأقربائه، فهو مرتبط بناقدة أدبية لها مكانتها في الأدب الأنغلوفوني.
في كلية (الثالوث)، تعرّف لونغلي على زوجته الناقدة إدنا برودريك؛ وشكّلا معاً عائلة أدبيةً ذاع سيطها. عندما بدأ لونغلي بنشر نصوصه الأولى، كانت إدنا أول من يقرأ له، وأول من يكتب عن نصوصه مدحاً ونقداً وتشجيعاً وتأنيباً، وفي العام 1964 تزوّجا. وهناك في دبلن حيث كلمات شعراء كبار في كل مكان؛ شعراء مثل ويليام ييتس ولويس ماكنيس وباتريك كافناغ وفيليب لاركن وتيد هيوز وديلان توماس وجيوفري هيل وغيرهم، تعرفا على الكثير من الشعراء والكتاب الشباب مثل ديريك ماهون وأيان سينكلير.
ويقول لونغلي: «في دبلن حفّزنا بعضنا البعضُ، وهناك نشر بعضنا شعره لأول مرة.» وصار بيت لونغلي وإدنا في بلفاست عبارة عن صالون أدبي يلتقي فيه الكتاب والشعراء لمناقشة الأدب وراهنه، والقيام بقراءات ومراجعات للعديد من الكتاب، وخلال تلك الفترة تواصل لونغلي مع الشاعر شيموس هيني والمفكر إريك هوبسباوم والشاعر الإسكتلندي هاف مكديرميد والأميركي روبرت لويل كثيراً، كما التحق بـ«المجموعة»، كما سمّتها الصحافة، الروائي غلين باترسن وهو شابٌّ يافع. ولو أن لونغلي يقول: «نادراً ما يزهر إبداع الشخص عندما يكون منعزلاً،» إلا أنه احتفى كثيراً بتلك الاجتماعات الطويلة في بيته.
كانت تلك أحلك أيام أيرلندا وكانت بلفاست كئيبة بسبب النزاعات الطائفية، لكن، كان الأدباء شموعا تنير المنطقة بلقاءاتهم التنويرية. فتقول جريدة الغارديان: «لقد قام لونغلي بعمل عظيمٍ بوضع الثقافة في الخطوط الأمامية في الوقت الذي بدت فيه كأنها آخر ما يهم».

مختارات شعرية
اللحاف
هنا، جئت أثناء الغسق، وسأغادر أثناء الغسق
ولا وقت لاستكشاف «أميرست» ولا بيتك الصغير
أو للحديثِ عن والدكَ المريض، ولا ابنتي المنكسرة القلب- لا
ليس هناك وقتٌ، ودموعٌ على اللّحافِ، وأنماطٌ تتكرّرُ

ومع ذلك، نحن مثل يتيم من زمن قديمٍ وكالطّفلات الجدّات،
نخيطُ مربّعاً من لونٍ في الظّلامِ، إنه عمل الإبرة،
والأدوات والكلمات، ونافذة غرفة نوم إيميلي
وأصيصٌ من زهورٍ، نلتقطهُ من خلف الزُّجاج

السرير الحديدي القديمِ الّذي جلبتهُ من «ترالي»
يشغلُ الغرفة الصّغيرةَ حيثُ أغفو
وها قد صرتُ منذ ساعّات قليلة في فبراير والدكَ، وابنكَ

وبينما أنتَ في حيّك، ورغماً عن الثلجِ على الأحراشِ
الّتي ترتدي ألحفةً تُركت طيلةَ ليلة لكيْ تُجفَّ في العراءِ
مثل كشكولٍ مرقّعٍ هائلٍ، نظيفٌ ومهوّى ومرتّقٌ بالصّباحِ

هرمونيكا
أسقطَ جنديٌ هرمونيكتهُ في أرض محايدةٍ.
كانَ والدي مثل العجوز «أنكسيمانس» يلهثُ
عبر الحفرِ والقصبِ حيث يجدُ نغمتهُ

أرواحنا ريحٌ. إنها تحتضُننا معّاً. أصغي.
هذه قاعة موسيقى مُفضّلة تدومُ إلى نهاية الزّمنِ.
يعزفها أبي. ويحتوي لهاثَهُ على العالم.

فيما الرّيحُ تعزفُ بأوركسترا من الهارمونيكات.

نهر ونافورة
أسير متقدماً إلى الماضي بأكثر من فكرة
وأريد أن أقول لأصدقائي من ثلاثين سنة مضت
وللبنات والابن أن بلفاست بيتنا،
ولا زالت نهراً منثوراً- من «ليفي» إلى «لاغان»
نافورة شعر تتدفقُ خيالياً في «الفرونت سكواير»
وعندما يسقط الثلج، تصيرُ ريشاً من أجنحة إيكاروس

الجبهة
حلمت أني أتقدمُ إلى الجبهة من أجل الموت
كان هنالك الآلاف منا، ذاهبون للموت،
في اتجاهات مختلفة، خارج المسار، بنفس متقطعة
يأتي الموتى والجرحى، وكلهم شباب أصغر من ابني
ومن بينهم والدي الذي كاد سيكون ابني.
«كيف يبدو لك ذلك؟» صرخت باسم وجه العائلة
«صديقي! إنها هيّنةٌ، هيّنةٌ!» أجابَ أبي الابن.

الخوخ الشوكي
باقةٌ لخمسينياتي، هذه الزُّهور من دون أوراق
مثل ثلج عيد الفصح، بَرَدٌ مُحتشدٌ عند الشّفق-
عند صعوبة الأجمة فقط عصا المشي تزهرُ،
أمام انكماشٍ شبيه بالخوخ الشوكي بثماره الداخنةِ