تدخل الإمارات الخمسين عاماً المقبلة باستراتيجية واضحة لـ«طاقة» المستقبل، ترتكز على ثوابت راسخة اعتمدتها الدولة منذ عقود طويلة: التنويع توجه وطني، والاستدامة أساس السياسات والمشاريع، وتبني أحدث التقنيات، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي هدف رئيس، فيما تتواصل خطط خفض تكلفة الإنتاج، وتقليل معدلات الكربون، ورفع كفاءة شبكات النقل والتوزيع، ودعم برامج ترشيد الاستهلاك.
ويمضي البرنامج النووي السلمي الإماراتي بثقة وثبات لتحقيق أهدافه الكبرى، لتتكامل نتائجة مع ثمار سياسات الاستخدام الأمثل لموارد الطاقة التقليدية «النفط والغاز»،ومردودات مشاريع الربط الكهربائي مع المناطق المتاخمة لـ«دول التعاون»، وعوائد الاهتمام بصناعة البتروكيماويات لتعظيم الاستفادة من الطلب المتنامي على منتجاتها.

مطر النيادي لـ«الاتحاد»: مستهلك الكهرباء اليوم ينتجها غداً
أكد الدكتور مطر النيادي، وكيل وزارة الطاقة والصناعة، أن قطاع الطاقة من أكثر القطاعات نمواً وتحولاً واعتماداً على التقنيات الحديثة، وأن التحول بدأ في مناطق مختلفة من العالم ولا يزال مستمراً، وسوف ينتج عنه تحول المستهلك إلى منتج، مشيراً إلى أن هذا التحول يفتح أبواباً أكبر للاستفادة من الذكاء الاصطناعي في إدارة شبكات النقل وتحقيق الاكتفاء الذاتي لأصحاب المنازل من الكهرباء والمياه، ما يتطلب الإسراع في تجهيز التشريعات اللازمة لتمكين هذا التحول.
وأشار في تصريحات لـ «الاتحاد» إلى أن قطاع الكهرباء في الإمارات بدأ بتركيب الألواح الشمسية على المباني في بعض المناطق لإنتاج الكهرباء، موضحاً أن إنتاج المياه من الرطوبة أو الهواء سوف يكون خلال المرحلة المقبلة أقل تكلفة وأسهل تشغيلاً، وأن الفترة المقبلة ستشهد زيادة في فصل إنتاج المياه عن إنتاج الكهرباء لتحقيق تكلفة تشغيلية أقل، وبالأخص في الشتاء.
وأكد النيادي أنه رغم التقدم الحاصل والزخم الكبير في الطاقة المتجددة، فإن الطاقة النووية واستخدام الغاز ضمن خليط الطاقة سوف يحافظان على مكانتهما، موضحاً أن التخوف الوحيد الذي يواجه صناعة الطاقة النووية أو صناعة الغاز والنفط في العالم هو احتمال انخفاض إقبال الطلبة في المستقبل عن دراسة هذا التخصص، والسبب هو الرسائل غير الدقيقة التي توحي بأن المستقبل فقط للطاقة المتجددة، وينبغي التصدي لهذه الادعاءات بشرح أهمية المصادر الهيدروكربونية والطاقة النووية في الاقتصاد العالمي، ووضع برامج تحفيزية للطلبة للاستمرار في التخصص.


وتابع: في دولة الإمارات نفخر بشبابنا الذي أثبت قدرته على اتخاذ القرار واختيار التخصص الصحيح الذي يؤمن لهذه القطاعات في الدولة الكادر البشري المطلوب لتشغيلها وتطويرها، وإقبال الشباب من الجنسين على التخصص في قطاعات الطاقة المختلفة في الإمارات مؤشر مهم على قدرة هذه القطاعات على التأقلم مع التحولات الحاصلة في الطاقة واجتذاب الكوادر الإماراتية المؤهلة.

اكتشافات الغاز
وقال وكيل وزارة الطاقة والصناعة: إن الاكتشافات الجديدة في قطاع الغاز ونمو الطلب العالمي وانخفاض تكلفة الغاز على مستوى العالم سيكون لها أثر كبير في استمرار الغاز كمصدر مهم في خليط الطاقة، وهو ما تضمنته استراتيجية الطاقة في الإمارات 2050 بأن الغاز في الإمارات سوف يمثل 38% من مصادر الطاقة، حيث تسهم اكتشافات الغاز الأخيرة في الإمارات في تحقيق الاكتفاء الذاتي واستمرار إمداد الأسواق العالمية بالفائض.
وأشار إلى أن مجالات استخدام الغاز متعددة، ويدعم التوسع في استخدامه قلة الانبعاثات وسهوله نقله وتخزينه والحاجة له كعامل أساسي في إنتاج الكهرباء وتحقيق الاستقرار في شبكات النقل، وإضافة إلى استخدام الغاز في إنتاج الكهرباء، فإن استخداماته في النقل البري والصناعة تشهد نمواً متزايداً، وذلك لقدرته على المساهمة في تحقيق التنافسية للمنتجات الصناعية.
وأوضح النيادي، أن الهيدروجين أحد المصادر التي تحظى في الوقت الحالي باهتمام كبير، وتتزايد أهميته في المستقبل، نظراً لتعدد مصادر إنتاجه، فالهيدروجين يمكن أن ينتج، أو يتم استخلاصه من حقول النفط أو الغاز، كما يمكن أن ينتج من الماء أو باستخدام الطاقة الشمسية، واستخلاصه من حقول الغاز الأرخص اقتصادياً، ما يجعله مكوناً رئيساً من خليط الطاقة مستقبلاً.
وذكر النيادي أن الوصول إلى تقنيات لتخزين الكهرباء كان ولا يزال محل اهتمام وطلب من الجهات المشغلة لقطاع الكهرباء، حيث إن وجود هذه البطاريات بتكلفة أقل وقدرة أكبر على تحمل درجات الحرارة العالية سيكون له دور كبير في تنمية إنتاج الكهرباء في المنازل والمباني التجارية دون الاعتماد أكثر على الشبكة الوطنية الكبيرة، وظهور ما يسمى بالشبكات المصغرة أو المنعزلة، والتي يكون إنشاؤها وبالأخص في المناطق ذات الطبيعة الجغرافية الوعرة.



الربط الكهربائي
وتوقع النيادي أن العالم سوف يشهد مزيداً من عمليات الربط الكهربائي بين أقاليم مختلف لتحقيق أكبر فائدة من اختلاف مواقيت شروق وغروب الشمس أو الاختلاف بين هبوب الرياح أو سكونها، حيث لدينا في منطقة الخليج نواة لمشروع ناجح بكل المقاييس ونعمل من خلال منظومة الربط الكهربائي الخليجي للوصول إلى أقاليم أخرى مجاورة سوف تساهم في تحقيق استفادة أكبر من الموارد الطبيعية المتوافرة في الدول والأقاليم.
وتابع: منطقة الخليج العربية واقعة بين القرن الأفريقي الذي يتغذى على إمداد كهرباء قليل التكلفة، ومن مصادر مائية ومن مصادر الرياح ولديها طلب أكثر على الكهرباء في فصل الشتاء، كما تقع منطقة الخليج بالقرب من شبه القارة الهندية التي يتيح الربط معها الدخول لسوق الكهرباء في تلك المنطقة والاستفادة من اختلاف مواقيت شروق وغروب الشمس.
وأكد النيادي، أن الصناعة تتصدر أولويات الدولة خلال العقود القادمة، فالصناعة تلعب دوراً كبيراً في تنويع مصادر الدخل وجذب الاستثمارات والتقنيات الحديثة وخلق وظائف وفرص عمل لأجيال المستقبل، وتصنيع منتجات تساعد في تحقيق اكتفاء ذاتي من بعض السلع الحيوية وقادرة على المنافسة على الأسواق العالمية، وخلق اسم عالمي متميز للمنتج الإماراتي.
وقال: إن الصناعة الجديدة التي نطمح في الوصول إليها تتسم بقلة الانبعاثات وانخفاض استهلاك الطاقة والمياه، وهذه المعايير سترسم استراتيجية الإمارات للصناعة والخطط والبرامج التنفيذية لها، والتي بدأت ملامحها مع اعتماد الحكومة لسياسة الإمارات للصناعة.

حمد الكعبي: نتقدم بثقة في برنامجنا النووي لستة عقود
تتقدم الإمارات بخطوات ثابتة وأمان كامل وثقة على طريق تطوير برنامجها للطاقة النووية السلمية لأكثر من 6 عقود قادمة، حيث ينتهي تشغيل كل محطة من مفاعل براكة، عقب مرور 60 عاماً على بدء التشغيل، لتتوقف المحطة الأولى عام 2080، ويتركز دور الجهات العاملة في القطاع النووي في الإمارات خلال السنوات المقبلة على المراحل التشغيلية لمحطات براكة للطاقة النووية السلمية، والتي بدأ تشغيل أولى وحداتها خلال فبراير الماضي، بحسب السفير حمد الكعبي، المندوب الدائم للإمارات لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، نائب رئيس مجلس إدارة الهيئة الاتحادية للرقابة النووية.
وقال الكعبي: «تزاول الهيئة الاتحادية للرقابة النووية، مهامها الحالية، إضافة إلى الرقابة على عمليات التشغيل لبراكة، فيما ستعمل (الإمارات للطاقة النووية السلمية) على توريد الوقود النووي غير المخصب وتطوير الكوادر الوطنية، وتتولى شركة نواة للطاقة عمليات التشغيل، والتخلص من الوقــود المستنفــد».


وتابع: «لا يوجد ضمن المخطط الحالي في القطاع إنشاء مفاعلات إضافية حالياً، وقد يكون هناك مفاعلات جديدة في المستقبل»، لافتاً إلى أن عملية التخلص من الوقود المستنفد في مفاعل براكة للطاقة النووية السلمية ستشهد مراحل عدة، أولها تبريد الوقود في أحواض المياه لمدة 20 عاماً، وهي من أكبر الفترات الزمنية في عمليات تبريد الوقود المستهلك.
وأضاف: «تتضمن المرحلة الثانية من إدارة الوقود المستهلك في براكة تجفيف الوقود وتخزينه لمدة 40 عاماً في حاويات مخصصة للتخزين في المحطة، فيما تتضمن المرحلة الأخيرة من إدارة الوقود المستنفد وضعه في مطامر للنفايات النووية».
واتجهت الإمارات إلى الطاقة النووية السلمية اعتماداً على تقنيات جديدة لإنتاج طاقة كهربائية آمنة وصديقة للبيئة، تدعم النمو في الدولة على امتداد العقود القادمة، وتم اعتماد وثيقة الإمارات للطاقة النووية السلمية عام 2008، وإنشاء برنامج نووي للطاقة النووية السلمية، وشملت المرحلة الأولى من البرنامج بناء 4 مفاعلات في محطة براكة.
وحققت الإمارات خلال 12 عاماً قفزات نوعية في قطاع الطاقة النووية السلمية، لتنتقل من مجرد قادم جديد إلى قطاع الطاقة النووية السلمية إلى جهة مطورة للطاقة النووية أثبتت مكانتها المرموقة ورسخت ثقافة الشفافية التشغيلية،والالتزام بأعلى معايير السلامة والجودة النووية، الأمر الذي عكس قدرة الدولة على بلورة الرؤية التي جرى اعتمادها لتطوير الطاقة النووية السلمية بشكل أكثر كفاءة وفعالية مقارنة بالبرامج النووية الناشئة الأخرى.


وأشار الكعبي إلى أن المفاعلات الأربع في محطة براكة، ستنتج الطاقة الكهربائية على نحو آمن وموثوق، وبشكل يغطي 25% من احتياجات الإمارات من الطاقة الكهربائية، كما ستوفر عملية إنتاج الكهرباء في محطة براكة النووية الفرصة لتحقيق أعلى مستوى في خفض الانبعاثات الكربونية في تاريخ قطاع الكهرباء في دولة الإمارات، وتتسم التقنية المعتمدة في مفاعلات الطاقة المتقدمة من طراز APR1400 بالتزامها بأعلى المعايير العالمية الخاصة بالسلامة.

خبراء: زيادة الطلب على المصادر التقليدية
أكد خبراء وعاملون في قطاع الطاقة، أن العقود الخمسة المقبلة ستشهد تعزيز دور الإمارات في أمن وإمدادات الطاقة، إقليمياً وعالمياً في ظل الاكتشافات المتوالية للغاز والاعتماد على أحدث التقنيات، متوقعين زيادة الطلب على المصادر التقليدية خلال العقود المقبلة، خاصة في قطاعات البتروكيماويات. وأوضح هؤلاء أن استراتيجية الإمارات للطاقة والاستعداد للخمسين ودخول الإمارات قطاع الطاقة المتجددة والنظيفة، خاصة الطاقة النووية، تسهم بدعم التطور المتسارع لمختلف القطاعات في الدولة.
وقال محمد المبيضين، رئيس علاقات المستثمرين بشركة دانة غاز: «سيتزايد التوجه لقطاعي الطاقة المتجددة والنظيفة خلال العقود المقبلة نتيجة للتوجهات العالمية للحفاظ على المناخ وخفض الانبعاثات الكربونية واعتماد طاقة مستدامة، إلا أن بعض هذه المصادر غير دائم، فالتقنيات الحالية الخاصة ببطاريات تخزين الكهرباء، التخزين طويل الأمد، لم تحقق المطلوب حتى الآن».
ونوَّه إلى أن الغاز أنسب مصدر للحمل الأساسي لشبكات الطاقة وسيكون الاعتماد عليه أكبر في توفير الطاقة الكهربائية خلال العقود المقبلة، وهو ما يعزز دور الإمارات في إمداد وأمن الطاقة نتيجة للاكتشافات التي تم الإعلان عنها مؤخراً، وفي مقدمتها حقل جبل علي والشارقة، مع استمرار عمليات البحث والاستكشاف بمناطق أخرى في الإمارات يتوقع وجود موارد للغاز بها.
وأكد أن خطوات الإمارات تجاه قطاع الطاقة تنطلق من رؤية حكيمة ومدروسة تهدف إلى تحقيق التنوع، لافتاً إلى أن الإمارات لديها ميزة تنافسية تتمثل في انخفاض تكاليف إنتاج النفط مقارنة بالتكلفة العالمية، وهو ما يعزز استمرار النفط الإماراتي داعماً للتنمية، محققاً لأمن إمداد الطاقة الموثوقة عالمياً.


بدوره، قال ثامر شمسي، رئيس قسم النفط والغاز في الشركة العالمية للإعمار IDC: تشهد السنوات المقبلة زيادة في الطلب علي البترول الخام، وكذلك الكهرباء، متوقعاً ارتفاع الطلب على منتجات البتروكيماويات، ومع الزيادة المتوقعة في السيارات الكهربائية، حيث نسبة كبيرة من مكونات السيارات يتم إنتاجها من الصناعات البتروكيماوية، إضافة إلى قطاعات عديدة كالأدوية والملابس ما سيرفع الطلب بصورة كبيرة على هذه المنتجات، مشيراً إلى أن زيادة الطلب على البتروكيماويات تتواكب مع تضاعف هامش أرباحها.
وأضاف أن الإمارات اعتمدت مبكراً سياسة الاستغلال الأمثل لمواردها النفطية، بما يتماشى مع حاجتها الداخلية ومتطلبات التصدير الخارجي، ولذا فإن تركيزها على الصناعات البتروكيماوية يشكل خطوة مهمة لإنتاج ما تحتاج إليه الدولة في هذا المجال، والاستجابة للحاجات التصديرية.
من جهته، قال علي سعيد العامري، رئيس مجموعة الشموخ للخدمات البترولية: «إن الإمارات حققت نقلة نوعية منذ سنوات، حينما استبقت الكثير من الدول بالتوجه إلى التقنيات والتكنولوجيا المتطورة في مختلف المجالات، وفي مقدمتها قطاع الطاقة»، مشيراً إلى أن العمل في قطاع النفط والغاز خلال العقود القادمة يحتاج إلى فكر جديد لاستخراج النفط بأقل تكلفة لاستمرار تحقيق الميزة التنافسية، إضافة إلى العمل على توفير المزيد من الكوادر الوطنية المتخصصة بالقطاع.
وأضاف: سيلعب الغاز دوراً كبيراً في توفير الطاقة الكهربائية، ومن المتوقع الوصول للاكتفاء الذاتي للدولة من الغاز بنهاية العقد المقبل، ويعقبه تصدير للخارج، مع تزايد حصة الطاقة من المصادر الجديدة والنظيفة، لافتاً إلى أن دخول الطاقة النووية كمنتج للكهرباء في الإمارات يشكل تغييراً في مفهوم الدخل.

أعد الملف: بسام عبد السميع
الإخراج: وائل عبدالمجيد
التحرير: أشرف جبريل
الإشراف العام: راشد الزعابي, ناصر الجابري