انفجار السلمة
الصدفة وحدها ووعي ويقظة بعض المواطنين هي التي كشفت حادثة انفجار ''السلمة''، وهو أحد الأحياء الطرفية التي تمددت فيها الخرطوم، وقد عمره مواطنون تجاوزهم ''قطار الحظ''، فلم يجدوا مكاناً لسكنهم في امتدادات الخرطوم الراقية التي استولت عليها رأسمالية العهد الجديد التي يرجع لها الفضل في تحويل الخرطوم إلي مدينة تضرب بها الأمثال في ارتفاع قيمة الأرض التي فاقت مدناً مثل نيويورك وطوكيو··· فجأةً سمع الجيران في الحي الشعبي صوت انفجار هائل، فتدافعوا إلى مصدر الصوت في محاولة سودانية تتميز عادة بالنخوة والرغبة الصادقة في إغاثة الجار، لكن الجار الذي هرعوا لإغاثته صدهم عن باب منزله وأعلن لهم أن ''المسألة بسيطة'' فقد انفجرت أنبوبة غاز وأصابت أخاه وسيجري نقله للمستشفى··· تلك كانت الصدفة! أما الوعي واليقظة فقد تمثلا في السيدة السودانية التي تشككت في أن الانفجار ''مسألة بسيطة'' وفي حكاية أنبوبة الغاز، فاتصلت من هاتفها الجوال بشرطة النجدة وأبلغتهم عن الحادثة!
تداعت الأمور بسرعة مذهلة، فإذا ''بانفجار السلمة'' يكشف، حسب القليل الذي سمح بنشره، عن أن المنزل الذي استأجره جماعة من الأجانب قبل أيام قليلة من وقوع الانفجار، هو عبارة عن مصنع لتجميع القنابل والمتفجرات! وأن حادثة انفجار السلمة ربما كانت الرأس الذي يختفي تحت جبل الجليد! وأن بين ''المضبوطات''، إلى جانب المتفجرات والأسلحة، وثائق تحتوي على عناوين مقار هيئات الأمم المتحدة وبعض السفارات! وأن الاعتقالات شملت، إلى جانب سكان منزل السلمة الخمسة، آخرين كثيرين في أحياء مختلفة في العاصمة المثلثة! وأن السلطات تضرب جداراً من السرية حفاظاً على سلامة التحقيق!
وهكذا أمست الخرطوم وأصبحت -وهي التي كان الأجانب يضربون المثل بحسن سيرة الأمن فيها، وبحسن استقبال أهلها للأجانب- نهباً للقلق والخوف من أن حادثة السلمة التي انكشفت صدفة، قد تكون جزءاً من مشروع أكبر لتحويل الخرطوم والسودان إلى عراق ثان أو صومال آخر·
لكن وقبل كل شيء آخر، يجب أن يحسب لأجهزة الأمن القومية سرعة تصرفها وحسن إدارتها منذ وقوع الحادث ومن ثم تداعياته المثيرة بحق للقلق والخوف على أمن المواطنين المسالمين الذين قد يجدون أنفسهم بغير سبب ضحايا جنون وافد على حياتهم وتقاليدهم وأعرافهم السودانية التي عرفوها وتوافقوا عليها عبر قرون من الزمن· لكن الحفاظ على سرية التحقيق وسلامة إجراءات الأمن والعدالة لا يمنعان أن يوجه ويواجه السودانيون أسئلة سياسية هامة ومشروعة كانت وما تزال مغيبة عن النقاش العام الذي وحده ومن خلاله يستطيع المواطنون أن يتوصلوا إلى أصل وجذور المشاكل الأمنية والاجتماعية التي تواجه الوطن حاضراً أو مستقبلاً··· فمن خلال النقاش والحوار الديمقراطي الحر سيعرف المواطنون ما الذي جرى منذ أول يوليو 1989 (صبيحة انقلاب الجبهة الإسلامية العسكري) حتى أغسطس من هذا العام، حيث أصبح السودان في حسابات العالم مأوى لمختلف أنماط العصابات الإجرامية التي تعارفوا على تسميتها بالإرهاب الدولي!
صحيح أن الأميركيين يعتبرون السلطة السودانية الآن متعاونة بشكل جيد في قضية حربهم على الإرهاب، لكن أليس من حق المواطنين السودانيين أن يطمئنوا إلى أن أمن بلدهم وسلامته التي أهدرت استباحتها الجماعات الأجنبية في مرحلة ''المشروع الحضاري''، بعلمٍ وبموافقةٍ من السلطة ''الإنقاذية''، هي الآن في أيدٍ أمينة وعاقلة تقدم أمن الوطن وسلامة أهله كلهم على أمن النظام وعقائده ومشروعاته الخائبة وطموحاته الخيالية؟ فالقضية التي تبدو على السطح وكأنها قضية أمن، هي في الواقع نتاج سياسة عقائدية تلبست قلة من السودانيين فأعمت أبصارهم وبصائرهم عن إدراك الواجب الأول والمسؤولية الأولى للحاكم، أي أن يحفظ للوطن أمنه وسلامة مواطنيه، وألا يعرضهم لأهواء السياسة والطموحات الذاتية الفانية··· إن كل ما كشف عنه حادث السلمة وما سيكشف عنه من حقائق ووقائع مذهلة، هو من مخلفات مرحلة ''المشروع الحضاري المنهار''، وإن لم يدرك الناس ذلك فلن يضعوا أقدامهم على بداية الطريق لإزالة المخلفات الخطيرة التي تهدد وطنهم..