د. خزعل الماجدي
رسمت شعوب الحضارات القديمة مستقبل البشرية ومصيرها، ولا يمكن معرفة ذلك إلا من خلال معرفة مجموعة من المصطلحات العلمية التي وضعها علماء الحضارات والأديان القديمة لكي نستدل بها لمعرفة وتحليل تصوراتهم تلك. كذلك تباينت نظرة شعوب العالم القديم لنهايات ومستقبل العالم، وهو ما سيأتي تفصيله.
أولاً: المفاهيم الخاصة بنهايات ومستقبل العالم
الإسكاتولوجيا:
علم النهايات، والذي يسمى اليوم بـ«الإسكاتولوجيا» هو العلم الذي يدرس الأخرويات في الدين والفلسفة والحضارة، ويتكون المصطلح من مقطعين هما (Eschata) إسكاتو أو إسخاتوس اليونانية، وتعني (last)، وتشير إلى الآخرة أو العالم الآخر أو عالم ما بعد الموت، و(Logy)، وهي الدراسة أو البحث. وقد استخدم، لأول مرة في اللغة الإنجليزية، نحو 1550م كجزء من اللاهوت والفلسفة، وهو يشير إلى الأحداث الأخيرة من التاريخ والمصير النهائي للبشرية الذي يشار إليه عادة بـ«نهاية العالم»، أو «نهاية الزمن».
أبوكالبسي (Apocalypse):
وهو مصطلح يوناني مكون من مقطعين هما «أبو» وتفيد النفي أي غير، و«كاليبسي» ومعناها تغطية أو غطاء. وتعني «رفع الغطاء»، أو «كشف الحجاب» وتشير إلى «الرؤيا» الكشفية التي تمنح لبعض الأشخاص المختارين، كالأنبياء أو الأولياء أو المتصوفة لمعرفة أمور مخفية عن الناس تخص مصيرهم ومصير العالم. ويمكن أن يعبر المصطلح عن الوحي الخاص بنهاية العالم.
يبحث الأبوكاليبسي في تصورات الإنسان عن نهاية العالم، وخصوصاً التصورات الدينية منها. لأن هذا المصطلح له دلالات دينية عميقة تدور حول الكشف عن المعرفة أو الوحي أو الكلمة أو المعرفة. وكانت الأرقام تستخدم كرموز في الرؤى الأبوكالبسية، وبعضها يستخدم لإخفاء معنى هذه الرؤى، وتستخدم الأرقام في وصف الأشخاص الذين لهم علاقة بالحلم الرؤيوي. مثل قرون دانيال السبعة، والأجنحة والقوارير والأبواق وغيرها.. فهذه رموز أبوكالبسية مهمة.
الخلاص Soteriology:
سوتيريولوجي هو علم الخلاص، وهو دراسة العقائد والأفكار والأساطير المتعلقة بالخلاص أثناء الحياة أو قبل مجيء الموت، ولكل ديانة عقائدها الخاصة بالخلاص، فالهندوسية (الفيدية) ترى أن التخلص من دورة الحياة والموت يكمن في الموكشا (التحرر) و(السمسارا). والبوذية في النرفانا والمندائية في العرفان (مندا)، حيث تتعرف النفس على أصلها الإلهي، وتتجنب ملوثات الجسد من الغرائز، وتصعد عالياً إلى عالم النور.
وكانت البوذية قد طوّرت عقيدة خلاصية قوامها التحرر من السمسارا، وهي دورة الحياة الإلزامية بعناوينها العامة (الولادة، العمل، الزواج، العجز، الموت)، وقد ابتكرت مفهوم الموشكا الذي يعني الخروج على هذه الدورة عن طريق التأمل والاستنارة.
الرواقيون وجدوا في النظام الكوني «الطبيعي» أمراً واقعاً لابد من التسليم به وعدم تحديه وكانت نصيحتهم بالعيش في الحاضر وغض النظر عن الماضي والمستقبل.
ثانياً: كيف نظرت شعوب العالم القديم لنهايات ومستقبل العالم؟
كانت الديانات القديمة تنظر إلى أن هناك دوراً واحداً للعالم يتكون من أربعة عصور، وقد طوّر البابليون، بشكل خاص، واستناداً إلى نظرية تنجيمية تقضي بانتشار الكواكب في أبراجها الأربعة ابتكروا فكرة العصور المتتابعة.
وكان السومريون ينتظرون نهاية العام لكي يغسلوا خطاياهم في العام الذي سينتهي ويبدأون عاماً خالياً من الخطايا. ولذلك تميزت أعياد رأس السنة السومرية في الربيع بالبهجة وإشاعة الخصب والحضور الرمزي لقوتي الحب والخصب (إنانا وديموزي) ممثلتين في شخصيتي (الكاهنة العليا والملك).
وبالإضافة الى الأمل كان هناك دافع ميثولوجيّ أعمق يتمثل بالعودة إلى الخالق وفردوسه، فالإنسان يحنّ للعودة إلى عالمه المثالي الذي انحدر منه وتلوّث بالعالم الذي يعيش فيه، إنه يحنّ للفردوس ويتوق للعودة له، ويسري هذا الحنين في كل المثولوجيات والأديان القديمة، فقد كان قدماء الشامانيين، أنفسهم، ممثلين للإنسانية الساقطة. يبذلون الجهد من أجل إعادة الالتحاق بالشرط الفردوسي الذي كان قبل «السقوط».
أما الرؤية العلمية السومرية لنهاية العالم، فتكمن في دورات السار والساروس التي تتنبأ بذلك فلكياً.
البابليون:
عرف البابليون فكرة الزمن الدوري في أبسط أشكاله من تتابع الليل والنهار وربما قبل ذلك من تتابع الساعات والنبضات (الثواني) وتكرارها. ولكنهم عرفوا السنة الكونية الكبرى التي أسموها الـ(سار Sar).
وهذه الدورة هي بداية ونهاية الحياة ثم عودة بدئها من جديد. وإذا عدنا إلى رقمها البابلي، فسنجده يرسم ذات الدائرة التي تشير للرقم 3600 وفي وسطها علامة الرقم 10 بالبابلية، وهذا يعني 3600× 10= 36000 وهو عدد سنين دورة الساروس اليونانية.
وأن هذه الدائرة بلغت ذروتها عندما توسطها زحل وهذا يعني نهاية الزمان الدوري الكوني بالطوفان. وهذا يتفق مع أفكار نهاية الكون عند البابليين بالفيضان العام أو الحريق العام لتبدأ بعدها دورة جديدة، لأنه حين يحدث اتصال الكواكب في برج السرطان تنخفض كل الأشياء وتعود إلى أصلها وتتحول إلى ماء. وحين يحدث اتصال الكواكب في برج الجدي، فإن كل الأشياء تتصاعد وتلتهب وتتحد مع النار وتفنى فيها.
الإغريق:
دورة الساروس (Saros) اليونانية مشتقة من الفكر والكلمة البابلية (Shar، sar) التي تعني الدائرة ذات الأصل السومري الذي هو (sar)، والتي كانت ترسم بأربع علامات مسمارية تشكل دائرة مغلقة. ورقم هذه الدورة هو 3600 وتعني كلمة السار على المستوى الفلكي السومري والبابلي دوراً يبتدأ فيه العالم من جديد، حيث ينتهي قبله عالم قديم، إما بالطوفان أو بالحريق.
وهكذا قدّر الإغريق زمن دورة الساروس بـ3600 بعد أن وجدوا أن حركة الكواكب في أفلاكها دائرية تنتهي في النقطة التي بدأت منها وهي ذات الفكرة التي ظهرت فيما بعد عند هيراقليطس وأفلاطون.
وقد بلور الإغريق نظرية أدوار العالم الأربعة في الدور الواحد وهي (الذهبي، الفضي، النحاسي، الحديدي)، والتي تبدأ بالخليقة وتنتهي بالكارثة الكونية.
المندائيون:
ظلت نظرية الدور الواحد مهيمنة على الأفكار الدينية للشرق الأدنى واليونان لزمن طويل حتى ظهرت نظرية الأدوار الأربعة المندائية (المتأثرة بالهندوسية) والتي كانت الأساس في جعل الفكر الغنوصي، كله، بل والعالم الهيلنستي. ويبدو أن المندائيين قد طوّروا نظرية الدور الواحد المتكون من أربعة عصور إلى نظرية الأدوار الأربعة التي تفصل بينها أربع كوارث كبرى. والأدوار الأربعة المندائية هي: الدور الأول الذي بدأ بآدم وحواء وانتهى بعنصر التراب المتمثل بالسيف والطاعون، أما الدور الثاني فقد بدأ بالبشرين (رام ورود) وانتهى بعنصر النار والحريق، أما دور البشرية الرابع فقد بدأ بـ(شورباي وشرهبيئيل) وانتهى بكارثة الماء والطوفان، والدور الرابع للبشرية والذي نحن فيه الآن ابتدأ بـ(نوح ونهوريتا) وسينتهي بعنصر الهواء من خلال العاصفة الكونية.
يتنبأ الكتاب المقدس للمندائيين (كنزا ربّا) بمجموعة من الأحداث التي ترافقها إشارات ورموز هي عبارة عن نُذُر تشير إلى قرب فناء العالم وهذه الإشارات التي شرحناها مفصلاً في كتبنا ومنها أنه يسقط من السماء نجمُ ويهوي في البحور السبعة، سوف يسيل ماءٌ أحمر. إذا شربت إحدى النساء من هذا الماء فسوف تصبحُ عاقراً وتفقد صوابها... وغير ذلك. وتهب عاصفةٌ ويرتفع معها التراب عن الأرض فيغطي أبواب الناس. ورغم أن الفناء يبدأ من حصول العاصفة وتراكم التراب على البيوت لكن الفناء الأخير والشامل ينتهي بين فكي كائن الظلام (يو باثين) الذي يتفسخ هو الآخر.
الهندوس ورواية بورانا:
يكون الزمن دورياً عند الهندوس، ويتألف من دورات أو «كالبات»، وزمن كل دورة 8.64 مليار سنة، وكل دورة تتكون من أربع يوجات (جمع يوجا)، وتتألف الدورة من أربعة عصور متناقصة حيث العالم يتدهور خلالها. ومن العصر الذهبي (الربيعي) وحتى العصر الأخير تنحل البيضة الكونية الكبرى فلا يبقى منها سوى المحيط الأولي الذي ينام فوقه فيشنو الإله الأكبر ثم يبدأ دورة جديدة وهكذا. آخر يوجا هي التي نحن فيها وتسمى (كالي) واسمها هذا بسبب هيمنة الشيطان كالي عليها، لقد تنبأ الهندوس لهذه الحقبة بأنها تتميز بالعاطفة والعنف والانحلال، الثروة هي الآن مصدر الفضيلة، العاطفة والرفاهية هي الروابط الوحيدة بين الزوجين. الزيف والكذب هي شروط النجاح في الحياة. الجنس هو المصدر الوحيد للتمتع البشري. يتم الخلط بين الدين، والطقوس السطحية الفارغة، مع الروحانية. الملوك في العصر الرابع سيكونون بعيدين عن الدين، يريدون السكون والهدوء والغضب. سوف يلقون الموت على النساء والأطفال، وسوف يرتفع ويسقط إلى السلطة بسرعة. سوف يتلقى البرابرة دعم الحكام، سيظهر الطاعون والمجاعة والأوبئة والكوارث الطبيعية. الناس لن يصدقوا بعضهم بعضاً، الأكاذيب ستفوز بالنزاعات، وسيصبح الأخوان والأقارب متوحشين في علاقاتهم مع تقدم كل عصر. جفاف المياه سيكون هو التعريف الوحيد للأرض، وأي مياه يصعب الوصول إليها. يختبئ الناس في الوديان بين الجبال، ويعانون من البرد والتعرض، ويرتدي الناس ملابس لحاء الشجر وأوراق الشجر. وسيشهد نهاية هذه اليوجا تدمير الجنس البشريّ.
الروايات الأبوكالبسية الهندية غير الرسمية مثل رواية (بورانا). ترى أن الإله فيشنوهو الإله الحافظ أي الذي يمتص العالم قبل أن يولد مرة أخرى، فقد أنقذ فيشنو البشرية عدة مرات وسينقذها حين يتجسد في (كالكي) الحصان الأبيض، بعد أن يسود العالم الرعب والكراهية والكذب والخيانة والمتدينين الكاذبين وسيكون المال هو مقياس الشرف. ويسمى نهاية الزمن (بارالايا Paralaya) وهناك نهايات مختلفة للعالم.
وفقاً لأساطير التبت فحين غمرت المياه الأرض قام الإله (جابا) بسحب المياه من خلال البنغال وأرسل المعلمين ليمدّنوا الناس الذين سكنوا الأرض من جديد.
وفي سومطرة يعتقدون بأن الأفعى العملاقة (ناجا – بادوها)، وتسمى في الهندوسية (شيش ناج) تعبت من تنشيف البحر، لكن الإله باتارا غورو جعل الجبل يرمي الماء ليحفظ النبتة، فينحدر الجنس البشري منها.
ثالثاً: جدوى النظرة القديمة والوسيطة لنهايات ومستقبل العالم
لا تختلف كثيراً رؤية الشعوب الأخرى، ولاشك أن الرؤى التي قدمتها الحضارات والأديان القديمة والوسيطة اعتمدت على أسس ميثولوجية واضحة، ولذلك فقد وقعت في أوهام كبيرة، ولم تقدم نظرة حقيقية لمستقبل العالم أو لنهايته. بل هي ما زالت تجعل النظرة إلى المستقبل مصحوبة بالدمار النهائي. ولاشك أن هذه النظرات لا تصمد أمام أي محاولة للتحقق من مصداقيتها، وخصوصاً تلك التي تتعلق بأحداث توقعتها ولم تحصل في الزمن الذي عاشته البشرية بعد ظهور تلك التنبؤات.
أما النظرة العلمية التي يقدمها العلم الحديث عن مستقبل العالم فهي الأكثر دقة وواقعية لأنها مبنيٌّة على الإحصاءات والوقائع الخاضعة للرصد العلمي، ولكننا يجب أن نعترف أن هناك مفاجآت لا يستطيع العلم توقعها، وهذا أمر طبيعي.