الفاهم محمد
كان القرن العشرون قرن الحروب والرعب النووي والصراع بين المعسكرين. قرن أنهيناه بالشعارات البراقة التي رفعتها العولمة، وبالانغماس الساذج والمميت في ثقافة الاستهلاك. اعتقدنا أننا تركنا الخراب وراءنا، وأننا سننعم بالخيرات التي يبشر بها التقدم التكنولوجي، لكننا سرعان ما سنستفيق مع بداية الألفية الثالثة، على تصدعات عميقة في العالم المخملي الذي بنته وعود الحداثة الفائقة hyper Modernité. كانت البداية مع ظهور المسخ الجديد للإرهاب، ثم خطر الاحتباس الحراري الذي يهدد بانهيار بيئي شامل. أما الفيروسات القميئة إنفلوانزا الخنازير والطيور والايبولا وماربورغ وغيرها؛ فقد استيقظت من سباتها، وها هي ذي تأتي بدورها كي تستكمل مشهد الإيذان بنهاية العالم.
نعم هكذا هو الأمر! فالأخطار التي تحوم فوق رؤوسنا ليست أخطاراً إقليمية، تصيب جهة من الكرة الأرضية دون الأخرى، بل هي ذات شكل قيامي Apocalyptique تضع الوجود البشري برمته في كف عفريت، ولنتذكر الإنذار الذي أطلقه هوبير ريفز حول الانقراض السادس الذي يتهدد البشرية.
هل علينا أن نسترسل في سرد لائحة الهلاك التي بات الكل يعرفها ويتابعها في نشرات الأخبار، وكأنها جزء من مقبلات طعامه: العواصف الشمسية المنذرة بحرق الكرة الأرضية، مخاوف الانفجار الديموغرافي الهائل، قوافل النازحين الباحثين عن الأمان المفقود. صورة الطفل أيلان الذي لفظته الأمواج على الشاطئ منكفئاً على وجهه مديراً ظهره للعالم.. هنا يبدو أن الإنسانية ذاتها أمام امتحان البقاء. ذلك أن المستقبل لم يعد شيئاً مجهولاً نتجه إليه في الأفق غير المنظور للزمان.
يقال عادة إن المستقبل هو ما لم يحدث بعد. كلا لقد بدأ المستقبل منذ البارحة، أي منذ اللحظة التي قرر فيها الإنسان أن تكون المادة والرأسمال هما قيمة القيم، والمعنى الوحيد الذي ينبغي أن نعيش من أجله. منذ أن أصبح قانون الربح: «كل شيء ينبغي أن يكون قابلاً للبيع». هو القانون المحدد للحياة. يكفي تحليل الحاضر لنعرف إلى أين يتجه المستقبل. الأمر لا يتعلق بالنظر في كرة الكريستال، بل بتحليلات إستراتيجية قدرية إذا ما جاز لنا استعمال التعبير الشهير لبودريار. لذلك فالمستقبل الذي نركض إليه بات معروفاً، والسؤال الذي علينا أن نطرحه هو هل لا يزال بإمكان الإنسانية أن تنهض من جديد؟
تحرير المستقبل
في فيلم «مرحباً في غاتاكا» Gattaca من إخراج أندرو نيكول 1997، يكافح البطل فانسان من أجل الدخول إلى هذه المدينة المستقبلية، التي لا يسكنها سوى بشر تم انتقاؤهم جينياً. مدينة المستقبل تعمل على اختيار شعبها عن طريق التحكم في مورثاتها وتحسينها l›eugénisme. هكذا يتساءل الفيلم عن مخاطر هذه التطبيقات التي سنحققها بواسطة الهندسة الجينية؟ فالمستقبل قد لا يكون هو المدينة الفاضلة التي نحلم بها.
دعونا نبدأ أولاً بما هو نوعي وخاص بعصرنا. العديد من الأشياء التي ننفرد بها في تاريخ الجنس البشري، فلنقتصر هنا بسبب ضيق المجال على ثلاثة فقط:
أولاً التغيرات المناخية، فارتفاع درجة حرارة الأرض لا يهدد فقط حياة الإنسان، بل حياة كل الكائنات. في فيلم الماتريكس يخاطب العميل الشرير سميث مورفيوس قائلاً: «أنتم بني البشر تستوطنون منطقة، وتستولون على خيراتها، وبعد نفادها تنتقلون إلى منطقة أخرى، وهكذا دواليك أنتم سرطان الكرة الأرضية». والحق أن الإنسان منذ الثورة الصناعية وهو يؤسس علاقة عدائية تجاه الطبيعة، انتهت بهذا الخراب البيئي الذي نعيشه الآن، والذي في حالة عدم تمكننا من إيقافه، فإن الكارثة ستتعاظم في المستقبل، سيكون الإرث الذي سنتركه لأحفادنا مجرد كرة أرضية ملوثة، وغلاف جوي مهترئ لا يساعد على استمرار البشرية.
ثانياً: الثورة المعلوماتية أو «القنبلة المعلوماتية»، كما سماها بول فيريليو، غيرت تماماً نمط الحياة البشرية. لكن الأمر لا يتعلق فقط بعدد من الأجهزة التي سهلت علينا حياتنا في الكثير من المجالات، بل بشيء آخر نتجه إليه بشكل حتمي. إنه الذكاء الاصطناعي الذي يزداد تطوراً يوماً عن يوم. عندما سئل الروبوت الذكي فيليب عن طموحاته المستقبلية أجاب: «سأبقيكم آمنين في حديقة للبشر، حيث يمكنني مراقبتكم». لقد غيرت الثورة المعلوماتية العلاقات البشرية، وفي المستقبل سيستمر هذا التغيير ليطال عمق الاجتماع البشري ما دمنا سنضطر للعيش مع كائنات/ روباتات غير بشرية. فهل ستلغي الخوارزمية الإنسانية؟
ثالثاً: ثورة العلوم الطليعية التي يطلق عليها اختصاراً NBCI، أي علوم النانو والهندسة الجينية والروبوتات والإنترنت، جميعها تشتغل اليوم بشكل متضافر، كي تغير طبيعة الحياة والوعي بشكل غير مسبوق. إنها علوم تنبئ باندماج الإنسان والآلة. في هذه الحالة يحق للمرء أن يتساءل ما مستقبل الوعي البشري، بل ما هو مستقبل الإنسان ذاته؟
يضاف إلى هذا خطورة أخرى، إنها الانفجار الديموغرافي الهائل، والذي من المزمع بلوغه في منتصف هذا القرن حوالي 9 مليارات نسمة، الأمر الذي يجعلنا نتساءل بنبرة مالتوسية: هل ستتمكن الأرض من إطعام كل هذه الأفواه. بل هل ستتمكن أصلاً من تحمل الضغط الذي سيسببه التزايد السكاني المهول على الانبعاثات الغازية. لقد لعبت ظروف تحسين الرعاية الصحية والتطعيمات دوراً أساسياً في هذا التفاوت الحاصل بين معدل الولادات ومعدل الوفيات. إلا أن المستقبل قد يكون قاتماً ضد هؤلاء الأكلة الذين لا فائدة منهم (The Useless Eaters)، حسب الوصف الشهير لهنري كيسنجر. تعتقد كلود سيفراك، مثلاً، أن هناك «حرباً سرية ضد الشعوب» تخاض منذ الآن من أجل تقليص عدد السكان الذين لا مكان لهم في المستقبل.
إذن لم يعد الغد ملكاً لنا، لقد تم الاستيلاء عليه من طرف النخبة. كل الموارد الحيوية والإستراتيجية أصبحت منذ الآن في ملك الشركات القوية، المياه الصالحة للشرب، بذور المزروعات، حقوق البحث العلمي، المعلومات، التكنولوجيا الحيوية... إذن ينبغي تحرير المستقبل من القوى المتنفذة المالية والسياسية، كما ينبغي كذلك تحرير العلم من النموذج الميكانيكي المادي، نحو نموذج أكثر قرباً من ما هو روحي في الإنسان والطبيعة، مثلما يعمل على ذلك فيلسوف العلم جان ستون أو تييري ماغنان أو غيرهما.
الحداثة البروموثيوسية
المستقبل نتيجة حتمية للوضع الذي بنيناه منذ عصر النهضة. أي نتيجة لهذه الحداثة ذات الطابع البروموثيوسي التي طمحت للسيطرة على الطبيعة بقوة التكنولوجيا. وإذا لم تتدخل حكمة الإنسان في اللحظات الأخيرة والحاسمة لتغيير مسار الأمور، فإن المستقبل لن يكون مكاناً آمناً للبشرية. هل سننجو؟ لا أحد يعلم على اليقين، ولكن كيفما كان الحال، فإن الثمن الذي يتوجب علينا دفعه مقابل ذلك سيكون باهظاً. نحن في حاجة إلى بناء حضارة جديدة نتجاوز فيها أزمة الحداثة الظافرة، وإلى تغييرات جذرية وعميقة في العلم والاقتصاد والسياسة.
هناك شيء آخر يجب أن يشغل بالنا، إنه يحدث يومياً أمام أعيننا، ولكن دون أن يثير الانتباه إليه كثيراً، وكأنه أمر عادي أو من حسنات التطور. فالعالم يزداد ارتباطاً يوماً عن يوم، ليس فقط بسبب العولمة التي ألغت الحدود ودفعت بالسيولة العامة للبضائع والرأسمال العابر للحدود إلى درجة قصوى. بل أيضاً بسبب شبكة الإنترنت ونظام تحديد الموقع GPS والكاميرات، وأجهزة الاستشعار، ومؤخراً الشرائح الإلكترونية المزمع زرعها تحت جلد البشر. هذه الرقابة المطلقة للمجتمع، شبيهة بتلك التي وصفها جورج أورويل في روايته الطليعية «1984»، ستصبح التحقق الكامل «للأخ الكبير الذي يراقبنا». إن المجتمع القادم الذي بدأت ملامحه تظهر منذ الآن سيكون cybersociety، أي خاضع خضوعاً كلياً للرقابة المفروضة من طرف الشبكة العنكبوتية.
تطوير التطور
وعود العلم كبيرة جداً بل مخيفة. ترى ما بعد الإنسانية - مثلاً - إنه آن الأوان لـ «تطوير التطور». هكذا يتحدث دانييل دينيث الفيلسوف الأميركي المعاصر عن: «مخاطر أفكار داروين التطورية»، وهو عنوان أحد أهم كتبه، حيث يدعو إلى تجاوز الحدود التي وضعنا فيها داروين. يرفع دينيث شعار (Never step down; step up whenever possible) أي «لا تخط أبداً للأسفل اخطُ إلى الأعلى كلما كان ذلك ممكناً»، ومعناه أن داروين مات، وأن فكرة التطور ينبغي أن تتابع مسيرتها، ولكن ليس عن طريق الانتخاب الطبيعي، بل بفضل الهندسة الجينية للكائن الحي. أي التدخل في الجينات البشرية، وتحويلها حسب أهداف مخططة سلفاً. إن الجينات التي تطلب تصميمها من الطبيعة مليارات السنين، بإمكاننا اليوم التلاعب بها كيفما شئنا. الوعود كبيرة من أجل ذلك: أطفال حسب الطلب، شباب أطول، صحة جيدة، وربما الخلود الأبدي.
ولكن رغم كل المخاوف، لا يمكننا القول بأن المسألة هي حماس مفرط خاص بالمجتمعات الفائقة الحداثة، وأنه بفضل التقدم ورفع درجة الوعي بخطورة مثل هذه التطبيقات المتحمسة، يمكننا أن نضع حداً لها. تجاوز الشرط البشري ألا يمكن أن يكون بدوره شرطاً إنسانياً. بطريقة أخرى يتعلق الأمر بصدمة المستقبل التي حدثنا عنها ألفين توفلر. تلك الصدمة التي علينا أن نتقبلها ونتجرعها، وإنْ كان على مضض، فنحن مجبورون على ذلك بالنظر إلى عوامل عدة، منها: شح الموارد الأساسية للحياة ونضوبها القريب. غزو الفضاء، فالمستقبل بين النجوم. ظهور تهديدات بالفناء الشامل نتيجة فيروسات أو نيازك قاتلة. النهاية المؤكدة للحياة فوق الأرض بفعل الانفجار الشمسي.
مخاوف وآمال
هل المستقبل مجرد مهلكة كبرى تنتظر البشرية؟ ثمة العديد من الأمور التي تبشر بازدهار عظيم. بيئة نظيفة، علم يتصالح مع الغايات الإنسانية، نظم اقتصادية وسياسية عادلة، روحانية تبشر بعودة مملكة السلام إلى الأرض، التغلب على الأمراض المزمنة وإطالة عمر الإنسان... باختصار نحتاج إلى أخلاقيات جيدة تعيد توطين القيم الأساسية في عالم المال والأعمال، وفي السياسة وفي العلوم التطبيقية. إذن هناك ممكنات يجب العمل عليها. يبرر المدافعون عن الوضع الحالي الذي تسير إليه الأمور بإيديولوجية «لا يمكننا أن نوقف التقدم»، وهذا أمر قابل للنقاش، ذلك أن المشكلة ليست في الإمكانات الهائلة التي تمنحها التقنيات والعلوم الجديدة، بل في كون هذه التطبيقات ينبغي أن لا تكون على حساب ما هو إنساني. فبدل أن يتم تحويل العلم إلى أسطورة للخلاص كما فعلت الحداثة، ينبغي عليه أن يعزز الفضائل البشرية، ويدفع بها إلى الأمام. عبر التاريخ كانت هناك دوماً صعوبة بالغة في وضع الخط الفاصل: هل الوحش يقف على اثنتين أم على أربع؟ ! إن كل ما نأمله في المستقبل هو أن تدعم الأنظمة السياسية والاقتصادية المقبلة، وكذا العلوم الجديدة، جانبنا الإنساني بدل أن تصنع منا وحوشاً كاسرة.