في تلك الليلة كانت رماح على موعد مع الفرح، فقد استنفدت القرية الوادعة أسرارها في باطن وديان النخيل المترامية الأطراف سعادتها وألقها، وهي تحتضن قرية تراثية حية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ودلالات، لم يكن الفرح هو عنوان رماح تحت ضوء القمر، بل كانت فرحتي وأنا أراقب رائحة التراث في عيون الحضور الذين شدوا الرحال إلى تلك القرية التراثية التي شيدتها طالبات مدرسة الطليعة للتعليم الأساسي في منطقة العين التعليمية. كانت أعلام الدولة، التي تزين الطرقات من مدخل رماح على طريق أبوظبي العين الرئيسي إلى رماح الجديدة، بمثابة إشعار للزائرين بوجود القرية التراثية فوق هذه الربوة العالية التي يسطع منها ضوء القمر، عندما يسكب خيوطه على بيت العريش، في الطريق إلى القرية التراثية قلت في نفسي: «لعلّها أمسية مثل غيرها من الأمسيات التقليدية التي نرى فيها المنصة والميكروفونات والكلمات المكررة وتثاؤب الحضور من شدة رتابة الموقف». على مشارف القرية كان الطريق أشبه بخلية نحل في تلك البقعة الجديدة من رماح، التي كانت لسنوات طويلة واحة نخيل تحتضنها كثبان الرمال البكر، واليوم تمددت هذه القرية المدينة من حيث بنيتها التحتية ومرافقها الخدمية، وأنشئت فيها مجموعة بيوت سكنية جديدة تتوسطها مدرسة الطليعة التي حملت طالباتها مسؤولية إحياء روح التراث في هذه المنطقة من جديد، مؤكدة خلوده وتجذره في الشخصية الإماراتية. تقول موزة النيادي مديرة المدرسة: «لقد علمنا المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد «طيب الله ثراه» كيف نفاخر بتراث الآباء والأجداد، ولذلك حرصنا على أن تتصدر القرية التراثية عبارة من أقوال فقيد الأمة يقول فيها، «طيب الله ثراه»: «لقد ترك لنا الأسلاف من أجدادنا الكثير من التراث الشعبي الذي يحق لنا أن نفخر به، ونحافظ عليه، ونطوره ليبقى ذخراً لهذا الوطن وللأجيال القادمة». كان صوت الطالبة روضة المزروعي التي قامت بدور المطوعة يجلجل المكان، ويضفي عليه مهابة قبل الوصول إلى أسوار العريش الذي يحيط بمرافق القرية في مدرسة «الطليعة»، تجلس موزة فى «برزتها» في مدخل القرية، وفي يدها عصا غليظة ومصحف شريف، ومن حولها تحلقت الطالبات يقرأن القرآن الكريم، ويعدّن قراءته مرة ثانية على المطوعة التي تصحح لهن القراءات، وتكافئ بعضهن لنجاحها في الحفظ من جهة، ومن جهة أخرى تؤنب اللواتي لم يستطعن الحفظ، وقفت أمام المطوعة روضة، وتابعت جانباً مما يدور في كتابها الصغير، والذي يقع بجانبه ركن به طوى لاستخراج الماء تقوم عليه الطالبة هند الخييلي التي لا تكل، وهي تسحب الماء من عمق البئر وتوزعه بابتسامة جميلة على نساء القرية اللاتي يقفن في صف طويل في انتظار جرعة ماء يحملنها لأطفالهن، الذين أعيتهم ندرة الماء في الصحراء. بالقرب من طوى هند الخييلي وقفت طفلة صغيرة اسمها «عذبة» تبكي ولم تجد من يساعدها في الوصول إلى الماء، إلى أن جاءت إحدى النساء وقدمتها على دورها وأفرغت الماء في الإناء الموجود معها، وسألتها من أين قدمت، فقالت لها: «من بعيد، والدتي مريضة وأبي يرعى الإبل ولا يوجد أحد يمكنه أن يحضر لنا ماءً، فاستأذنت أمي للمجيء إلى هنا وإحضار الماء نيابة عنها، والحمد لله فقد وفقني الله إليك». على الرغم من عدم اتساع مساحة القرية التي أقيمت في ركن رملي من المدرسة، إلا أن ملامح الحياة كانت واضحة تماماً في هذه القرية التي جسدت علاقة مجتمعية أصيلة ينبغي أن تكون بين المدرسة والمجتمع، بحسب موزة النيادي، التي تؤكد على أن التعليم لا يمكن له أن يحلق بعيداً عن التراث المجتمعي والإرث الثقافي للهوية الوطنية، ومن هنا جاءت تلك القرية التراثية التي ترسخ لدى الطالبات مفاهيم قوية حول أصالة التراث وضرورة الحفاظ عليه وتفعيل دوره في التعاطي مع المتغيرات الثقافية التي يشهدها العالم في عصر العولمة. أبرزت الطالبة شماء خليفة الخييلي مهارة كبيرة، وهي تتولى عملية «ترويب» الحليب بالطريقة التقليدية التي تعلمتها من الأمهات والجدات، خاصة في زمن لم تكن فيه تقنيات متطورة لحفظ الحليب، ولم يكن أمام ربة البيت سوى حفظ الحليب عن طريق ترويبه وخضه، ثم الاستعانة به كعنصر أساسي في الغذاء اليومي للأسرة. توقف محمد سالم الظاهري، مدير منطقة أبوظبي التعليمية، أمام شماء واستفسر منها حول كيفية اتقانها لهذه المهارة التي تكاد تندثر، وأكدت له الطالبة أن التراث في حاجة ماسة لأن يكون حاضراً في مناهجنا الدراسية، وأن تكون الأنشطة والفعاليات المصاحبة لهذه المناهج معززة لآلية ترسيخ التراث لدى الطلاب والطالبات منذ رياض الأطفال وحتى المرحلة الجامعية، بحيث يتخرج هؤلاء جميعاً، ولديهم رصيد معرفي كبير حول تراثنا الوطني. أما صوت موزة الراشدي، وهي تبيع السمك فقد كان مبهراً للجميع، وهي تنادي على طاولة الأسماك وتدعو الزوار لشراء الشعري، والقباب، والزبيدي، والمالح، وغيرها من أنواع الأسماك التي لا غنى لمائدة عنها خاصة وقت الغداء. وكذلك معروضات دكان «بوخماس» من الثياب والعطور وأدوات الزينة. وفي مجلس الشعراء أبدعت الطالبة نشبة الكويتي في إلقاء القصائد الشعرية هي وزميلاتها اللاتي قدمن صورة حديثة لديوان العرب الذي يجمعهن في ساعات السمر يتبادلن فيه أعذب الكلمات ببلاغة وإيجاز شعري جميل. وفي السوق الشعبي قدمت نجمة الخييلي صورة أصيلة حول بيع البهارات في الأسواق الشعبية التقليدية، وكيفية عمل خلطات من هذه البهارات والأعشاب الطبيعية للتداوي من بعض الأمراض، ومن جانبها قدمت مريم الراشدي وزميلاتها عروضاً حية في الألعاب الشعبية، وقدمت ميرة جمعة الخييلي وزميلاتها عروضاً في الحربية، والعيالة، بالإضافة إلى فقرات فنية قدمتها الطالبة هند المزروعي حول شخصية «شحفان» التلفزيونية الشهيرة، وقدمت إليازية حمود صورة حول عملية بيع الخضار في السوق قديماً. أجمل ما في هذه القرية التي أعادتني إلى «عراقيب» العين البكر قبل عشرين عاماً، هو ذلك الحماس، بل والتدفق من جانب الأمهات على المشاركة في الفعاليات جنباً إلى جنب مع إدارة المدرسة والطالبات مقدمات بذلك صورة للتواصل المجتمعي الذي تفتقد إليه معظم مدارسنا في الدولة، قبل أن أرتشف فنجان القهوة الأخير وأنا في طريقي للخروج من القرية التراثية تمنيت لو أن عمر هذه القرية طال ليشد إليها طلاب وطالبات في مدارس أخرى الرحال ويتعلموا كيف كان يعيش الأجداد، وكيف واجهوا شظف الحياة، وكيف كانت حياتهم صراعاً للبقاء، ففي هذه القرية علم لا يمكن أن يتعلمه طلابنا من «الكوفي شوب» الذي أصبح مدرستهم الأولى والأخيرة!