عصام أبو القاسم
رسخت أيام الشارقة المسرحية، التي تنطلق دورتها الـ (30) مساء اليوم السبت، العديد من التقاليد والمبادئ المهنية المهمة خلال مسيرتها التي بدأت مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ومن بين تلك التقاليد ما يعزز ويرعى ويحفظ الحق المعنوي والمادي للكاتب المسرحي، كجزء أساس من العملية المسرحية، وهو أمر يثير الانتباه في سياق تجربة المهرجانات المسرحية المحلية التي تنظم في البلاد العربية، فالرائج والمعتاد هو تهميش دور المؤلف المسرحي، فلا صفة عضوية له لا في إدارات المسارح الوطنية (القومية)، ولا في الفرق التي تشارك في هذه المهرجانات، وهو قد يكون أجنبياً أو ممن عاشوا في أزمنة سابقة، وبالتالي لا سبيل إلى وضعه في الاعتبار حين يتعلق الأمر بالجوائز مثلاً، أو باللوائح المتعلقة بالقوانين الخاصة بالمهرجانات.
والاعتراف بحق الكاتب في إطار أيام الشارقة المسرحية ليس عرفاً عاماً، بل هو جزء من النظام الأساسي للتظاهرة، فثمة لجنة فنية لمعاينة النص واختبار جودته قبل عرضه، كما أن هناك لائحة في قانون المهرجان تخص جائزة «أفضل نص مسرحي»، وتمنح للنصوص الجديدة أو التي لم يسبق تقديمها فوق خشبة المهرجان، كما أن كل فرقة تخصص مكافأة مالية لصاحب النص الذي تستند إليه في عرضها المسرحي، وهذا بعد أن تنال موافقته وتتفق معه.
هذا إلى جانب أن هناك مسابقة للتأليف المسرحي (موجهة لكتّاب المسرح في دول مجلس التعاون) وتعلن نتائجها بالتزامن مع بداية كل دورة جديدة من «الأيام». من هنا، يمكن القول إن «الأيام»، أرست قاعدة قانونية وخلقت وضعية مهمة لكتّاب المسرح، خلال مسيرتها في العقود الثلاثة الماضية. ولقد أثر ذلك إيجاباً، بطبيعة الحال، على حجم ونوع ما يبدع من نصوص مسرحية، لا سيما من بين الكتّاب المحليين.
أهل المغنى
حين ننظر إلى العروض المشاركة في هذا الدورة، نجد أن جلها ارتكز على نصوص لكتّاب إماراتيين (7 من 10)، ولعل ذلك يؤكد الحيوية العالية التي أضفتها «الأيام» على واقع الكتابة المسرحية المحلية، وعندما نقرأ ونتأمل هذه النصوص، نقف على جملة من المعطيات الدالة، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن النصوص في معظمها كُتبت باللغة العربية، وفي ذلك انسجام مع الخطاب الثقافي للشارقة والداعي إلى تعظيم الاهتمام بلغة الضاد، كوسيلة للتواصل والإبداع، بقدر ما فيه إشارة إلى تجاوب صنّاع العروض مع حفاوة المهرجان بهويته العروبية، لا سيما عبر استضافته لعدد كبير من الفنانين العرب، من المشرق والمغرب.
وضمن هذه النسبة الزائدة لعدد النصوص الإماراتية في هذه الدورة، يمكن أن نتبين كيف أسهمت عناية المهرجان بالنص وكاتبه، في أن يطور مرعي الحليان، على سبيل المثال، تجربة مميزة في الكتابة المسرحية، هو الشاعر والممثل والمخرج، شغلها وهاجسها عالم أهل الطرب الشعبي، ففي الدورة الخامسة والعشرين من المهرجان «مارس 2015» قدم الحليان قصة المطرب التقليدي «بن تايه» في مسرحيته الموسومة «مقامات بن تايه» (من تأليفه وإخراجه) فاتحاً سيرة الكتابة المسرحية في «الأيام» على مسار جديد، ثيماته وموضوعاته مستوحاة من شجون وهموم أهل المغنى في مواجهة هزات الحداثة.
وكمخرج، وخلال عامين متتاليين، اشتغل الحليان على حبكات ذات صلة بالمطربين وفناني الأداء الشعبي، عبر مسرحيتين من تأليف إسماعيل عبد الله، وهما «البوشية» 2017، التي ترتكز درامياً على قصة راقصة توشك أن تفقد عاشقها الثري بسبب مهنتها، و«موال حدادي» 2018 التي صورت جانباً من فترة الاستعمار في أربعينيات القرن الماضي من منظور فرقة أداء شعبي.
وفي هذه الدورة الجديدة، يعود الحليان ليرسخ حضوره، كمخرج ومؤلف يسعى إلى تعضيد مشروعه الإبداعي من خلال استلهام حكايات الفرق الطربية الشعبية، عبر مسرحيته «سمرة» (من تأليفه وإخراجه وتقدمها فرقة ياس)، ليسلط الضوء عبر وقائعها على شواغل وتحديات وعواطف المشتغلين في هذا المجال الفني، علاقاتهم في ما بينهم، ورؤيتهم لما يقدمونه، وطموحاتهم وأحلامهم بين الحفاظ على الموروث والسعي إلى التطوير والتحديث.
سيمفونية الموت والحياة
أما الكاتب إسماعيل عبد الله، فينتقل عبر مسرحيته الجديدة «سيمفونية الموت والحياة» التي سيخرجها محمد العامري وتقدمها فرقة مسرح الشارقة الوطني، إلى نوع موسيقي آخر غير ذلك الذي تابعناه في نصوصه المعروضة قبلاً «البوشية» و«موال حدادي»، و«مجاريح»، حيث تشغل الفرق الغنائية الشعبية مكانة مركزية في البنية التأليفية، دلالياً وجمالياً، فلقد توجه في عمله الجديد إلى الموسيقى الكلاسيكية «السيمفونية»، متتبعاً مسار فرقة أوركسترالية ترسل إلى جبهة حربية للترويح عن الجنود، إلا أنها تقع في أسر جماعة متطرفة. ويتغنى النص بالتأثير الإنساني للفن، وبقدرته في استخلاص وإظهار أفضل ما في نفوس البشر تجاه مفاهيم مثل الحياة والحب والجمال.
الكاتب عبد الله صالح، الذي عُرف مطرباً وملحناً في بداية حياته، إلى جانب اشتغاله بالتمثيل والإخراج في المسرح والتلفزيون والإذاعة، كان قد أصدر كتاباً بعنوان «الأغنية في مسرح الإمارات» 2004، يحضر في الدورة الجديدة لـ«الأيام» ولا يتناول موضوعه الأثير في نصه المسرحي الجديد «حارس النور»، الذي سيخرجه علي جمال وتقدمه فرقة مسرح دبي الوطني، بل يناقش جدلية القديم/ الحديث، في فضاء مدرسة لطلاب الأساس، مستنداً إلى واقعة تحديث إداري تتأثر بها حياة حارس المدرسة.
ويتناول حافظ آمان في نصه «صبح ومسا» الموضوع ذاته ولكن في إطار رمزي، وعبر منظورين للحياة، أحدهما يصدر عن كائنات الليل، والآخر يجيء من كائنات النهار، لو جاز القول، وهو يستند في رسم خطوط نصه الذي سيخرجه بنفسه وتقدمه فرقة مسرح دبي الأهلي، عبر مواجهة بين امرأة تعتمد حياتها على الليل ورجل يرتكز شغله على النهار.
بين العقل والقلب
ولم تغب مساءلة السلوكيات غير السوية، كالنفاق والرياء والرشوة والمحاباة والانتهازية، في نصوص المهرجان، وهو ما يظهر بصفة أوضح في مسرحية «أشياء لا تصلح للاستهلاك الآدمي» التي كتبها علي جمال ويخرجها حسن رجب وتقدمها فرقة المسرح الحديث في الشارقة، وهي مبنية على تقنية «مسرح داخل مسرح»، وهي تصور في لوحات كاريكاتورية كيف تغير الأطماع وطموحات النفوذ والاستحواذ على الفرص النفوس البشرية وتحولها إلى أشياء لا صلة لها بالآدميين.
الثيمة ذاتها تقاربها، بطريقة ما، مسرحية «أين عقلي يا قلب» من تأليف عثمان الشطي وإخراج أحمد الأنصاري والتي تقدمها فرقة مسرح كلباء، والتي تدور أحداثها في فضاء متجر لبيع الأعضاء البشرية تتزاحم فيه مجموعة من الناس لتعويض أجهزتها الجسمية المختلة وتفعيل حواسها من جديد، فثمة القاضي غير العادل الذي يرغب في إبدال عينه، وهناك الخطيب غير الصادق الذي يريد شراء لسان، وهنالك زوجة الوزير مسترقة السمع التي تريد شراء أذن، إلخ. وتنبع دراما النص من حقيقة صاحب المتجر الذي ليس لديه سوى «عقل» و«قلب» لا أحد من المجموعة يرغب فيهما.
وفي النصوص الأخرى، مثل «ليلة مقتل العنبكوت» لإسماعيل عبد الله وتخرجها إلهام محمد (فرقة مسرح خورفكان)، و«الرحمة» من تأليف عبد الأمير الشمخي ومن إخراج عبيد الهرش (مسرح الفجيرة)، و«لمس المواجع» من تأليف حميد فارس، وإخراج مبارك خميس (مسرح رأس الخيمة). محاورات ذهنية وفلسفية ورومانسية حول مفاهيم مثل الضعف بمقابل الجبروت، الحب بمقابل الحرب، الخضوع بمقابل التحرر، الوفاء بإزاء الخيانة.. إلخ.
عين على الأندلس
مما يلفت في مضامين النصوص المشاركة أيضاً الانشغال بالتاريخ العربي والتحولات التي حدثت من بعد سقوط الأندلس، وهو ما نلمسه غناءً وخطاباً في مسرحية «سمرة» للحليان الفائت ذكرها، وهو يتجلى بشكل أسطع في نص «بكاء العربي» الذي كتبه ويخرجه مهند كريم وتقدمه فرقة مسرح جمعية دبا الحصن، وهو يستعيد عبره، في إطار ساخر، قصة الملك «أبو عبد الله محمد الثاني عشر» الذي حكم مملكة غرناطة على فترتين 1482- 1483، و1486- 1489، وكان الإسبان يلقبونه بـ«الصغير»، وهو آخر ملوك الأندلس المسلمين.