إبراهيم الملا

لا يغادر اسم ورسم الشاعر الإماراتي الكبير راشد الخضر، واجهة المشهد الشعري الزاهي والمتألق في سجلات الذاكرة الثقافية بالإمارات، ذلك أنه شاعر ارتبط صيته وتأثيره بتلك الحساسية الفنية المدهشة، وبتلك التوليفة الأسلوبية العالية، والنَظْم البارع، فيما يخص سبك العبارة الشعرية، وضخّها بصور وأخيلة متفردة، واقتحام دروب الاكتشاف والانكشاف على الذات والآخر، والنفاذ من المسالك الأكثر منعة وصلابة في لحظات التجلّي والبوح والإفصاح، مقارنة بأترابه ومجايليه من الشعراء، ولذلك كان راشد الخضر وما زال علامة فارقة في سماء الشعر المحلّي، ورقماً صعباً في مدونات الإبداع العابرة للزمن، والمتعانقة مع أرواح شعرية كبيرة في منطقة الخليج والعالم العربي.

امتاز شعر الخضر بحسّ الاغتراب، وهي ميزة ضاعفت من القيمة الإنسانية لخطابه الشعري، وكانت تجربته الحياتية حافلة بالترحال في مناطق وإمارات الدولة المختلفة وفي دول الخليج أيضاً، هذا الترحال القلق الذي حمل في تضاعيفه أسئلة وجودية متوهجة وحارقة في ذات الوقت، وكانت عزلته منطلقاً لتفسير الحياة بتقلباتها وتحولاتها، وقراءة العلائق الاجتماعية والعاطفية بدقة وعمق، وكان صمته المصاحب لتأملاته، معبراً لإثارة الضجيج والجلبة والانتباه حول ما كان ينتجه من فن القصيد سواء على مستوى الشعر الشعبي، أو الفصيح.
إنه راشد بن سالم بن عبدالرحمن السويدي، والخضر لقب لأبيه لقّب به لسمرة خفيفة في لونه اشتهر به شاعرنا، فأصبح لا يعرف إلا بهذا اللقب.
وتذكر الوثائق المرتبطة بسيرته الحياتية، أنه ولد في إمارة عجمان في حوالي عام 1905م، ونشأ بها مترعرعاً على مهادها، تيتم في طفولة مبكرة، فقد أباه وهو لما يزل طفلاً في الثامنة من عمره، ثم توفيت أمه بعد سنوات قليلة، وعمره آنذاك لم يتعد الرابعة عشرة، وكان له أخ شقيق يكبره بسنتين يدعى عبدالرحمن بن سالم، فتكفل بهما ابن عم أبيه الشاعر ناصر بن سلطان بن جبران السويدي، فعاشا في كنفه لكن الحياة لم تمتد بشقيقه، فأدركته المنية وهو ابن ثماني عشرة سنة، الأمر الذي أورثه حزناً مركّباً وغير اعتيادي، وأثر في مجرى حياته، وجعله مرتبطاً بالفقدان المؤسس على وعي فادح وصادم، إنه الجرح الوجودي الدامي الذي ظل يلازمه في حلّه وترحاله، ويغذّي شعره بأنساق عجيبة من التراكيب والألفاظ والعبارات والصور، ما جعلها دائماً موضع انبهار من قبل المتلقين لهذا الشعر، رغم أنه شعر نابع من روافد أليمة، ومن تصورات منتمية لذكريات ووقائع غاية في الصعوبة والهجر والنكران.
تلقى الخضر في صغره علوماً تمهيدية في كتاتيب عجمان، التي يكاد التعليم فيها آنذاك يقتصر على حفظ القرآن وتجويده، وعلى بعض المعارف البسيطة المتعلقة بالقراءة والكتابة، ولم يستمر الأمر معه طويلاً، حيث ترك الدراسة الفطرية تلك، ولازم ابن عم أبيه الشاعر ناصر، الذي كان يمتهن في عجمان صناعة تطريز البشوت «العباءات الرجالية»، فتعلم منه شاعرنا هذه الصنعة، وأخذ يساعده فيها، ثم أصبح يمارسها وحيداً عند إقامته في الشارقة.
رحل راشد الخضر في العام 1980، تاركاً خلفه إرثاً شعراً نوعياً ومتنوعاً من القصائد النبطية والفصيحة، والتي ما زالت محل دراسة وبحث فيما هو متوفر منها، وما زالت محل تنقيب ونبش فيما هو منسي من قصائده المجهولة وغير المدوّنة.

«خدلج»
من الأعمال الحاضرة والمتوهجة في ميراث الخضر الشعري، قصيدته المعروفة «خدلج» التي ذاع صيتها وصاغها الفنان الكويتي عبدالمحسن المهنا في قالب غنائي، شدّ انتباه متذوقي الشعر والغناء في الخليج، نظراً لما احتوته القصيدة من جمل وأوصاف غاية في الإدهاش والتماسك على مستوى المعمار اللغوي والتوصيفي.
يقول الخضر في مطلع قصيد «خدلج»:
خدلج خدّج اللي كالسفرجل ** سفر بدر وسفر شمس وسفرجل
تفضل بنعبر عبرة سهاله ** بميل بالغلس قبل السفرجل
أنا الظميان وانت الماي بارد ** وزندي كلّ من هف المبارد
نحيل القلب من سحل المبارد ** وجسمي مثل شعر الزند وانحلّ
فبعيداً عن الهندسة الشعرية، والهوس الطافح باللغة والألفاظ عند راشد الخضر، وبعيداً عن انحيازها العجيب والمدهش للتركيب «السيمتري» والتشكيلي المفارق، والمعزز بروح عاشقة حدّ التماهي، فإن قصائد الخضر تظل تعمل في هذا الحقل الآسر من الخيال، والاستئناس بطاقة اللغة وجموحها، والاشتغال على الوصف بمعية التضادّ والمجانسة، والافتراق والمعانقة، وفيما يجمع بين غريب القول وبين الوضوح المشاكس، بحيث يجعل المتلقي محاطاً بحالة من الانجذاب السماعي، والانقياد العاطفي لما ينسجه من فضاءات تعبيرية متدفقة، وفائضة بالحكمة والجمال والجلال.

يتيم في العشق
مثلما خبر راشد الخضر «اليتم» في العائلة، خبره في العشق أيضاً، وكان الوصال عنده ملازماً للانفصال، وصار لزاماً عليه في بواكير حياته، أن يربّي هذا الفقد في شعره، وأن يعيد تكراره وسبكه ورعايته، وأن يصطحب معه هذا «الحطام الذهبي» أينما حلّ وارتحل، من عجمان إلى الشارقة، ومن البحرين إلى سلطنة عمان والسعودية، ووصولاً إلى الكويت وسوقطرة والهند، في طواف دائم، وهروب يبدو مستحيلاً من صورة حبيبته «علياء» المشمولة بضباب عشق بعيد، إنه اعتصام بالمتاهة، ولجوء حذر لذاكرة تنبض في عروق اليد، وتتصبّب على القرطاس والطلسم، ورقعة الروح المبتلة بماء السواحل الأولى في «عجمان»، بأنينها الرملي الذي لن يفارق شعرَه أبداً.

الغريق في ماء البُعد
يقول الخضر:
مت غرقه ما بتلّ ينبي
عِلّتي كِلّن إتعايابها
عل اليبس غرّقني إمحبّي
وغرقه فوق اليبس ما أعجبها
في بحرهم مركبي مشبّي
والسواحل ما يجاربها
أبعد من الشمس لو قربي
تقصر إيدي لو بمدّ إبها
ها هو الغريق «اليابس» يشتكي من وهم الغرق، واليابس في اللهجة المحلية هو العود الميت والعطشان - ولاحظ كم هو مخالف هذا الوصف لاسم شاعرنا - فالخضر يغرق في ماء البُعد، لأنه ماء جامد وشرس ومتشابك، وهو البحر الذي جفّ من حرقة الجفاء وشدّة المكابدة، لقد صار المعشوق في هيئة الشمس، التي لن يطالها العاشق في وهم الوصال هذا، وفي يأس الغرقِ الذي ما عاد غرقاً، بل عوْماً أبدياً في التيه!

مكابدات وانفعالات ذاتية
تكررت مرادفات البتر والحرمان والقطع في شعر الخضر، لأنها مرادفات تستقي جدليتها من مكابدات شخصية وانفعالات ذاتية موصولة بحاضر المعاناة، وبماضي الخسارات المتراكمة، ولكنها مكابدات وخسارات، وجدت عزاءها في شعر لافت، وفي بوح مزدان بالتلاوين الفارهة والعبارات المتصلة بالرغبة في الخلاص والانعتاق، تعززها مشاهد زمن مغسول برائحة البحر وبطعم الملوحة المسكرة والفضول الطفولي الشفيف على شواطئ عجمان، ففي تلك الأيام المتلاطمة بصخبها الهادئ، والمترنحة على وقع الشتات الملتّم في بيوتات الساحل الصغيرة، كان الشعر يتوالد ويتدفق في الرأس والأصابع، وفي الهواء الممتزج بعطر الصحراء وبخور الماء القريب، كان الشعر يهبّ من الأمكنة كلها، ويصطدم بجدران الحواري، ويدخل الأبواب المشرعة على الروح دون استئذان، ودونما حاجة لطرق وإلحاح، في تلك الأزمنة الهائجة برعشة القصيدة كان «الخضر» يتفتّح على عبقرية خاصة في البوح الشعري، فغطاء السر انكشف على زخم غير معتاد من التراكيب والألفاظ التي جاوزت العادي والمكرر في القصائد الشائعة، وإعارته قبساً من جذوة الموهبة المشتعلة فيه، والملازمة لحدوسه الفائضة على المعنى.

ومن قصائده:
ونتي تلجم يرح قلبي
حتى آه ما قدرت أونّ إبها
ما استوى قبلي ولا عقبي
عاشج الونّه يغصّ إبها
ونسمات الكوس والغربي
لعبة الشطرنج لاعبها.