رشى الشركات··· قضية في بنجلاديش
على مدى سنوات عدة، تفشى الفساد واستشرى كسرٍّ يعرفه الجميع في هذا البلد الفقير المكتظ بالسكان، ليصبح قوة مدمرة على غرار الأعاصير التي تضرب سواحل البلاد، والمبيدات التي تسمم الآبار وتخرب الزراعة· غير أنه في الأسبوع الماضي شرعت الحكومة البنغالية المنتخَبة حديثاً في معالجة أبرز قضية فساد معروفة في البلاد· فقد وُجهت لعرفات كوكو رحمان، رجل الأعمال المشهور ونجل رئيسة الوزراء السابقة خالدة ضياء، رسمياً تهمة تلقي ما يناهز مليوني دولار من الرُشى، ضمنها 180 ألف دولار من شركة ''سيمنز'' الألمانية للإلكترونيات· وكان من غير الممكن الوصول إلى رحمان وشقيقه طارق في الفترة بين عامي 2001 و2006 حين كانت والدتهما في السلطة، وذلك رغم أنهما كانا ضالعين في صفقات فساد ببنجلاديش حسبما يقال· وتعد التهم الموجهة لعرفات رحمان الأولى التي لها علاقة برُشى تقدمها شركة أجنبية، ويمكن أن تفضي إلى عقوبة بالسجن لسبع سنوات في حال تمت إدانته قانونياً·
وتُبرز هذه القضية عزم وتصميم الحكومة البنجالية على استئصال الفساد على أعلى المستويات، وتعقب مصادره داخل المؤسسات المالية والشركات متعددة الجنسيات· وبذلك، تكون قد سلطت الضوء أيضاً على جانب مظلم من التجارة الدولية، ألا وهو تورط الشركات الأجنبية في تقديم الرُشى للمسؤولين، حيث تساهم بعض من أغنى الشركات في العالم في زعزعة الاستقرار في الدول النامية عبر دفع رُشى للحكومات الفاسدة· وفي هذا السياق يقول افتخار زمان، المدير التنفيذي لفرع ''منظمة الشفافية الدولية'' في بنجلاديش، وهي منظمة دولية مناوئة للفساد ويوجد مقرها في برلين، إن ''كون الشركات الأجنبية تلجأ إلى استعمال الرشوة من أجل الحصول على عقود، هو أمر يعلمه القاصي والداني''، مضيفاً القول: ''إنه تعبير عن فشل الشركات في احترام القواعد والتنظيمات، لكنه كذلك انعكاس لفشل الحكومة في منع الفساد وملاحقته''·
وتُظهر قضية ''سيمنز'' نمطاً شائعاً من الفساد في بنجلاديش؛ فبين عامي 2004 و،2006 وبينما ازداد استعمال الهاتف النقال بشكل لافت في بنجلاديش، كانت ''سيمنز'' تسعى للحصول على عقد يمنحها رخصة للاتصالات بقيمة 40 مليون دولار مع الحكومة البنجالية، حسب ما جاء في قضية رفعها محققون أميركيون ضد ''سيمنز''· ومن أجل التغلب على منافسيها، استعانت ''سيمنز'' بخدمات استشاري بنجالي على علاقة بابن رئيسة الوزراء، إضافة إلى وزير الاتصالات وأربعة مسؤولين آخرين على الأقل· وتم الاتفاق على دفع 180 ألف دولار، وحُول المبلغ إلى حساب عرفات رحمان بأحد بنوك سنغافورة، حسب إفادات ''سيمنز'' إضافة إلى ما ورد في القضية التي رفعتها لجنة محاربة الفساد البنجالية المكلفة بالتحقيق وإعداد لائحة الاتهام· ويقول حسن مشهود شودري، رئيس لجنة محاربة الفساد، إنه ''خلال فترة من الوقت··· وبينما كنا نحقق في بعض القضايا، وجدنا أن سيمنز··· كانت تدفع مالا لبعض الأشخاص هنا، وكان يوضع ذلك المال في حساب بنكي في سنغافورة، وبالتالي فقد كنا بحاجة إلى تعاون الحكومة السنغافورية''·
والحقيقة أن هذه المشكلة لا تقتصر على بنجلاديش وحدها؛ ذلك أن فساد الشركات الأجنبية يُعد تجارة عالمية مزدهرة، حسب دراسات للبنك الدولي، فإن الشركات الأجنبية تدفع للمسؤولين الحكوميين سنوياً ما قيمته تريليون دولار من الرُشى· فقبل حوالي أسبوعين، وفي الوقت الذي كانت توجَّه فيه التهم لعرفات رحمان، أعلنت شركة ''رويال داتش شيل'' أنها تخضع للتحقيق من قبل السلطات الأميركية على خلفية ادعاءات بأنها قدمت رُشى لمسؤولين في نيجيريا· بيد أن ضحايا عمليات الفساد هذه لا تقتصر على الشركات التي لا تفوز بالعقود؛ فهناك اليوم وعي متزايد بأنه يمكن أن يكون للرشوة تأثير مباشر على استقرار البلدان النامية· ولعل قضية بنجلاديش و''سيمنز'' تُظهر كيف يمكن أن يحدث ذلك: ففي وثائق المحكمة، اعترفت ''سيمنز'' بدفع رُشى ليس لعرفات رحمان فقط، وإنما أيضاً لوزير الاتصالات البنغالي السابق أمين الحق الذي عمل في هذا المنصب بين عامي 2001 و،2006 وقد حكم عليه في عام 2007 بالسجن 31 سنة بتهمة دعم ''جماعة المجاهدين'' البنجالية المتطرفة·
وحسب قضايا رفعتها الحكومة ضد أمين الحق، رأت المحكمة أن المسؤول البنجالي السابق استغل ''جماعة المجاهدين'' كوسيلة سياسية لإقصاء أعضاء من الجماعات السياسية المعارضة اعتباراً من عام ·2004 غير أنه في العام التالي خطت ''الجماعة'' لنفسها خطاً مستقلا وشنت حملة عنف حصدت أرواح العشرات· واليوم، يُعد أمين الحق هارباً من العدالة؛ أما ''الجماعة'' التي دعمها، فمازالت تعمل سراً ويشتبه في أن لها يداً في التمرد الدموي الذي هز بنجلاديش الشهر الماضي· وإذا كان لا يتوفر إلى الآن دليل مباشر يُثبت أن مال ''سيمنز'' قد ذهب إلى ''جماعة المجاهدين''، فإن عدداً من المراقبين في بنجلاديش يرون أن مجرد إمكانية وجود صلة من هذا النوع يؤكد أخطار رُشى الشركات الأجنبية·
وتقول سلطانة كمال، مديرة ''عين أوساليش كندرا''، وهي منظمة رائدة لحقوق الإنسان في دكا، إن ''الكثير من الشركات متعددة الجنسيات لا تكترث إلى أي جهة يذهب مالها ولا تحاول معرفة التأثير الذي يمكن أن يحدثه على حياة الناس العاديين''· غير أنه وسط الوعي العام المتزايد وغضب الجمهور، تصرفت الحكومة البنجالية خلال العامين الأخيرين بقوة وحزم؛ حيث أطلقت لجنة محاربة الفساد مئات التحقيقات مع بعض من أبرز الوزراء ورجال الأعمال في البلاد، ومنهم نجلا خالدة ضياء· ويقول محفوظ أنام، رئيس تحرير صحيفة ''ديلي ستار'' النافذة الناطقة بالإنجليزية، إن ''توجيه التهم لابنيْ خالدة ضياء ووزراء أقوياء، كان في الواقع أول عملية تطهير كبرى تبدأ''، لكنه يضيف أن العملية ''مازالت بعيدة من نهايتها، لأنها بدأت للتو''·
ديفيد مونتيرو -دكا
ينشر بترتيب خاص مع خدمة كريستيان ساينس مونيتور