الفنان العراقي محمد غني حكمت الذي كان مولده في قلب بغداد عام 1929 تخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1953 ثم عين في أكاديمية الفنون العراقية كأول مدرس للنحت عام ·1962 سافر إلى موطن النحت إيطاليا عام 1955 ونهل ينابيع الفن فيها حتى عام 1961 فتخرج من مدارسها بشهادات في النحت والميداليات والسيراميك وحب البرونز· عايش رواد الفن في العراق وعمل مع جواد سليم على تنفيذ نصب الحرية وهو من جماعة بغداد للفن الحديث·· نحت على الحجر والطرق، على النحاس وعلى الخشب، واحب البرونز·· حاضر في تونس ودمشق والأردن وموسكو وتورنتو وواشنطن ولوس انجلوس وسان فرانسيسكو وإيطاليا وبلجيكا عن الفن العراقي· مؤخرا زار أبوظبي وشارك في معرض ''لغة الصحراء'' الذي اقيم بالمجمع الثقافي، حيث كان ل ''الاتحاد'' معه الحوار التالي: دجلة ؟ كيف انجذبت منذ طفولتك إلى عالم النحت والتشكيل؟ ؟؟ النحت وحب النحت، هبة من الله وهبني إياها، ولم يعطني إياها أحد ولا يحق لأحد سلبها مني أو الاعتراض عليها·· منذ الطفولة وطفولتي لا تختلف كثيراً عن طفولة أغلب نحاتي العالم ولكنها قد تختلف قليلاً بتفاصيلها· كان بيتنا قريباً من ضفاف نهر دجلة، وبعد الفيضان السنوي يتجمع الغرين (الطين النقي) على ضفافه، كنت أجمعه وأصنع منه أشكالاً ومجسمات لحيوانات، يتعجب بها الأهل والآخرون لصغر سني آنذاك· واستمرت طفولتي حتى كبرت وصار عمري 78 عاماً وما زلت أنحت أشكالاً وتماثيل من الحجر والمرمر والخشب ومن البرونز· ولي الأمل في الاستمرار في عمل النصب والتماثيل الكبيرة، لأني أمتلك الكثير من الأفكار لمواضيع تتحدث عن الإنسان وعن مآسيه وآماله· ينحت الحرية ؟ قلت إنك لست قديساً لكنك تنحت الحرية·· أين تجد هذه الحرية في أعمالك بشكل واضح؟ هل تعرضت حين مارست النحت لمشروع ما إلى حالة من القهر الفكري، أي هل فرضت عليك مفاهيم كي تضعها في أعمالك النحتية؟ ؟؟ القداسة في تعبيري هذا هي إني عشت زمناً صعباً، حاولت أن أقف على قدمي، وأن أسير بين المطبّات المستمرة في حياتي اليومية، وأذكّر نفسي، أن لا أسقط في الوحل، وأن أسير (مترنحاً) خيراً من أن أخطئ·· كان القرار صعباً، لهذا عبّرت عن حالي: بأني لست قديساً· وكان قراري باتخاذ طريق العمل الحر منطوياً في مشغلي، والابتعاد عن تفاصيل الحياة اليومية، وقضاء أغلب ساعات النهار والليل في القراءة والعمل على نحوت تمثل عمّا أشعر وأحس به وما أفكر وما أصبو وأتمناه، من مواضيع عن الإنسان المحطّم الذي يعيش حولي· عن عالم مشوّش ومضطرب ولكنه أيضاً مملوء بالآمال العريضة للتغيير· ثم اتخذت من المواضيع الأسطورية من تاريخنا مرتكزا لأعمالي، حيث امتلكت حريتي وظهرت في أعمالي الكبيرة منها والصغيرة تعبّر عن رؤية شخصية لا تأثير للآخرين عليها، ورفضت الباقي· وحين ابتعدت عن المشاركة والمساهمة في المسابقات والمشروعات الرسمية الخاصة بالنحت، لم أتعرض إلى حالة موجبة من القهر الفكري وفرض مفاهيم الآخرين على أعمالي النحتية· ؟ قيل عنك أنك لست صاحب أزميل نحتي، بل أنت عقل مفكر·· لكن هل خلقت في رؤاك تلك مدرستك الخاصة؟ وكيف تنظر إلى رؤيتك بعد كل انجازاتك المذهلة في النحت لتجربة أبناء جيلك؟ ؟؟ سبق لي أن قلتُ إني أنحت الأفكار·· وقلت: إني لست عبثياً، نعم اعتقدت ذلك بكل صدق· لأني أحس بمسؤوليتي التاريخية، بموقف واضح وصريح أمام الأحداث، لا كمسجل يومي لها، ولكن البحث عن الظروف التي تهيأت لها· ثم إن قراءتي المستمرة في كتب التاريخ وكتب الاجتماع والخاصة منها في منطقتنا العربية والعراقية تجعلني ألا أساوم على موقف خاطئ بل أطرح أفكاري التي أؤمن بها لتعبر عن مواضيع هادفة تتبنى مشكلة الانسان الذي نعيشه، ثم أردت أن أكون نموذجاً يحتذى به في إخلاصي في عملي، وأن أحافظ على هويتي بالاعتزاز بتاريخي· نصب الحرية ؟ عمل جواد سليم ''نصب الحرية''، أفكار مفتوحة على موضوع غير محدد·· أعمالك أفكار متطابقة مع الموضوعة المحددة·· المتنبي هو المتنبي شهرزاد وشهريار هما كذلك·· إلا قوس النصر·· إنه فكر مفتوح على موضوع غير محدد·· ما قصد هذا النحت·· وكيف تفسره؟ ؟؟ أتعجب واستغرب من هذا السؤال·· فأنا لست من عمل وصمم نصب قوس النصر، إنه الفنان المرحوم خالد الرحّال، من قام بعمل مصغّر من الجبس الملون بطول حوالى 150 سم وارتفاع 50 سم تمثل ذراعين (ذراع صدام حسين) متقابلين، يشقان الأرض للأعلى، وكل منهما تحمل سيفاً عربياً ليكوّنا قوساً (للنصر)· كان القرار أن ينفّذ هذا المصغر (النموذج) إلى الحجم الكبير ليوضع في ساحة الاحتفالات في بغداد· وحدث أن مرض الفنان خالد الرحال وأدخل المستشفى·· ثم وافاه الأجل· فكلفني وزير الاسكان السابق بكتاب رسمي أن أقوم بتنفيذ قوس النصر بالحجم الكبير المطلوب، فاعتذرت كيف لي أن أنحت عملاً ليس لي علاقة به·· ولكن·· لايمكنني الرفض· فاضطررت أن أباشر بتكبيره، والاشراف على صبّه بمادة البرونز في أحد مصاهر إنجلترا، ثم الاشراف على نصبه في موقعه المقرر في بغداد· تمثال المتنبي ؟ قيل أن تمثال المتنبي كان يعبر عنك بل قيل إن وجه المتنبي قد وضعت ملامحك فيه·· كيف نظر الفنانون العراقيون لبنية التمثال وما الاشكالية التي فهمت خطأ؟ ؟؟ دعاني طارق عزيز وزير الثقافة والإعلام السابق لتكليفي بعمل تمثال للمتنبي فاعتذرت، ولكنه أرسل لي الشاعر شفيق الكمالي وبإصرارليقنعني ، فاختفيت في مشغلي لفترة طويلة وأنا أدرس حياة المتنبي، وكانت أياماً وليالي عصيبة، كيف أنجز تمثالاً لعظيم مثل المتنبي؟! وبدأت أخطط على الورق شكله، حركاته، وجهه، ملابسه، وأعمل له تماثيل مصغرة من خيالي، فلم أقتنع وبقيت أحاول حتى جاءني شعره ليلهمني بموقف: أنا الذي نظر الأعمى·· فعملت تمثالاً صغيراً لا يزيد طوله عن 20 سم من الطين وهو واقف بشموخ وكبرياء كمن يصرخ: أنا·· أنا·· فتمت قناعتي وسألت من يزورني من يكون هذا الشاعر؟ فزادت قناعتي إذ لم يخطىء أحداً بالجواب·· إنه المتنبي· ولو نظرنا إلى تمثال وجه الملك سرجون الأكادي، وإلى وجوه شخصيات عربية وعراقية لوجدنا تشابهاً يجمعهم في الملامح (وقد رأى البعض أن يشرك ملامح وجهي معهم) فأنا لم أقصد وضع ملامح وجهي في تمثال المتنبي· وعملت القاعدة التي يقف عليها على شكل قمة جبل، وجعلت ارتفاعها مساوياً لطول التمثال، ولكن الذي حدث - في غيابي عن بغداد- تم نصب قاعدة التمثال من الحجر بشكل مستعجل وارتجالي ودون الرجوع إلى القاعدة في النموذج ومقاساتها· فظهر تمثال المتنبي بارتفاع 5 أمتار ونصف المتر واقفاً على قاعدة بارتفاع مترين ونصف المتر، فتشوهت مقاسات النظر إليه· أنا لا أدافع عمّا يقال، ولكن كان على الآخرين أن يفهموا ويعلموا ما كنت أريده أن يكون·· واعترضت بالصحافة ولكن هل من مجيب؟ ؟ ماذا يشكل لك اختفاء تمثال المتنبي من أمام المكتبة الوطنية في بغداد·· بعد أن قيل إنه صهر وتحول إلى معدن لا شكل له بعد الاحتلال 2003؟ ؟؟ الشعوب تختلف بثقافتها·· والحروب تنتج الأخطاء·· فليس جديداً عليّ اختفاء تمثال المتنبي- كما قيل- وليس مستبعداً أن تظهر بوادر تحطيم التماثيل لبيعها وسرقة المكتبات والمتاحف والأعمال الفنية لتهريبها إلى الأقطار المجاورة للعراق التي تهتم بالمواد المعدنية لصناعاتها اليومية، كما تهتم بملء متاحفها ومكتباتها بالمسروقات الرخيصة الثمن ذات القيمة الغالية· فمن الطبيعي أن يشكل هذا إلى تشجيع (الحرامية) إلى التهريب دون رادع ودون خوف، من أية جهة ومادامت قوات الاحتلال لا تتدخل بالموضوع، إن الهدف هو محاولة تحطيم حضارة العراق· من سيرته نفذ أعمالاً في أوروبا (3 أبواب لمدخل كنيسة قرب روما· وباب السلام مدخل بناية اليونيسكو- باريس وتمثال من الخشب في متحف الفن الحديث بالرموز -صقلية) له في ساحات بغداد· نصب عديدة منها (المتنبي، شهرزاد وشهريار، مرجانة، عشتار، المنصور، حمورابي) اشترك في 50 معرضاً·· كتب عنه جبرا ابراهيم جبرا كتابه المعنون (محمد غني) بقوله (إن عالم محمد غني حكمت جزء من زماننا·· يثري وعينا ويمدنا بالمزيد من حس المتعة - والقلق)·