ابن طفيل يخاطب المجتمع عبر السرد القصصي
ابن طفيل هو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل الأندلسي القرطبي الفيلسوف الموسوعي، اشتهر في القـرون الوسـطى باسـم أبوبكر Abubacer، ولد نحو سنة 500 هجرية الموافق 1106 ميلادية في ''مدينة وادي آشي'' التي تبعد عن قرطبة بنحو 55 كم، وتوفي بالمغرب سنة 581 هجرية الموافق 1185 ميلادية·
كان صديقا ووزيرا لابن رشد، ولم يكن من الممكن أن يعرفه الأوروبيون لولا ترجمة ابن رشد لكتاب النَّفس لأرسطو، حيث إن ابن رشد كان قد ذكر وقدم ابن طفيل في هذا الكتاب· وكان ابن طفيل أعظم فيلسوف بين ابن باجة من جهة الذين سبقوه، وبين ابن رشد من جهة الذين جاءوا بعده في الشمال الإفريقي وبلاد الأندلس حيث ازدهرت قرطبة واشبيلية وغرناطة ومراكش وفاس وعواصم الثقافة لا أرقى منها في نظر عرب الأندلس والشمال الأفريقي، في العلوم والفنون والآداب وفي شتى أنواع المعرفة إلا بغداد والبصرة والكوفة والتي كانت محاريب ثقافة وفكر في المشرق العربي·
جاء ابن طفيل في القرن الثاني عشر ليسجل خلاصة قصة تطور الفلسفة كلها من الألف إلى الياء تلك القصة التي داخلت دوائر الثقافة المعرفية وخارجيتها، في ذلك الحوار الفكري المعرفي بين الدين والفلسفة في الثقافة العربية، وذلك في قصته الأدبية التاريخية الرمزية التي تمثل قمة الأدب الفلسفي ألا وهي قصة (حي بن يقظان) تلك القصة التي عرف بها ابن طفيل واشتهر بها أيما اشتهار· وقد اتصف أسلوب ابن طفيل بالرقة والسلاسة ودقة الملاحظة وحسن التعبير، اتخذ كغيره من الفلاسفة، الرمز والإشارة أسلوبين لتجسيد ما يتفاعل في أعماقه من أفكار، لذلك فقد اثبت ابن طفيل قدرته على الموازنة بين تلك الأفكار التي تتجسد في أعماقه الإنسانية وبين الألفاظ المرادفة لتلك الأفكار·
اثبت ابن طفيل كذلك قدرته على الموازنة بين الأفكار والمفاضلة بينها، وكذلك أن يخرج نظامه الفلسفي بالتصاعد يتدرج فيه خطوة خطوة، لينتقل بذلك من السهل إلى الصعب ومن ثم نحو الأصعب منه، ومن القليل إلى الكثير، ومن البسيط إلى المعقد·
ومما لاشك فيه كذلك، أن ابن طفيل كان عارفا بالعلوم الطبيعية والمعارف الحياتية، حيث إنه اطلع على الكثير مما تركه فلاسفة اليونان والإسلام من الآثار الفلسفية والعلمية، اطلع عليها بفكر عميق، وبتحليل واسع، وبنقد ثاقب، سبر من خلالها أعماق الفكر الفلسفي والإنساني في تلك المرحلة التي عاشها ابن طفيل·
لم يكن ابن طفيل الفيلسوف الإسلامي الوحيد الذي عالج أفكاره العقلانية مستخدما القصص الرمزية الخيالية الأسطورية لتجسيد تفاعلاته الوجدانية، بل سبقه في ذلك الكثير من الفلاسفة والمفكرين من أمثال ابن سينا والفارابي وإخوان الصفا وأبو حيان التوحيدي وابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة وغيرهم من المفكرين والأدباء والفلاسفة·
ومما لاشك فيه أن ابن طفيل قد سلك في قصته حي بن يقظان المسلك نفسه الذي سبقه فيه هؤلاء الفلاسفة والمفكرون والأدباء، لكن ابن طفيل كانت له الأسبقية في طرحه للأفكار ومعالجته للمشكلات، وكذلك القيمة الحقيقية لقصة حي ابن يقظان تبدو واضحة جلية في صورتها الرمزية وإيحاءاتها البلاغية والتي صاغها ابن طفيل للتعبير عما يتفاعل في أفكاره من آراء وابتكارات علمية أدبية رفيعة يجسدها بطل القصة حي بن يقظان بتنسيق عجيب، وتأملات عقلية فاعلة وفي تسلسل أحداث القصة بكاملها والتشويق والإثارة في تسلسل أحداث القصة· وخلاصة القصة تجري على النحو الآتي:
في جزيرة مهجورة من جزر الهند والتي تقع تحت خط الاستواء، وفي ظروف طبيعية ملائمة، يولد طفل من طينة تخمرت على مر السنين عن طريق التولُّد الذاتي أو التلقائي، وفي قول آخر إن البحر حملهُ إلى هذه الجزيرة في تابوت، أحكمت أمه قفله بعد أن أرضعته، حيث كانت أمه أميرة مضطهدة في جزيرة مجاورة، فاستودعت ابنها أمواج البحر حتى تنجيه من الموت أو من ذلك الاضطهاد الذي كانت تعيشه، وذلك الطفل هو حي بن يقظان· وهي إشارة قرآنية بليغة إلى قصة النبي موسى ومصيره المبكر عليه السلام·
وبعد ذلك تبنت ذلك الطفل غزالة (ظبية)، فأرضعته وحنت عليه كأمه، وأرضعته لبنا سائغا حتى نشأ وترعرع، وكذلك فان حي بادل تلك الظبية التي أرضعته وحنت عليه بذات الشعور والأحاسيس، ولأنها أرضعته لبنها عطف عليها كما يعطف الولد على أمه· ومازال مع تلك الظبية يحاكي نغمتها بصوت، ويحكي جميع ما يسمعه من أصوات الطيور، وأنواع سائر الحيوانات، يحاكيها وتحاكيه ، ولما قلدها في هذه الأصوات المختلفة باختلاف هذه الأنواع ازداد ألفه وشغفه لها و كذلك ازداد ألفها وحبها له، ليشير بذلك إلى أن الإنسان يبدأ بأصواته وحركاته بالتقليد لما حوله· فالإنسان يقلد حركات أمه وأبيه و أصواتهما، لذلك يتكلم الطفل العربي بالعربية ويتكلم الإنجليزي بالإنجليزية والفرنسي بالفرنسية ·· وهكذا·
ولما نظر حي إلى الحيوانات فوجدها مكسوة بالأوبار والأشعار والريش إلا هو فبدأ بتسخير عقله فاتخذ من أوراق الشجر العريضة ما يكسو بدنه· ولما رأى الحيوانات مسلحة بالأنياب والقرون والمخالب إلا هو اتخذ من غصون الأشجار عصيا تقوم مقام الأسلحة عند الحيوانات فاكتشف أن له يدين خيرا من أيديها مكنته من ستر عورته وحمل سلاحه· ولكن رعاية الظبية هنا يقتصر على الرعاية والعناية الأولى فقط حيث تموت وحي لم يصل بعد إلى مرحلة البلوغ، فسكنت حركاتها وتعطلت جميع أفعالها، فاستغرب حي بن يقظان وناداها بصوته الذي اعتاد أن يناديها به، فلم تجبه ففكر مليا فاهتدى إلى الموت، وهنا تكون السلطة لحي بن يقظان على الظبية حيث يفحص أعضاءها عضوا عضوا، فلما فرغ من جميع أعضائها الظاهرة ولم ير فيها آفة، فكر في أن تكون الآفة في عضو باطني، فأخذ يفتح صدرها بعد موتها ويكتشف قلبها فاستفاد من ذلك معرفة علم التشريح، واستنتج من وجود الفراغ في تجويفاته الداخلية، مبدأ الحياة غير المرئي، أي الروح البشرية التي لابد أنها ارتحلت و بارتحالها ارتحلت الحياة عن الظبية وماتت معها، وبذلك أدرك سر الموت الذي هو مصير جميع الكائنات··
وهكذا، بدأ حي بتقليد الحيوانات بكسائه ومطاردته للحيوانات الأخرى حتى أنه كان يقلدها بدفن أمه (الظبية حيث انه كان قد شاهد كيف تدفن الغربان قتيلها، وهذه إشارة قرآنية أخرى في قصة حي بن يقظان، عندما تعلم قابيل من الغراب كيف يواري سوءة أخيه المتوفى هابيل· ونما (حي) فأخذ يلاحظ ويتأمَّل وكان الله قد وهبه ذكاء وقادا فعرف كيف يقوم بتدبير نفسه، فاهتدى إلى النار وصنع الآلات والأدوات، وعندما بلغ حي بن يقظان سن الثامنة والعشرين أخذ يبدأ بالتفكر والتأمُّل في سر هذا الكون العجيب، لينتهي بذلك التأمُّل إلى وجود خالق مبدع، وأن هذا الموجود الرفيع هو المعطي لكل ذي وجود وجوده، وأنه (كل شيء هالك إلا وجهه)، حتى استطاع إن يصل بالملاحظة والتفكير إلى أن يدرك بنفسه ارفع حقائق الطبيعة وما وراءها محاولا بذلك فصل عقله عن العالم الخارجى، وفصل العقل عن الجسد بواسطة الاتصال المطلق بالله، وقد وصل إلى ذلك بطريق الفلاسفة عن طريق النظر العقلي الحر، وقد أدت به هذه الطريقة إلى محاولة الوصول إلى معرفة الخالق والتدبر في ملكوته· وهكذا فإن ابن طفيل يجعل الغرض من الشطر الأول من حياة حي هو الاهتداء إلى معرفة الله، وإدراك سر هذا الوجود الخالق، ويدرك أيضا أن الإنسان يبلغ السعادة عن طريق تأمله في هذا الوجود وخالقه·
المصدر: صنعاء