لأنني نشأت وحيداً يتيماً بعد أن فقدت أبي في سن مبكرة، فقد كرست أمي كل حياتها وجهدها من أجلي واستثمرت كل ما بين يديها في تربيتي وتعليمي واستطاعت أن تدبر شؤوننا أنا وهي بما بين يديها من أموال معقولة ومن معاش أبي الذي كان موظفاً بالحكومة. لم يكن لها اهتمام في الحياة إلا أموري وما يخصني حيث تتابعني في كل وقت وفي أي مكان وتعرف كل حركاتي وسكناتي ليس من قبيل الخوف وحده وإنما أيضاً من أجل الدعم والتحفيز والتشجيع فهي تعرف أنني لا أفعل إلا ما يرضيها وما يقبله المجتمع وبدوري لا اهتمام لي إلا النجاح وتحقيق أمنية أمي وأضرب في بطون الكتب واستذكر دروسي ولا أدع مجالاً للترفيه إلا القليل المباح مما يروح عن النفس وحتى لا يصيبني الملل. ظروفنا المالية جيدة ونعيش في نعمة وستر وقد كانت أمي تفكر دائماً في مستقبلي ومن دون أن تنطق كنت أشعر بلسان حالها يقول إن الآباء يفكرون لأبنائهم ويهتمون بشؤونهم ومستقبلهم ولأنني يتيم فلن يكون لي أب يتولى تلك المهام لذلك كانت تدخر كل ما يقع بين يديها حتى استطاعت أن تشتري لي شقة قبل أن انتهي من دراستي الجامعية وتحول حديثها عن الأمنية الجديدة التي كانت تصفها بأنها آخر أمنياتها وهي أن تراني في بيت الزوجية قبل أن تموت خاصة وأنني أملك الأساسيات ولا مانع من ذلك وبمجرد أن التحقت بوظيفتي زاد إلحاحها وإصرارها خاصة وهي تعلم أنني لا أبحث عن عروس لأنني مرتبط عاطفياً بإحدى قريباتي وبيننا تفاهم كبير. بمجرد الإعلان عن الخطبة رسمياً وجدت أنني كنت واهماً فلم يكن هذا التفاهم إلا سراباً أو نسجاً من خيالي فقد اكتشفت أنني أمام فتاة مجهولة تماماً بالنسبة لي لا أعرف عنها إلا ما كنت أحلم به وهو بعيد عن الواقع ولا علاقة له به، كان ذلك صدمة قوية لمشاعري وحسن ظني وجدتني أمام فتاة كاذبة غامضة تفتقد حياء الأنثى تعيش بعيداً عن واقع أسرتها فرغم قرابتنا البعيدة ومعرفتي بها فإنها تحاول أن توهمني بأنها من أسرة أرستقراطية وتتحدث بطريقة فتيات الغرب عن المستقبل والحياة الزوجية القادمة وتخلط كلامها العادي بكلمات وعبارات أجنبية وتريد الحرية وتحاول أن تسلبني حقوقي في معرفة تحركاتها وان كنت متأكداً من أخلاقها إلا أنني رفضت هذا كله جملة وتفصيلاً ومن هنا بدأ الخلاف بيننا ولأنني فعلاً أحبها حاولت أن أتغاضى عن بعض التصرفات لكنني لم أكن قادراً على تقبلها كلها. لم تكن كل تصرفاتها سيئة وكانت تبادلني مشاعري وأحياناً أجد فيها استعداداً للتضحية من أجلي إلا أنني اعتبرت ذلك تناقضاً في شخصيتها لا أستطيع أن أتجاوزه وقرأت بإحساسي مستقبلنا المبني على جناح يمامة وأنه سيكون بلا استقرار ومع صعوبة الموقف على نفسي وقلبي كان لابد أن أضع النقاط فوق الحروف من غير مواربة وبتحديد واضح صارحتها بما أحب وأكره وبما أريد وبما أرفض ولم أساوم على شيء من ذلك، فكان جوابها أنها أيضاً لن تقبل إلا ما تريد، وكان هذا هو الحد الفاصل بيننا الذي تأكدت معه أن حياتنا معاً محكوم عليها بالفشل الذريع ولا بد من اتخاذ قرار عاجل بفسخ الخطبة رغم محاولات تدخل الأهل للإصلاح ومحاولة تقريب وجهات النظر وكان لي ما أردت. شعرت في البداية أنني تخلصت من حمل ثقيل إلا أنني اكتشفت أنني أسير لحبها وغير قادر على التخلص منه وتطاردني في يقظتي وأحلامي ولم تجد محاولاتي بيني وبين نفسي عندما أستعيد سلبياتها في التخفيف من حالتي وما زاد الأمر صعوبة أنني لا أستطيع أن أشكو لأحد حتى لأمي ولا أبوح بمعاناتي وقد اتخذت قراري وأنا بكامل قواي العقلية وبإرادتي من غير أي مؤثرات وحاولت أن أغمس نفسي في العمل محاولاً التناسي والهروب فلا سبيل لي إلا ذلك. الصدمة الثانية كانت أقوى بل أشد الصدمات في حياتي على الإطلاق عندما فقدت أمي سندي الوحيد في هذه الدنيا، حيث رحلت عني بعد فترة مرض قصيرة وأصبحت لا أرى من حولي شيئاً مع ما تكتظ به الحياة من بشر ومخلوقات لا حصر لها وكل ذلك لا أثر له وشعرت بالفراغ القاتل ولا أرى ملجأ ولا مرسى وفقدت الاتزان والقدرة على التفكير ولم أجد غير اللجوء إلى العمل الذي جاد عليّ بإحدى الزميلات التي اقتربت مني تواسيني وتخفف عني وتنصحني بالصبر والصلاة من أجل تجاوز تلك الأزمات. كنت في أشد الحاجة إلى من يسمعني وأريد أن أتكلم حتى لا أنفجر وبكل تلقائية أخبرتها بتفاصيل حياتي وبمشاعري نحو خطيبتي السابقة وعلاقتي السامية بأمي وارتباطي بها وكنت كتاباً مفتوحاً أمامها وفي النهاية عندما خلوت كنت ألوم نفسي على هذا الانفتاح وتلك الصراحة وكيف اندفعت بهذه الطريقة ولم أبق على سر واحد ولم أحتفظ بمعلومة وربما كان المبرر شعوري بالارتياح وأنا أفضفض وأخرج أحزاني مع الكلمات ولقد نجحت في مهمتها أو مسعاها وأخرجتني من كثير من أحزاني وبدأت استرد توازني وأعود إلى طبيعتي لكن افتقدها إذا غابت وأدمنت الحديث إليها والكلام معها وأجد في لقائها الدواء المسكن لآلامي واعتدت وجودها بجانبي وأصبحت أحب العمل أكثر من أجلها. لا أعرف إن كانت تستدرجني إليها أم أنها تحبني أو تعطف وتشفق عليَّ بسبب ظروفي التي عرفت كل تفاصيلها خاصة وأنها بإحساس الأنثى تأكدت من ميلي نحوها وتلجأ أحياناً إلى أن تضعني في اختبار بسيط كأن تحصل على إجازة لمدة أسبوع أو تتعمد الانشغال في العمل فلا تزورني أو تبتعد لعدة أيام بحجة كثرة مهامها وأنا لا أتعامل معها بمكر وإنما بتلقائية على الأقل إنها صاحبة فضل في الوقوف بجانبي في أزمتي وعندما توفى أبوها كان لزاماً عليَّ أن أرد الدين وأن أقف بجانبها كما ينبغي أن يكون، وكانت تلك الظروف سبباً للمزيد من التقارب بيننا لأننا في الهموم سواء. أعترف بأنني لست خبيراً بالنساء ولا بمكنون أنفسهن ولا أعرف شيئاً عن مكرهن لأنني لست من الذين يتعاملون بخبث أو دهاء وإنما على سجيتي وبطبيعتي فلا أذهب بعيداً عند أي موقف ولا أميل إلى التوقعات والاحتمالات طالما لم تحدث وأكتفي بالظاهر أمامي حتى أنني عندما قررت أن أرتبط بها اكتفيت بما رأيته منها وعرفته عنها ولم أفكر فيما حدث لي في تجربتي الأولى الفاشلة وقنعت واكتفيت بما فيها من مميزات على الأقل أنها خالية من تلك العيوب التي كانت عند الفتاة السابقة، خاصة وأن حماتي امرأة من عصر النقاء على عكس المعروف والمشهور عن جميع الحموات سواء في الواقع أو الدراما وبلا مبالغة وجدت عندها كثيراً من العوض عن فقد أمي وعندما تقدمت لابنتها لم يكن لها أي شروط، بل تطالبني بأن أخفف عن نفسي وتهتم بي مثل أبنائها تماماً وسعدت بهذه الأسرة التي استطاعت أن ترفعني فوق الأحزان والآلام والوحدة. وبالعشرة وحدها تظهر المميزات أو العيوب فالمميزات عرفتها من قبل وبقيت العيوب التي لا يخلو منها إنسان، لكن منها ما يحتمل ومنها ما لا يطاق وان كانت في ظاهرها تبدو صغيرة وتافهة إلا أنها تنغص علينا وتعكر صفو حياتنا وعلى سبيل المثال - وهكذا كل الموظفين - أريد أن أستريح يوم إجازتي الأسبوعية إلا أنها تستيقظ مبكراً من أجل غسل الملابس وتضطرني للاستيقاظ من أجل أن أبدل ملابسي لتقوم بغسلها فلا تنتظر حتى أستيقظ ولا تتركني أنام وتؤجل غسل ما أرتديه وقد لفت نظرها مراراً وتكراراً إلى هذه الملاحظة لكنها تصر على موقفها. أما الأدهى والأمر فهو أنها إذا أرادت أن توقظني لأي سبب حتى لو كان من أجل التوجه إلى العمل فإنها تكون مثل جرس الإسعاف أو النجدة والإطفاء معاً متعجلة وبصوت جهوري مفزع كأن كارثة وقعت ولا يمكنني أن أتجاوز ذلك لأنه يكون مباغتاً وأنا في غمرة النوم العميق فأقوم كل مرة فزعاً يرتجف قلبي من المفاجأة ويكاد يتوقف وأنا أسألها عما يحدث وأحاول أن أكتم غيظي محاولاً تجاوز الموقف وبعدها أنصحها ولا تتعلم الدرس. وزوجتي لا تهتم بمظهرها إلا إذا كانت في طريقها إلى العمل أو توجهت لزيارة أحد من أقاربها أو أمها أما في البيت فهي الإهمال نفسه ولا مانع من أن تنام بملابس المطبخ وبعد أن تترك الأواني والأدوات بلا تنظيف وربما لعدة أيام وهي ليست من هواة الطبخ ولا تجيد إلا القليل من الأكلات البسيطة ونعتمد في غذائنا على المعلبات والوجبات الجافة مثل العزاب والمقيمين في خيام الكشافة وهذا كله على عكس ما كانت تفعله أمي معي وتزداد معاناتي عندما أعقد مقارنة بينهما وأشعر بالفارق الكبير والهوة الواسعة والخسارة التي أتكبدها وحتى أيام الوحدة كانت أخف وطأة من ذلك. الاهتمام القديم الذي أبدته زوجتي في الماضي اختفى وذهب مع الريح ولم يعد له أثر وهذا ما جعلني أظن أنها كانت فقط تريد أن توقع بي في شباكها لمجرد أن أتزوجها وأنها تجملت أمام عيني بتلك الصفات فلا أرى منها أي نقاش أو حوار حول أي موضوع مهما كان وتكتفي بمشاهدة التلفاز وتخلد إلى النوم بلا سابق إنذار أما الجديد المزعج فإنها الآن تستعيد ما ذكرته لها عن تجربتي السابقة وتعيرني به باعتباره نقطة ضعف أو عيباً أو نقيصة وهي تلوي عنق الحقائق. عام واحد مضى على تلك الحال وزيجتنا مهددة بالفشل لأن زوجتي تسد أذنيها ولا تسمع النصيحة وقد نفد صبري معها وتضرب بكلامي عرض الحائط بلا اهتمام وإن كانت تبدو مشاكلنا بسيطة لكنها غير محتملة ولا أستطيع الاستمرار ولا عندي المزيد من الصبر أو الاحتمال ولا أريد الانفصال. أجدني في أمس الحاجة لدرس خصوصي في نون النسوة!!