“وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً” في البدء كانت النخلة وفي البدء كان الإنسان، وعلاقة وجودية قاسم مشترك، وحد الدم في الشريان مع الماء في العروق، ومن يستدعي التاريخ، ويستدرج التفاصيل، يرى ما بين السطور، لا شعور جمعي، يتحرك بعنفوان الصحراء، ويفوع النخلة، وبريق العيون التي تشظت جراء اللهيب، ونتوءات الأقدام الحافية التي تلظت بأسنان التراب المحتسى حتى النشوة من عرق الذين اختطفوا الزمن بعنقودية السفينة بالغة الشهامة بعلامة الشموخ الأبدي. القابضون على الشوق في جولة استدعاء، كان لي شرف الانتماء إلى ثلة من القابضين على جمرة الشوق والتوق، باتجاه الفضاء الوسيع. المكان: صحراء الإمارات الزمان: القرن الواحد والعشرون. اللحظة: غروب الشمس، مع انطفاء الضجيج.. عند تلة متداعية على شجرة غاف، التأم شمل أحباب وأصحاب، نساء ورجال، صغار وكبار، ولسان النار يلهج بلذة الدفء، ونشوة الالتفاف.. وبفضول الساعي إلى استقراء واقع تحدر من ماضٍ سحيق، سألت أحد كبار السن، كيف ترى المكان، وأن تغادر منزل المدنية المبجلة؟ حك صدغه، وأرسل نظره، متهجياً حروف الشرارات المتطايرة، من وهدة السخونة المباركة، ثم أردف قائلاً: غيرت المدينة، أشياء كثيرة فيَّ حتى هذا الثوب الذي أرتديه، أصبح ناصعاً، بارعاً في تشكيل لوحة الحياة في عيني، ولكن هناك أشياء كثيرة تستولي على الروح بسطوة العشق، لم تزل تمارس غيّها بفجور العشاق المدنفين، ما يجعلني آتي إلى هنا لأبحث عن ملامحها، ولما أجدها، أتشبث بتلابيبها، بعنف المستوحش من غربة طال غرامها في القلب، وأصبحت كالسكاكين تنهش الروح، ولا تبالي في تلوين الأشياء بلون السواد أحياناً على الرغم من الفضاء الملون بأزاهير الرخاء والسخاء، ووفرة المشتهى وما ترغبه النفس.. قلت كيف؟ قال: أنا عمري الآن ستون عاماً، وقبل هذه السنين، أو بالأحرى في سنوات الطفولة، كان الوالد يقطن في المكان القريب من هنا، في فترات وفي فترات أخرى، يجاور البحر، بمعنى أنني لما آتي إلى هنا، فإنني أعود لنعومة أظافري، أبحث عن آثار أقدام، حفرت التراب، واستلقت مختبئة تحت ركام من العقود الزمنية، وما أن أحط رحالي أشعر بنشوة الشباب، وفحولة الرمل الذهبي، وهو ينقر قاع قدمي، بشهوة الأزمنة الغابرة.. أشعر باسترجاع ذاكرة دفنت تحت هذه التلال، في غفلة من زمن، وبعد ضجيج أصم الآذان، ومنمنمات تاريخية، غطّت العينين بغشاوة، أشبه بالماء الأبيض الذي يغزو عيني الآن.. ثم يفرك جفنيه، ويمسح دمعة انسحبت بخجل، منحدرة على الأخاديد، مغتسلة بالشعر الأبيض الكث.. ويستطرد: أنظر إلى هذه الكثبان، ثم شيع النظر إلى ذلك البحر البعيد، ثم عرج لترى النار المشتعلة، فماذا سترى؟ لم أجب، بل حدقت في محياه، المكتظ بتقاسيم الفرح والحزن، المزدحم بتفاصيل دقيقة، تبدو كأنها الذرات المتداعية من نفضة سجادة قديمة. يتدخل هو فيجيب قائلاً: بطبيعة الحال، لن نستطيع تفسير هذا اللغز لأنك تجد هذا المشهد في كل يوم وفي مكان من أمكنة الإمارات ولكن، الباحث عن أصل هذه الملحمة، يعرف أن العلاقة تاريخية، أنجبتها الجغرافيا الخالدة، منذ أن تلاقح التراث الأزلي مع الحاجة الوجودية الأبدية، يوم فتح الإنسان عينيه على الصحراء، فوجد البحر، يعانق خصرها، بود أحياناً وبشراسة في أحيان أخرى، فما كان من الإنسان إلا أن يطرد أو يحاول طرد الشرور المتلاحقة وما يصيبه من علل جراء هذا التجاور العفيف اللذيذ، فاختلق النار، لأنها السر المكين والأمين، في طرد شياطين الألق البشري، فعندما كان الإنسان يمضي في الصحراء، منذ بدء الشروق، حتى وقت الغروب، ويصاب بعلة ما، فإنه يلجأ إلى النار ليلقي بالأرواح الشريرة في عمق جحيمها، وعندما لا يحظى بالنجاة من نار العلل، فإنه يضطر إلى أخذ لسعة نارية في ظهره أو خاصرته، صارخاً آه، ومعها يذهب الألم مع الألم، فيستعيد الفرد عافيته. يصمت الرجل، ثم يهمهم بضحكة مكتوية، ويشيعني بنظرة عميقة قائلاً: بالطبع سوف تسخر من هذا الكلام، لأنك تفكر بعقلية القرن الواحد والعشرين، وسوف تزم شفتيك مستنكراً مثل هذه الخرافة.. أقول لك: أنت على حق، لو فكرت بالمنطق العصري، الذي فرَّغ الأشياء من مضمونها، واستلب الروح البشرية، حتى بدا الإنسان كالرجل الآلي، يتحرك ويتحدث، ولكنه بلا دورة دموية، تتعاطى مع الوجدان، كما تتعاطى الصحراء مع البحر.. فهذه النار التي كانت تطرد الأرواح الشريرة كانت أيضاً تشوي أسماك الحياة، وتوري سعف النجاة من الجوع، إذاً كانت هي الأكسير الذي يصنع التاريخ ويحيله إلى وجود حي، لينجب أفراداً يرسمون خطواتهم على التراب بطموح الحفاظ على البقاء. نار وسمك وشياطين قلت: وما علاقة السعف بالنار والسمك؟! ضحك وكأنه يسخر هذه المرة، من تفكير إنسان، غيّبه الضجيج عن استيعاب ما يجري في التفاصيل.. ثم أطرق قائلاً: يا سيدي، هذه السعفة التي تسأل عنها، هي خصلة النجابة التي كانت تلوح بها النخلة منادية “البيدار” ليخطف “حابوله” ويمتطي جذعها العتيد، وعند شوائب الرأس، كان يستقر العذق الملون، بمسحة الانعتاق، من جوع وشظف، متدلياً بعناقيد الفرح، ساعة يمارس البلوغ سطوة الاستيلاء على بهجة اللقاء.. في هذه الساعة، تختلي يدا “البيدار” بحبات العذق، وثالثهما الصوت الرقيق مصدحاً “القيظ ما طول زمانه.. شهرين والغالي مشوبه” حيث بعد رطب القيظ تأتي ثمرة الشتاء، المخزنة في وجدان المساطيح تحملها الأيادي الناعمة إلى حيث مضارب الخيام.. أما عن سمكة النار، فهي المعتقة بملح البحر، كنا نعجنها بالتمر، لتصير وليمة الظهر، وسماد الأجساد التي ما عانت من السكر ولا من ضغط الدم، لأنها أجساد اتسعت شرايينها، من نفخ الصحراء، ومن فوح الرائحة المنبعثة من أحشاء النخلة المباركة. يصمت قليلاً ثم يطرق: هل عرفت الآن لماذا يتكور هؤلاء جميعاً حول هذه الألسن النارية. أخذت شهيقاً ثم قلت: ولكن الآن كل شيء تغير.. ولا أجد مبرراً لهذا الاستدعاء الذي لا يضيف لهؤلاء شيئاً. نظر إليَّ نظرة شعّ منها بريق الضجر، ثم تنحنح، ثم أطرق.. اللاشعور يا سيدي، هذا الكامن، الأمين، الذي لا يفرط ولا يغرق في النسيان، فقد قلت لك منذ البداية، أننا نتغير بسرعة البرق، في أشياء كثيرة، وأشياء أخرى، وهي الصادق المتصالحة مع نفسها تبقى صامدة، تتجلى ألقاً جميلاً، عندما تميط اللثام عن وجهها، وتعلن صراحة، أن الأشياء التي لا يخطفها الزمن، هي الأشياء المنتمية إلى الحقيقة، فإذا كان الإنسان تغير، فالصحراء باقية كما هي وكذلك البحر، والنخلة ثم النار.. إذاً كيف يمكننا أن نذهب بالصحراء بعيداً، وكيف باستطاعتنا أن نختزل البحر، ونطفئ النار ونهجر النخلة.. يصمت قليلاً ثم يبدأ في ترديد كلمة النخلة.. نخلة.. نخلة.. نخلة.. ثم يلتف ناحيتي قائلاً: هل تعرف أن سفن الماء وسفن الصحراء، كانت تتحمل عبء العناق، ما بين النخلة والإنسان، فمن “ليف النخلة، وكربها وجذعها، وسعفها، وعسوها، وجريدها، تشيد خيام الدفء وعريش البرودة، وبساط الطعام ومكبته، ومهفته، كل ذلك كانت النخلة تجدله من جسدها، لحفظ ود الوجود مع الإنسان. يصمت.. يتناول كأس الشاي، يدلقه دفعة واحدة، ثم يطرق، هذا الحب الأزلي لم يأتِ عبثاً، إنما هو نتيجة مباشرة لهذه العلامة الممتدة من جذع النخلة إلى شريان الإنسان إلى حبات التراب المبتلة من مزيج عرق وماء، ولهفة مختبئة تحت الجلد.. في هذا المكان أجد نفسي أقبض على وجودي الهارب في زحمة الوله إلى جديد متلاحق، يرفس الوجدان بعنف، فيصحو اللاشعور مستيقظاً بنشاط الفحولة القديمة، صارخاً، الأشياء لا تموت وإنما تبتلى بالجمود، ولا يحركها غير إرادة القوة عندما تستجمع عناصرها لتفضي إلى الأنا، متحدثة معها بلباقة الأوفياء، وأناقة النبلاء، فلا يملك الإنسان إلا أن يغسل حزنه بالدمع متطهراً من نفايات علقت بثيابه، ثم ينفضها.. ثم ينهض نافضاً جلبابه، قائلاً: ها قد فعلت أنا الآن، كما يفعل اللاشعور، ولو بودي لنزعت الجلباب، وأبقيت الإزار والقميص، لكي يلفح هواء الصحراء جسدي المختبئ تحت عقيم الملتبس والمتربص. ثم يسرد قائلاً: بالله عليك عندما تكون أنت والصحراء، وثالثكما هذا الوسيع المترامي، ألا تشعر أنك تملك الوجود، فهذا هو السر الدفين الذي لا يعرف الكثيرون مكنونه.. فالصحراء يا سيدي، امرأة جميلة، وبريئة وسخية، ومحبة، تمنحك الحب بلا مقابل، بينما في المدينة، فإنك تشتري حتى الهواء وتبتاع، موطئ القدم.. فأنا أعتاد المشي على الرمل البارد دون أن التفت خلفي خوفاً من بطش حافلة أو كائن بشري متهور أو مكالمة تستدعيني لحضور محاكمة عن شيك مرتجع، أما هنا، فإنني ألتقط حريتي من حرير الرمل، ونافذة الفضاء ورائحة الماء المتدفق من شرايين بحر الخليج العربي.