إميل أمين

على عتبات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين لا يزال سؤال التنوير يشاغب العقل العربي من غير مقدرة على الرسو في ميناء الخلاص من عواصف العالم العاتية.
ولعله من المؤلم أن يظل التساؤل الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان قبل أكثر من مائة عام: «لماذا يتأخر المسلمون ويتقدم غيرهم؟»، قائماً ينتظر الجواب من وراء أزمنة الانسداد التاريخي العربي.
مائة عام عاشت فيها المنطقة مراحل زمنية متباينة، بدأت بإرث سيئ السمعة من الإمبراطورية الظلامية العثمانية التي خلفت من الجهل والتخلف عمدا وقصداً ما أهلك الزرع والضرع والفكري، وحين قدر للدول العربية تالياً الخلاص من الاستعمار الأجنبي، استغرقنا في مفاضلة بين تيارين لا ثالث لهما: أما المشروع القومي، أو المشروع الإسلاموي، وفيما هما يتناحران، تاهت من الأقدام خطى التنوير الحقيقية، وقفزت إلى الآفاق أسئلة تشد إلى الوراء، وأصوات زاعقة ورايات فاقعة ترى أن الخير في كل سلف والشر في كل خلف.
على عتبات العقد الجديد يعن لنا أن نتساءل: كيف الطريق إلى دروب تنويرية لا تعمي في إغراقها العلماني من جهة، ولا تقتل في طبعتها التراثية من جهة ثانية أنواراً ترى في التراث أحد روافد المستقبل، لا قيداً عليه يجعلنا - كما قال الفيلسوف ورجل الدولة الأيرلندي الشهير ادموند ببيرك - محكومون بالموتى في حاضرنا ومستقبلنا؟

صراع عبثي
تكتسي علامة الاستفهام المتقدمة أهمية خاصة هذه الأيام، حيث تقترب المنطقة من زهاء عشر سنوات من صراع عبثي مع الزمن، حاولت فيه الأصوات الأصولية التكفيرية اختطاف المنطقة والعودة بها إلى أزمنة الأسر العقلي، فخلال سنوات ما عرف بالربيع العربي، والذي كان في عمقه شتاء أصوليا قارس البرودة، سعى المضللون إلى إغلاق مسارب الأمل والعمل التنويري الحقيقي، ولا يزال نفر منهم يحاول من جديد إعادة الكرة كما رأينا في إحدى دول شمال غرب أفريقيا، والمثير أن الآغا العثماني يتراءى ثانية من وراء الستار، ليذيق العرب المزيد من الآلام، ويقطع عنهم طريق الأحلام في غد أكثر إشعاعا وأكثر إشراقاً وتنويراً.
يحتاج سؤال العرب والتنوير كبعد من أبعاد الثقافة الحقيقية قراءات عميقة ومفصلة، غير أننا نحاول جاهدين أن نضع علامات أولية في طريق السؤال الجوهري: لماذا بات التنوير العربي الآن أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة؟
ربما يكون الجواب الأول لأننا في حاجة إلى إعادة بلورة مشروع الاستقلال الفكري العربي، إذ لا نزال متشرنقين في شرنقتين: إما التغريب والإغراق فيه، بكل من ما يحمل المشروع الغربي من إيجابيات وسلبيات، أو السلفية بكل ما تحتويه من علاقة ماضوية اجترارية لا تتصل ألا بالحديث عن اللبن المسكوب والحضارة التي كانت، وفيما نتصارع يتسابق الآخرون من جديد إلى ذرى العلم والتقدم والبناء والتنمية المستدامة.
نقطة التنوير الحقيقية التي يحتاجها العالم العربي في حاضرات أيامنا تبدأ حين ننفض غبار التبعية الإدراكية ونبحث عن حلول لمشاكلنا نولدها من نماذجنا المعرفية ومنظوماتنا القيمية والأخلاقية، ومن إيماننا بإنسانيتنا المشتركة.
يستوقفنا تعبير إنسانيتنا المشتركة ويدفعنا لطرح سؤال جوهري في هذا إطار: هل المشروع التنويري الحقيقي تتم مقاربته عبر الجسور أم الجدران؟ بمعنى هل يمكننا إدراك التنوير والذي يكاد معناه ومبناه يقترب من تعريف العلمانية الإيجابية أي التفكير في المطلق بما هو مطلق، والتفكير في النسبي بما هو نسبي، من خلال التثاقف مع الآخر، أم التمترس وراء الحصون والقلاع الفكرية القديمة؟
يمكن القطع بأن هناك في الغرب من جادت قريحته بأفكار تعود بالعالم إلى عصور التشارع والتصارع، كما فعل هنتنجتون، حين قسم العالم إلى فسطاطين شرقي وغربي، وقد تلقفت الجماعات الراديكالية بمدلولها السلبي هنا تلك الأفكار، وكان - للأسف - للشرق نصيب وافر منها، وحاججت بأنه لا ميناء عاصم إلا بالعودة إلى الوراء والاحتجاب عن الآخرين، الأمر الذي كان يستقيم في زمن الامبراطورية الرومانية - على سبيل المثال - حيث كان العالم مقسما إلى قطاعات جغرافية وديموغرافية، أما الآن في ظل الشبكة العنكبوتية والحروب السيبرانية، ما عاد من موقع أو موضع للاختباء.

العقل هو الحل
إن أراد العرب في العقد الجديد تنويرا حقيقيا فلا مناص لهم من التمحور حول العقل فهو المرجعية المركزية لأي تنوير حقيقي، والعقل يظهر أبداً ودوماً في صورتين:
* العقل الفعال: وهو حسب تصور الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، كيان فعال فطرت فيه بعض المقولات التحليلية والأفكار، مثل السببية والقوانين المنطقية واحيانا الحس الأخلاقي، وبواسطة هذه الأفكار الكامنة تتحول مدركات الحواس إلى مفاهيم كلية.
* العقل السلبي المتلقي: وهو حسب تصور الفيلسوف الانجليزي جون لوك وبعض فلاسفة فرنسا، جزء لا يتجزأ من المادة ولكنه شكل راق منها، وهو كالصفحة البيضاء التي تسجل كل ما ينطبق عليها من أحاسيس مادية، وتتكون الكليات بشكل تراكمي عن طريق التلاحم بين الجزئيات.
لا تنوير إذن إلا بالعقل، ولا عقل إلا بالتعليم، ولا تعليم إلا في النور، نور الحقائق الساطعة التي لا تعرف فقط، بل تقال ويبشر بها إن جاز التعبير، وأول بشرى أن العقل وكيل الله في الإنسان كما يقول الأديب العربي الكبير الجاحظ.
يمكن القطع بأن كلمة تنوير Enlightenment مأخوذة في اللغة العربية من النور، والنور في الوجدان الإنساني عكس الظلام، كما أن الخير عكس الشر، ومن ثم فإن كلمة التنوير تشير للفكر الأشبه بالنور الذي يبدد الظلام.
لم يظهر التنوير في أوروبا إلا حين وضع العقل في المرتبة التي تليق به مقارنة بالنقل، ومن غير أن يلغي احدهما الأخر، ولهذا عرف عصر التنوير في أوروبا بعصر العقل، كان ذلك في القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، حيث انتشرت الرؤى الفلسفية المادية، وأنبتت أوروبا أهم فلاسفة التنوير: فرانسيس بيكون، توماس هوبز، جان جاك روسو، ايمانويل كانط، بنجامين فرانكلين وغيرهم الكثير.

لا تنوير من غير تعليم
هل يلقى هذا الكلام صدى في عالمنا العربي اليوم؟
نعم ومن غير أدنى شك، صدى يتمحور حول العملية التعليمية والتي يمكنها أن تنتج لنا شتاء أصوليا أو ربيعا تنويريا، ذلك أن نظرة سريعة على أحوال المناهج العلمية في عالمنا العربي ومؤسساتنا التعليمية، ونوعية الخريجين توضح كيف أننا أغرقنا في الكم على حساب الكيف، وإن كانت النية غالباً ما تكون سليمة وتحت دعاوى مشروعة من المساواة وإتاحة الفرصة للجميع، غير أن قادة الأمم وحملة مشاعل التنوير عادة ما يحتاجون إلى حاضنات عقلية خاصة تدفع بهم إلى مدارات ما يعرف بعلوم الابتكار، وإنتاج نظريات الريادة على كافة الأصعدة الحياتية.
لا تنوير من غير تعليم خلاق، ولا ثقافة حقيقية من غير جذور تنويرية، ولعل حالة التمذهب والطائفية في العالم العربي اليوم تستدعي سؤالا آخر: ألم نكن قد انتهينا من هذا الصراع القبلي والعرقي منذ أزمنة بعيدة، أم أن الاستعمار الانجليزي والفرنسي وقبلهما العثماني كان يعمل بمثابة حاجز مانع لتلك المشاعر من الظهور على السطح لحين الانتهاء من العدو الخارجي وتالياً التفرغ لكي نهلك بعضنا بعضا؟
هذا السؤال المؤلم والحزين نراه اليوم في أسوأ صوره عبر عدد واضح من الدول العربية التي انتكست عن طريق الحضارة ومسار المدنية ولا نقول العلمانية، وعادت إلى صفوف المحاصصات الطائفية، وما حال العراق ولبنان وسوريا واليمن وليبيا، بل المؤسف حتى تونس صاحبة الإرث التنويري منذ عقود طوال تنتكس بدروها.
يؤلم الباحث المغرق في قراءة تاريخ الحضارة العربية أن يجد صفحات مشرقة وتنويرية حقيقية في صدر الدولة الاسلامية ودولة الخلافة الرشيدة، لا دولة البغدادي وأردوغان وعصور هولاكو المحدثة.
كان التنوير يظلل خلافة هارون الرشيد، حين ضم إلى مجلسه العلماء والحكماء، وأضحى بيت الحكمة في بغداد هو رواق الأمم المعاصرة، فيه يلتقى المفكرون والمبدعون يترجمون ويؤلفون، مسلمين وغير مسلمين، من يهود ونصرانيين، من عرب وعجم، ولهذا كان من الطبيعي أن ينشر العرب أضواء من التنوير على أوروبا في القرون الثلاث الأولى من الألفية الثانية، في ذلك الوقت الذي كانت فيه رحابة الابستمولوجيا عربيا تتجاوز عقبات الأيديولوجية وتحدياتها.

درس هوجو
عند إحياء الذكرى المئوية للفيلسوف الفرنسي التنويري الكبير فولتير، والذي يعد أيضاً من أعظم أدباء فرنسا، اعترض رجال الدين الفرنسيون على هذا الاحتفال بسبب التوجهات العلمانية لفولتير، ومعروف أنه هاجم كثيرا رجال الاكليروس في بلاده.
غير أن التنويريين الحقيقيين من أمثال أديب فرنسا الأشهر فيكتور هوجو، وقف يذود عن فكرة الاحتفال بقوله: «إن الكلام الإنجيلي أي كلام الدين، يكمله الكلام الفلسفي، ولا تعارض بين العلم والدين... المسيح بكى وفولتير ابتسم، ومن هذه الدمعة وتلك الابتسامة صنعت حلاوة الحضارة الحديثة». والشاهد أنه حين يقوم في عوالمنا وعواصمنا العربية رجل بقدر وقدرة هوجو الأدبية، ساعتها يمكن أن نعلن بدء عصور التنوير العربي مرة وإلى ما شاء الله.

في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أقامت المكتبة الوطنية الفرنسية احتفالاً هائلاً للتنويريين والفلاسفة الفرنسيين الذين قادوا مسيرة فرنسا بل وأوروبا حول العالم على صعيد الأنوار التي تضيء للجالسين في الظلمة وظلال الموت، لا التي تعمي الأبصار، ويومها اختار الفرنسيون الفيلسوف البلغاري الأصل الراحل عن عالمنا منذ عام تقريباً تزفينات تودوروف للإشراف على الاحتفالية.. ماذا كان عنوان ذلك المهرجان التنويري؟ «التنوير كإرث للمستقبل»،.. هكذا جاء عنوان الاحتفالية، وهو أمر يستوجب التفكير فيه بعمق، ذلك أنه إذا كانت دولة بوزن فرنسا الفكري والإنساني ترى في ماضيها التنويري إرثاً لمستقبلها وحصناً لأجيالها القادمة من الوقوع في فخاخ الأصوليات والقوميات، ولتجنب جبِّ الكراهيات الناجمة عن عودة النزاعات السياسية العنصرية لا سيما الفاشية والنازية، فكيف يكون حال عالمنا العربي غير القادر حتى الساعة على بلورة حدود واضحة بين العقل والنقل، ولا يزال يخلط بين الأمرين، ما يجعله مشدوداً إلى الماضي بأسى، ومتطلعاً إلى المستقبل بخوف وارتياب؟

درس فرنسي
في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أقامت المكتبة الوطنية الفرنسية احتفالاً هائلاً للتنويريين والفلاسفة الفرنسيين الذين قادوا مسيرة فرنسا بل وأوروبا حول العالم على صعيد الأنوار التي تضيء للجالسين في الظلمة وظلال الموت، لا التي تعمي الأبصار، ويومها اختار الفرنسيون الفيلسوف البلغاري الأصل الراحل عن عالمنا منذ عام تقريباً تزفينات تودوروف للإشراف على الاحتفالية.. ماذا كان عنوان ذلك المهرجان التنويري؟ «التنوير كإرث للمستقبل»،.. هكذا جاء عنوان الاحتفالية، وهو أمر يستوجب التفكير فيه بعمق، ذلك أنه إذا كانت دولة بوزن فرنسا الفكري والإنساني ترى في ماضيها التنويري إرثاً لمستقبلها وحصناً لأجيالها القادمة من الوقوع في فخاخ الأصوليات والقوميات، ولتجنب جبِّ الكراهيات الناجمة عن عودة النزاعات السياسية العنصرية لا سيما الفاشية والنازية، فكيف يكون حال عالمنا العربي غير القادر حتى الساعة على بلورة حدود واضحة بين العقل والنقل، ولا يزال يخلط بين الأمرين، ما يجعله مشدوداً إلى الماضي بأسى، ومتطلعاً إلى المستقبل بخوف وارتياب؟