عبد السلام بنعبد العالي

حتى وقت جدّ قريب، كانت الفلسفة في وطننا العربي تعاني من التهميش والنبذ والإهمال، فهي لم تكن تُدرّس تقريباً في بعض الأقطار، كما أنها كانت، في أخرى، تدرّس في التعليم العالي من غير أن تدخل المدارس الثانوية، وحتى في الأقطار التي كان يُسمح لها فيها بالحياة، كنا نلاحظ أن الحصص المقررة لها في التدريس في اتجاه نحو التقلّص، وأن كثيراً من الجامعات لا تخصّص لها أقساماً خاصّة، هذا إن لم تتخلَّ عنها بالمرة، والغريب أنها كانت، حتى إن وجدت كمبحث للتدريس، فهي لم تكن تحضر باسمها، فغالباً ما كانت تتقنع تحت أسماء غريبة في بعض الأحيان.
بصيص أمل أَطلَّ خلال العقد الذي نودّعه، أماراته الأولى أن لفظ «فلسفة» لم يعد في حاجة إلى تستر، فكثير من المجلات العربية والملاحق الأسبوعية صار يفتح الأبواب لمقالات في الفلسفة وعنها، بل إن منها ما خصّص أعداداً لهذا المبحث، الذي كان منبوذاً حتى وقت قريب، أو كان يظهر من خلف ستار.
الأمارة الثانية، أن كتباً بكاملها في الفلسفة الغربية تُنقل اليوم إلى لغة الضّاد، وأنها تنشر في الأقطار العربية جميعها، بل إنها تعرف إقبالاً ملحوظاً، صحيح أن اتجاهات فلسفية بعينها هي التي تحظى بالعناية في هذا المضمار، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن الاهتمام بها، في تزايد مستمر.
لكن الأهمّ من كل ذلك، هو ما أصبحنا نلحظه من تفتح على الفلسفة، واهتمام بها، وحديث عن الرغبة في إدراجها في أسلاك التعليم جميعها، وعياً من الساهرين على تسيير شؤون العالم العربي، بأن غرس الفكر النقدي ينبغي أن يتأصل، وأن يتم تدريجياً، وعبر مراحل نمو التلميذ وتفتح آفاقه.
هل يمكن أن نستخلص من كل ذلك، أن الفلسفة في طريقها نحو الازدهار في مجتمعاتنا العربية، وأن مستقبلها يبعث على الاطمئنان؟ وهل حضورها، في الشكل الذي تحضر به، هو الحضور الملائم الذي من شأنه أن يعرف شيئاً من الازدهار في المستقبل القريب؟ وهل يمكن اليوم الحديث عن فلاسفة عرب، بالمعنى الذي نستخدم به اللفظ فيما يخص فلاسفة الغرب؟
ربما يجدر بنا، جواباً عن هذه الأسئلة ومثيلاتها، أن نتوقف قليلاً عند حال الفلسفة خارج وطننا العربي، كي نعرف أيَّ نوع من الحضور أصبحت الفلسفة تتخذه، ما يلفت انتباهنا لأول وهلة أن الفلسفة لم تعد «تحضر»، حتى في كثير من البلدان الغربية، بالكيفية المعهودة، وإنما صارت تعيش في «هوامشها»، دليل ذلك أن معظم المفكرين المعاصرين لا يقدّمون أنفسهم كفلاسفة، حتى إن كانت الفلسفة المعاصرة لم تعرف حياة فعلية إلا عندهم، ولنا في فوكو وبارت وليفي ستروس وبورديو أمثلة على ذلك، فإن كان هؤلاء أقرب إلى اللسانيات أو التاريخ أو النقد الأدبي أو علم الإناسة وعلم الاجتماع، فإننا لا نستطيع أن ننكر، مع ذلك، أن «الانتعاشة» التي عرفتها، وتعرفها الفلسفة المعاصرة لم تأت إلا على أيديهم، وليس أبداً على يد من عهدنا تصنيفهم تقليدياً ضمن الفلاسفة.
الخلاصة، أن الفلسفة المعاصرة حتى في البلدان التي ما زالت تحيا فيها، تدريساً ودراسةً وبحثاً، تعيش «خارج» الفلسفة، وعلى هامشها، وأعني في التاريخ، والدراسات الاقتصادية واللسانيات والتحليل النفسي والسيميولوجيا ودراسة الأساطير، وفي الفكر المعاصر، غالباً ما نلفي الفلسفة عند غير أهلها، الفلسفة اليوم تعيش من/‏‏في هوامشها، وأكبر «انتعاشة» عرفتها الفلسفة، بعد «اكتمالها» عند هيجل، لم تأت على أيدي من عهدنا تصنيفهم فلاسفة، ولم تترعرع في فضاءات الفلسفة المعهودة، وإنما انبثقت من المقاهي والنوادي، وعند أهل الفن ونقاد السينما والصباغة، ولنا في بلانشو وآرتو وباتاي وغودار أمثلة دالة على ذلك.
الجواب إذن، عن مصير الفلسفة في وطننا العربي لا يمكن أن يتم إلا بتجاوز هذا «النبذ المزدوج» الذي أشرنا إليه، وهذا يعني أن علينا أن نتخلى عن إصرارنا العنيد لإحياء الفلسفة في صورتها التقليدية، وإقحامها مدارسَنا وجامعاتنا ومجتمعاتنا بالشكل التقليدي الذي عُرفت به خلال قرون، لكن ذلك لا يعني الاكتفاء بنوع من الفلسفة الضحلة، التي هي أقرب إلى النصائح العملية التي تحرر «الوصفات» التي من شأنها، كما قيل سابقاً، أن تجعل المرء «يدع القلق ليبدأ الحياة»، إنه يعني بالدرجة الأولى الوقوف عند الهزات الفكرية المعاصرة، ومختلف أشكال الخلخلة، التي أعادت النظر في المفهومات الكبرى، التي قام عليها التقليد الفلسفي كمفهوم الزمان التاريخي، ومفهوم الذات الفاعلة، ومفهوم الحقيقة. هذه الهزات نمت على هامش الفلسفة التقليدية و«خارج» مراكزها، ويكفي أن نذكر الخلخلة التي عرفها مفهوم الكتابة، ومفهوم النص، ومفهوم اللغة، ومفهوم المعنى، ومفهوم المؤلف والذات الفاعلة عند كل من بلانشو وبارت وإمبرتو إيكو... إلى الحد الذي أصبح فيه من المتعذر على مؤرخ الأفكار اليوم، أن يميز بين ما للأدب وبين ما للفلسفة.

الفلسفة.. مناخ
من أجل إبراز ذلك النبذ المزدوج الذي أشرنا إليه، ربما لا ينبغي أن ننهج هنا النهج التقليدي في طرق هذه المسألة، ذلك النهج الذي كان يبدأ بالتساؤل، عما إذا كان هناك من يستحقون أن ينعتوا بالفلاسفة، لذلك فلن نعطي الأسبقية هنا، كما يتم عادةً، للتساؤل عما إذا كان العالم العربي قد عرف، أو يعرف الآن فلاسفة بالمعنى التقني للكلمة، إذ إن هذا النوع من التساؤلات لا يفضي إلى أجوبة، وغالباً ما يطرح أسئلة أخرى أشدّ تعقيداً، إلا أن السبب الأهم لاستبعاد هذا التساؤل في نظرنا، هو أن الفلسفة ليست أساساً أسماء أعلام، ولا حتى مجرد فرع من فروع المعرفة، بقدر ما هي «مناخ» فكري، فقد تكون هناك فلسفة من غير أن يوجد فلاسفة بالمعنى التقليدي للكلمة. وعلى رغم ذلك، فحتى إن نحن لم نتساءل عن الفلاسفة، واكتفينا بالتساؤل عن هذا «المناخ»، فلن يكون جوابنا إيجابياً بطبيعة الحال، إذ إن عوائق متشعبة تحول دون توفره، فالفلسفة تعاني في وطننا العربي من عوائق كثيرة، لعل أهمها المناخ الثقافي والأيديولوجي، الذي تعرفه كثير من الأقطار العربية، والذي لا يظهر أنه مناسب حتى الآن للفكر المبدع الخلاق.
كيف السبيل إذن إلى «خلق» هذا المناخ؟ لقد سبق للفكر الأوروبي أن واجه الجمود الفلسفي الذي عرفته معظم الجامعات الأوروبية بإحياء الفلسفة خارج الجامعات، وعلى هامش مؤسساتها الرسمية، فتُرك «التقليد» للفضاءات التقليدية، وجاء الانفتاح من «خارج»: تُرك التقليد لجامعة السوربون، وجاء الانفتاح من الكوليج دوفرانس ومن جامعة فانسين، تُرك التقليد للفضاءات التقليدية، وجاء التجديد من مقاهي الفلسفة ونواديها، لقد تم إدخال الفلسفة إلى الدراسات والتدريس في «خروجها» ذاته، وتم إحياؤها في «موتها».

النقد موطن الفلسفة
فلو نحن أردنا أن نستفيد من «الدرس» الفلسفي المعاصر، فربما وجب علينا أولاً، وقبل كل شيء، أن نفتح دراساتنا الأدبية والتاريخية والنفسية واللغوية والاجتماعية والتربوية على الفلسفة، أي على الثورات الفكرية المعاصرة، كما تمت عند مالارمي وفرويد ونيتشه وفلاسفة اللغة ومدرسة الحوليات.. الأمر الذي يحقق غرضين اثنين: متابعة فعلية للحداثة الفلسفية، وفتح النوافذ لكي تتمكن الفلسفة من أن تقتحم حياتنا ومدارسنا ومجتمعاتنا، حتى وإن ظلت الأبواب الكبرى ضيقة الانفتاح.
نقطة هامة، كان أشار إليها عبد الله العروي، في المقدمة الجديدة التي كان قد وضعها للترجمة التي قام بها هو نفسه لكتابه: «الأيديولوجية العربية المعاصرة»، يقول فيها: «إن ثلثي، بل قل ثلاثة أرباع النقد الأيديولوجي، يظهر عندنا في شكل نقد أدبي، أي يتخذ الرواية والقصة والمسرحية كوسيلة لترويج الأفكار السياسية والاجتماعية... لا ننسى أن كلاً من محمد عبده وسلامة موسى وطه حسين روجوا لأفكارهم التجديدية، بوساطة دراستهم الأدب العربي، قديمه وحديثه»، نتأكد من صدق هذه الملاحظة إذا نحن انتبهنا إلى ردود الأفعال، والضجة الكبرى، التي خلفتها كتابات هؤلاء، فما أثارته مؤلفات فلسفية مثل كتاب زكي نجيب محمود «نحو فلسفة علمية»، أو مؤلف عبدالرحمن بدوي في «الزمان الوجودي»، لا يضاهي البتة ما أعقب ظهور كتاب مثل «في الأدب الجاهلي»، معنى ذلك أن الأفكار المزعجة، أي تلك التي تمس المعتقد الأيديولوجي، وتخلخل الرؤية التقليدية للأمور، كانت تجد طريقها إلى المتلقي، عبر النقد «الأدبي» أكثر مما تجده عبر الطرق الأخرى، معنى ذلك أيضاً أن تحديث الذهنيات كان يمر عبر قطاعات، تبدو في الظاهر أقل فاعلية من غيرها.
الحل الممكن إذن، لتوفير هذا «المناخ» في وطننا العربي، هو إدخال الفلسفة إلى دراساتنا وتدريسنا في «خروجها» ذاته، المفارقة الظاهرة هنا أنني ألقي المسؤولية لإنعاش الفلسفة في وطننا العربي، لا على الفلاسفة ومدرسي الفلسفة وحدهم، وإنما على أساتذة اللغة والدراسات الأدبية والأبحاث التاريخية والعلوم الاجتماعية، حيث يبدو أن ما لديهم من إمكانيات لتحديث دراساتهم وتغذيتها بروح العصر، وفتحها على الثورات الفكرية المعاصرة، سواء كما تمت عند مالارميه أو عند فرويد أو نيتشه أو مدرسة الحوليات، ربما هو الكفيل وحده لضمان مستقبل ممكن للفلسفة في هذا الوطن.