في الرابع من شهر يناير 1960، مات البير كامو في حادث سيارة عبثي وهو في طريقه إلى باريس بصحبة ناشر كتبه غاستون غاليمار. وكان آنذاك في السابعة والأربعين من عمره. ورغم أنه نال جائزة نوبل للآداب عام 1957، فإنه كان عرضة للانتقادات والتهجمات من قبل كبار المثقفين الفرنسيين بسبب موقفه من حرب الجزائر وإدانته للعنف من الجانبين، من جانب الجيش الفرنسي ومن جانب جبهة التحرير الجزائرية. كان سارتر قد هاجمه بحدة لا مثيل لها متهما إياه بـ”القصور” في المجال الفلسفي بعد أن أصدر كتابه “الرجل المتمرد” عام 1952، وعندما علم بنيله جائزة نوبل للآداب قال ساخرا: “لقد سرقها!”. وثمة مثقفون فرنسيون كبار آخرون اعتبروا كامو “كاتبا وفيلسوفا من الدرجة الثانية”. مع ذلك ظل حيا في القلوب وفي النفس على مدى العقود الخمسة التي مرت على وفاته. ولا تزال رواياته خصوصا “الغريب” و”الطاعون” و”السقطة” و”الرجل الأول” تباع بملايين النسخ. ويقبل كبار المخرجين في العالم على تقديم مسرحياته. وكانت نصوصه التي تدين العنف الثوري، والثورات الدموية التي تفضي إلى ظهور أنظمة استبدادية وديكتاتورية توزع سريا في عواصم وجامعات بلدان أوروبا الشرقية خلال الحقبة الشيوعية. نموذج محبوب وعن ذلك كتب جان دانيال يقول: “لماذا كان المثقفون في كل من بولونيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا والاتحاد السوفياتي يفضلون كامو على تعاليم رايمون آرون المناهضة للماركسية؟ لأن كامو كان قد عرف البؤس، وناصر حركة المقاومة ضد النازية، وكتب عن العنف وعن الشر. ثم إن مثقفي البلدان الشرقية كانوا متمردين، وكانوا يخشون الثورة ويخافونها في حين كان تقديس الثورة والتاريخ في قلب مشاغل وهموم كامو الفكرية والفلسفية. ان هذا الرجل الذي كان يفكر مثل مونتاني، ويكتب مثل باسكال ويعيش شك العصر الحديث، يقدم لنا احتمال تمرد مقبول ومعقول”. ويعتقد المفكر الأمريكي دافيد شارمان أن البير كامو هو النموذج الحقيقي للفيلسوف الذي يدعو إلى الحوار بين الثقافات وإلى الدفاع عن حقوق الانسان. ويرى الفرنسي ميشال أونفراي أنه ـ أي البير كامو ـ “يقدم لنا الدليل القاطع ونحن نخرج من عصر الايديولوجيات على أنه كان على حق”. ويضيف اونفراي قائلا: “لقد انتقد كامو وبحدة الرأسمالية وانعدام الانسانية في سياسات اليمين كما في سياسات اليسار، وقال لنا بأن العدالة من دون حرية تقود إلى الديكتاتورية، وأن الحرية من دون عدالة تؤدي إلى قانون الغاب”. وعندما قضى في الحادث الأليم المذكور، كان البير كامو يحمل معه مخطوط رواية جديدة حملت عنوان “الرجل الأول” وسوف تنشر هذه الرواية غير المكتملة بعد وفاته بـ34 عاما، وتحديدا عام 1994، ونحن نجد فيها ملامح من سيرته الذاتية. فنحن نعلم أنه ولد في السابع من نوفمبر 1913 في قرية قريبة من الحدود الجزائرية ـ التونسية. وكانت أمه من أصول إسبانية، وكانت شبه بكماء وأمية لذلك سوف يهدي لها رواية “الرجل الأول” على النحو التالي “إليك أنت التي لن تستطيعي أبدا قراءة هذا الكتاب”. وأما والده لوسيان كامو فقد قتل في الأسابيع الأولى من الحرب الكونية التي اندلعت عام 1914. وفي “الرجل الأول” يتحدث بإسهاب عن والده الذي رحل عن الدنيا من دون أن يتعرف عليه فعاش محروما من حنان الأبوة. وفي الفصل الأول من الرواية، يتحدث البير كامو عن قدوم والده إلى الجزائر، وسفره إلى تلك القرية التي سوف تشهد مولده. وكان ذلك في خريف عام 1913، وبدقة يصف لنا كامو رحلة والده في عربة قديمة مصحوبا بزوجته الحامل وبعربي استقبله في مدينة عنابة. وعند الوصول إلى القرية تحس الزوجة بأوجاع الحمل فيسرع الزوج بالذهاب للبحث عن الطبيب. ويختم كامو هذا الفصل بفقرة بديعة فيها يكتب قائلا: “في ساعة متأخرة من الليل، مرتديا سروالا طويلا وثوبا مسردا، وممددا على حشية بالقرب من زوجته كان “كورمري” (الاسم الذي اختاره كامو لوالده في الرواية) ينظر إلى لهب النار وهو يرقص على السقف. كانت الغرفة قد رتبت تقريبا. ومن الناحية الأخرى لزوجته كان الطفل الوليد يستريح من دون ضجيج في السلة المخصصة للثياب. فقط أحيانا بعض القرقرات. كانت زوجته نائمة أيضا ووجهها باتجاهه وفمها مفتوح. كان المطر قد توقف في اليوم التالي، لابد من الشروع في العمل. بالقرب منه، كانت اليد المنهوكة والمخشوشبة تقريبا، يد زوجته، تحدثه أيضا عن هذا العمل. مد يده ليضعها بلطف على يد المريضة ثم انقلب إلى الخلف وأغمض عينيه”. سنوات وذكريات بعد مرور أربعين عاما على وفاة الأب ينطلق الابن الذي هو البير كامو لزيارة قبره في مقبرة “سان ـ بريوك” Saint Brie c في شمال فرنسا، حدث ذلك في ظهيرة يوم ربيعي كانت فيه الشمس باهتة الضوء. ومن نافذة القطار كان الرجل ينظر إلى القرى البشعة وإلى الحقول التي كانت تتتابع أمام عينيه. حال وصوله إلى “سان ـ بريوك” يترك الرجل حقيبته في الفندق، ثم يمضي إلى المقبرة، وهناك يعلم أن والده، كورمري هنري قتل في معركة “لا مارن” La marne يوم 11 اكتوبر 1914، وهنا يكتب كامو قائلا: “منذ سنوات ومنذ أن استقر به المقام في فرنسا، ووالدته التي ظلت تقيم في الجزائر تطلب منه ما كانت تطلبه منه منذ أمد بعيد: أن يزور قبر والده الذي لم تزره هي أبدا. وهو يعتقد أن تلك الزيارة لا معنى لها بالنسبة إليه لأنه لم يعرف أبدا والده، ويجهل تماما كيف كان حاله ثم أنه يمقت الطقوس والمساعي التقليدية. كما أن أمه لم تتحدث أبدا عن الراحل ولم يكن باستطاعتها أن تتخيل ما سوف يراه”. واقفا أمام القبر ينتبه الرجل الذي يدعى جاك كورمري، والذي هو البير كامو، إلى أن والده مات في سن أصغر من سنه عند تلك الزيارة الأولى لقبره. وعندئذ غمرت قلبه موجة من الحنان والشفقة لا تجاه الأب وانما تجاه الجندي الذي قتل وهو في ربيع العمر في حرب لم يكن يدري أسبابها، ولم يكن يعرف المتورطين في إشعالها. والآن لم تعد السنوات تنتظم بحسب الترتيب الزمني وإنما هي تنفجر متحولة إلى دوامات. وها الرجل ينظر ذاهلا إلى المقبرة التي امتلأت بجثث جنود قتلوا وهم في ريعان الشباب هم الذين كانوا آباء لأبناء أصبحوا الآن في سن الكهولة، وبدأ الشيب يغزو رؤوسهم. وهنا يكتب كامو قائلا: “هو لم يعد الآن غير ذلك القلب المتوجس الشره للحياة والمتمرد على النظام القاتل للعالم، القلب الذي رافقه على مدى أربعين عاما، والذي لا يزال يضرب دائما بنفس القوة ضد الجدار الذي يفصله عن سر كل حياة، راغبا أن يذهب بعيدا، إلى ما وراء ويعرف يعرف قبل أن يموت يعرف أخيرا لكي يكون لمرة واحدة للحظة واحدة، لكن إلى الأبد”. وفي رواية “الانسان الأول” يتحدث البير كامو عن طفولته المعذبة في الجزائر، وعن الألعاب التي كان يمارسها مع أطفال الحي، وعن جدته القاسية التي كانت تضربه وتعنفه عندما يأتي أعمالا وأفعالا خفية عنها. وعندما كان يتردد على المعهد الثانوي بـ”باب الواد” (1924) عشق البير كامو البحر، وعنه سوف يكتب في ما بعد نصوصا رائعة نشرت ضمن كتابه “أعراس”. وعندما بلغ سن المراهقة، بدأ يتردد على مكتبة خاله الذي كان جزارا، والتي كانت تحتوي على أمهات الكتب في جميع مجالات المعرفة. وفي هذه المكتبة الكبيرة والثمينة سوف يقرأ “الأغذية الأرضية” لاندريه جيد وسوف يتأثر بشاعرية صاحبها، وبنفسه الغنائي البديع. ومقتديا به سوف يكتب في ما بعد قائلا: “حتى كل ثوراتي أضيئت بالنور. وكانت دائما تقريبا، وهذا ما أستطيع أن أقوله من دون غش، من أجل الخير للجميع، ومن أجل أن تسمو حياة كل الناس في النور. وليس من المؤكد أن يكون قلبي مهيأ لمثل هذا النوع من الحب. غير أن الظروف ساعدتني. ولكي أصلح لا مبالاة طبيعية، وضعت في منتصف المسافة بين البؤس والشمس. ان الفقر لا يمنع من الاعتقاد بأن كل شيء على ما يرام تحت الشمس وفي التاريخ. قد علمتني الشمس أن التاريخ ليس كل شيء. نعم لتغيير الحياة، لكن لا لتغيير العالم الذي جعلت منه آلهتي”. وفي سنوات شبابه، أصيب البير كامو بمرض السل غير أن ذلك لم يمنعه من مواصلة البحث والدراسة والقراءة. وبرعاية جان غرنييه، استاذه في مادة الفلسفة، كتب نصوصه الأولى والتي تضمنت أفكارا فلسفية عميقة سوف يطورها في ما بعد في مجمل رواياته وكتبه الفلسفية وأيضا في مسرحياته وأثناء عمله في جريدةAlger rep blicain تعرف البير كامو على أحوال المزارعين الجزائريين في منطقة “القبائل” وأدان الممارسات اللاإنسانية للسلطات الاستعمارية، فاضحا عنصرية المعمرين الفرنسيين. أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، استقر البير كامو في باريس. وخلال سنوات الحرب القاتمة، كتب تلك الأعمال التي سوف تجعل منه كاتبا مشهورا عالميّا. وهذه الأعمال هي: “الغريب” ومسرحية “كاليغولا” و”أسطورة سيزيف” وهو بحث فلسفي. في الآن نفسه انضم إلى حركة المقاومة ضد النازية وكتب نصه الشهير “رسالة إلى صديق الماني”. بعد الحرب العالمية الثانية، اصبح البير كامو واحدا من أكثر الكتاب الفرنسيين شهرة على المستوى العالمي. وظل على هذه الصورة حتى وفاته في الحادث المفجع الآنف الذكر. ولا تزال هذه الصورة، صورة الكاتب والمفكر العالمي مشرقة إلى حد هذه الساعة. وربما إلى الأبد..