بدأت الروائية السورية مها حسن حياتها الأدبية قاصة جريئة عبر مقاربتها للمسكوت عنه في علاقة الفتاة بجسدها في مرحلة المراهقة، كما قدمت نفسها لأول مرة في مجلة “الموقف الأدبي” السورية قبل أكثر من عقدين من الزمن مما لفت الأنظار إليها ككاتبة نسوية تمتلك شجاعة القول والدخول في المناطق البالغة الخصوصية من حياة المرأة، لكنها ظلت تظهر على فترات متباعدة لتعود وتقدِّم نفسها ككاتبة روائية من خلال أربعة أعمال صدر آخرها قبل فترة بعنوان “بنات البراري”. وإذا كان هذا العنوان يشكل اختزالا وتكثيفا لعالم الرواية، فإن إضافة اسم الجمع الذي هو خبر المبتدأ المحذوف في بنية العنوان (بنات) إلى المضاف إليه (البراري) يجعل هذا الاسم معرَّفا من خلال الإضافة الدالة على علاقة الارتباط القائمة بين الاسمين اللذين يأتيان في صيغة الجمع بهدف إعطاء العلاقة بينهما بعدا جمعيا يقوم على علاقة الارتباط القائمة بين المرأة والحرية والجمال اللذين ترمز لها البراري. إن هذه البنية النحوية والدلالية للعنوان تجعل قراءة العنوان بما ينطوي عليه في بنيته من مقاصد دلالية هامة تجعل منه المحور الذي تدور حوله أحداث الرواية يضع القارئ منذ البداية في عالم الرواية الذي يكشف عن مضمونها ودلالاتها، حيث تنشغل الرواية باستحضار قيمها عبر علاقة الحب وما تحمله هذه العلاقة العاطفية ببعدها الحسي من تجسيد حيٍّ لمعنى وجود الكائن الإنساني وتألقه وفيضه الذي تشترك فيه الطبيعة مع الإنسان في هذه الحالة العميقة من التفتح والخصب والدفء والجمال. الحب وأفق الكتابة تهدي الكاتبة روايتها إلى ضحايا الشرف من النساء ما يجعل الرواية من خلال هذه العتبات تنطلق - بوصفها كتابة مضادة - من أفق يمجِّد الحب ويعطيه قيمة خاصة وثرية في الحياة. وقد ساهمت تلك الرؤية الشعرية إلى موضوع الحب بين المرأة والرجل في بعدها الحسي بوصفه تتويجا لنداء الجسد ورغبته في الفرح والتفتح والتوحد مع الآخر في بروز الموقف الشاعري من خلال تلك الرؤية التي تمنح الحب تلك المعاني الكبيرة التي تتجاوز وجود الإنسان إلى الطبيعة خالقة حالة عالية من التفاعل والتناغم بين الاثنين. لقد استدعت تلك الرؤية التي عملت على أسطرة فعل الحب إضفاء طابع غرائبي على عالم الرواية وأحداثها من خلال تلك الطاقة السحرية التي يمتلكها فعل الحب، في عالم يتحول فيه الحب إلى لعنة تنتهي بصاحبها إلى القتل الوحشي غسلا للعار ما يجعل الطبيعة تدخل في طقس الحداد والموات كإعلان عن موت الحياة والجمال والخصب. تلعب جملة الاستهلال بما تمثله من دخول مباشر في حدث الرواية القاسي المتجسد في مشهد قتل بطلة الرواية القاسي سلطانة التي تضع مولودها في نفس اللحظة التي يجري فيها فصل رأسها عن جسدها من قبل والدها عقابا على علاقتها بالشاب الذي أحبته وأقامت معه علاقة جسدية. وبغية إضفاء طابع من الحرارة على علاقة الساردة المباشرة بالمتلقي تستخدم الكاتبة السرد بضمير المتكلم في سرد وقائع هذا المشهد لتعود في الأجزاء التالية من الرواية إلى استخدام ضمير الغائب في السرد. الواقعية السحرية تحاول الرواية في بنيتها السردية والحكائية أن تضفي طابعا من الواقعية السحرية على أحداثها على الرغم من أنها رواية ذهنية تنشغل بالفكرة وتمثيل أبعادها ودلالاتها ومعانيها دفاعا عن هذه العاطفة ببعدها الحسي الذي يتمرد على الواقع والقتل، إذ يستمد معناه وقيمته من ذاته وأعماقه الحيّة . لايحمل المكان في هذه الرواية أي دلالة يحيل من خلالها على مكان بعينه، سوى أن أحداثه تجري في منطقة ريفية تتميز ببراريها الواسعة التي تشكل فضاء مفتوحا يرمز للحرية والبساطة والجمال والخصب. تمثل الطبيعة في هذا العالم بعدا آخر حيا للذات العاشقة يجعل وجودهما متكاملا ومتناغما يحيل كل منها على وجود الآخر كما يتجلى في مشهد عشق سلطانه، ومن ثم في مشهد عشق ابنتها ريحانة وموتها “في ذلك الصباح تصرف جميع أهالي القرية بغرابة. لم يرغب أحد بمغادرة السرير.. رائحة الياسمين اقتحمت القرية، لم تكن مجرد رائحة ممتزجة بالرغبة، بالشهوة كان كل شيء “مميسمنا” له رائحة الياسمين وجنات الزوجات شفاههن أذرعهن سيقانهن، بل وكذلك أجساد الرجال”. وتأتي رمزية الألوان التي تحاول الروائية توظيفها في بعدها الشاعري لتضفي دلالة موحية بطبيعة المشهد وتحولاته، وذلك من خلال طاقتها التعبيرية التي تمتلكها عبر استخدامها كعناوين لمشاهد الرواية للإيحاء بطبيعة المشهد، فالأحمر الدال على القتل يقابله البرتقالي في مرحلة التحول نحو اللون الأخضر الدال على الحب والخصب وتجدد الحياة. الشخصية الروائية تمثل سلطانه شخصية متحولة، بفعل علاقة الحب وتأثيره، فبعد أن كانت تكره المدرسة بوصفها ترمز للمكان الضيق وتقييد الحرية تصبح طالبة مجتهدة تقبل على الدراسة والعلم، في حين تظل علاقتها بالبرية علاقة قوية تعبر عن ارتباطها بما تمثله من جمال وحرية. ولا تختلف شخصية ريحانة عن والدتها سلطانة فهي شخصية غير ثابتة بفعل فورة عاطفة العشق التي تعيشها وتدفع ثمنها كما كان حال والدتها. ويحمل الاسم الذي تحمله شخصيتا سلطانة وريحانة دلالة خاصة توحي بحقيقتهما والحالة التي تمثلها كل منهما في الرواية، لاسيما أن ريحانة تتركها الكاتبة دون اسم حتى يطلقه عليها حبيبها أثناء حالة الوصال التي يعيشاها لأول مرة. وإذا كان الواقع يعيد إنتاج ثقافته ومعاييره الأخلاقية، فإن ذلك لا يحول دون ظهور حالات الحب على الرغم مما تمارسه القرية من محاولات منع ظهوره خوفا منه على حياة بناتهم، على الرغم مما تخلقه تلك العلاقة من تحول في حياة السكان وعلاقاتهم ومشاعرهم، الأمر الذي يجعل الرواية تبدأ بعنوان الأحمر كناية عن القتل وتنتهي به للدلالة على سطوة الواقع واللعنة التي يمثلها في ثقافة هذا الواقع عبر طقس القتل المرعب للمرأة بوصفها رمزا للعار “بكت القرية، بكى العالم كل شيء عاد ليصبح أحمر، الأغصان العشب، السماء، الجدران، شجرة الزيزفون.. كله أحمر! إنه الهيجان الأحمر، الغضب الأحمر”. تضيف الكاتبة إلى المتن السردي ملحقا خاصا بقضايا الشرف للإضاءة على رعب هذا الواقع الماثل وبيان الدوافع التي قادتها لجعل هذا الموضوع مادة لروايتها. تنوس لغة الرواية بين التقريرية والشاعرية ويغلب عليها طابع التعليق والشرح ما شكل تراخيا في حركة السرد وتناميه وجعل الوصف والشرح يغلب على حركة الأحداث التي ظلت في إطار تلك الثنائية التي تحكم عالم الرواية وحكتها، والمتمثلة في ثنائية الحب والقتل.. الأحمر والأخضر، تفجر الحياة وتجددها، مقابل موتها وجدبها، حيث تتحول الطبيعة إلى عنصر مشارك يمنح تلك العلاقة بعدها الأسطوري الجميل.