قراءتان في نصفي الكوب
انتخب، الأسبوع الماضي، المنصف المرزوقي رئيسا جديدا للجمهورية التونسية، وأدى بعد انتخابه القسم القانوني وتولى مهامه بشكل رسمي.
والمنصف المرزوقي هو في الأصل طبيب، وهو أيضا مناضل سياسي اعتقل وسجن في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، كما أنه مفكر وكاتب، وقد نشر العديد من الكتب باللغتين الفرنسية والعربية، وآخر كتاب صدر له “إنها الثورة يا مولاي”، وقد صدر الشهر الماضي في تونس. وبمناسبة انتخاب المرزوقي رئيسا لتونس، ننشر في ما يلي جزءا من أحد فصول كتابه الجديد. وهو يلقي ضوءا على فكره وبعض مواقفه السياسية، ومحطات من سيرته النضالية:
منذ كشف الدكتاتورية عن وجهها ابتداء من سنة 1991 والقمع الذي طالني كآلاف التونسيين لم يتوقف يوما. كم كانت شرسة صعبة وخطيرة المواجهة مع الاستبداد في إطار الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي ترأستها من 1989 إلى 1994 والمجلس الوطني للحريات من 1998 إلى 2000 أو المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أسسته مع نخبة من أصلب المناضلين سنة 2001. لا أذكر كم من مرة أوقفني البوليس السياسي ولا كم مرة أحلت على حاكم التحقيق ولا حتى التهمة التي وضعوني بموجبها في الحبس الانفرادي أربعة أشهر ولا عدد رسائل التهديد بالقتل ولا عدد المرات التي خربت فيها سيارتي لوضع موتي على حساب حادث مرور. لكن القمع بلغ مستوى لا يطاق في 2001 بعد طردي من منصبي كأستاذ في الطب بكلية “سوسة” ومنعي من السفر والحكم عليّ بسنة سجن مع تأجيل التنفيذ وسرقة شبه سيارة كانت تضمن لي بعض الحركة ومحاصرتي في بيتي في إقامة جبرية غير معلنة. لحسن الحظ أجبر ضغط مؤسسات المجتمع المدني الدولي السلطة على تركي أرحل لفرنسا حيث عرضت علي جامعة بباريس 13 منصب أستاذ مدعو وقبلت العرض حتى لا أثقل كاهل من تكفلوا مشكورين سنين الجمر بإعانتي وأولهم شقيقي مخلص. إلا أنني أصررت على عدم طلب اللجوء السياسي تمسكا بحقي في وطني. هكذا عدت رغم سنة السجن المعلقة في 2004 بمناسبة الانتخابات الرئاسية لأندد بها من الداخل فوقع إيقافي في المطار واستنطاقي مطولا وأعلمت بفتح قضية جديدة ضدي طبقا لقانون... الإرهاب.
نداء ومضايقات
بعد شهرين من المحاصرة التامة اكتشفت عبث الصراع غير المتكافئ، فقرّرت العودة للمنفى وانتظار تحرك الساحة. خلت أنّ الفرصة سنحت بمناسبة انعقاد قمة المعلومات للأمم المتحدة سنة 2005 وإضراب الجوع الشهير الذي ولدت منه مجموعة 18 أكتوبر. تكرّر السيناريو نفسه: محاصرة وشلل تام وعودة لباريس بعد شهرين أجرّ أذيال الخيبة. يومها بدا لي واضحا أن الكابوس الذي تعيشه تونس لن ينتهي إلا باجتثاث النظام الحقير من جذوره وان الأمر لن يكون إلا بمقاومة المدنية حيث لا سبيل للإصلاح والمقاومة المسلحة دواء أخطر من الداء. ومنذ تلك السنة بدأت الكتابات عن هذه المقاومة المدنية والدعوة لاعتمادها كحل وحيد للتعامل مع النظام الاستبدادي العربي في تونس وفي بقية أقطار الأمة الرازحة تحت ككل الاحتلال الداخلي. كان بديهيا أن مثل هذه الدعوة لا قيمة لها وأنا في الخارج ومن ثم قراري بالعودة لتونس للدفاع عنها. اغتنمت فرصة دعوتي من طرف قناة “الجزيرة” في برنامج “ضيف المنتصف” لأعلن يوم 24 أكتوبر 2006 عودتي لتونس، وأطلقت نداء حارا للشعب بالانخراط في المقاومة المدنية بهدف إنهاء الدكتاتورية وأعلنت أنني سأعود لتحمل مسؤوليتي حتى لا يعتبر الأمر مجرد تحريض سهل لإنسان يعيش بأمان في الخارج. يومها استشاط الديكتاتور غضبا فقطع العلاقات الديبلوماسية مع قطر لطيلة سنتين. عشية الرجوع تسلم شقيقي استدعاء باسمي لحاكم التحقيق وكان واضحا أن السلطة تهددني بالاعتقال حال نزولي من الطائرة لكنني أصررت على رفع التحدي وكلمت من مطار باريس المحامين ليزورونني في السجن. كانت المفاجأة في انتظاري حيث لم يستقبلني إلا الأصدقاء وبعض الصحافيين ومنهم من سألني بخبث عن مشاعري تجاه رحابة صدر السلطة التي لم تعتقلني. وكان واضحا انها فهمت إنني لا أخشى السجن، ولكن انتقامها سيتخذ شكلا قد يكون أخطر من السجن. وهذا ما تمّ فعلا ففي أول يوم خرجت فيه من بيتي في سوسة لقضاء شؤوني فوجئت بمائة شخص على الأقل يحيطون بي في الشارع ويهددونني ويشتموني ويبصقون علي ولم ينقذني منهم إلا حماية إبن أختي رياض البدوي وتدخل الأخ إبراهيم بن حميدة الذي اختطفني من بين أيديهم ورماني بسيارته وشق صفوفهم ليحميني من شرّهم.
تكرّر نفس المشهد في مدينة الكاف حيث انطلقت صباح يوم ممطر من العاصمة مع سمير بن عمر وسليم بوخذير نرافق سامية عبو في زيارة لزوجها محمد عبو المسجون في تلك المدينة. يومها كانت دوريات البوليس توقفنا على الطريق كل خمسة كيلومترات وفي الأخير قالوا لنا السيارة محجوزة لسبب ما، فقلت لهم احتفظوا بها سأواصل على القدمين ففغروا أفواههم من الدهشة وهم يشاهدونا أنا وسليم بوخذير ننطلق تحت المطر في جبال المنطقة لمحاولة الوصول لمدينة مازالت تبعد خمسين كيلومترا. بعد ساعة من المشي لحقتنا السيارة بعد إطلاق سراحها وكنا نظن بسذاجة أنهم سيتركوننا نصل مدينة الكاف وتنزل سامية لزيارة زوجها ونكتفي نحن بانتظارها أمام السجن في وقفة رمزية... فما إن وصلنا للكاف حتى أحاط بنا عشرات المنحرفين ضربا بالعصي وبصقا فالتجأنا للسيارة لكنها كادت أن تكون لنا كفنا وخيل لي لحظة أنها النهاية والسيارة على وشك أن تنقلب بنا والعصي تتهاطل عليها والبلور ينفجر في وجوهنا. فجأة توقف كل شيء وكأنّ البوليس الذي كان يصور الحادثة أعطى الإشارة وقد تجاوز عنف “الشعب الغاضب من الخونة” كل الخطوط الحمر. لا أدري بأي معجزة أوصلتنا سيارة مهشمة إلى تونس وكنا طوال طريق العودة صامتين لا ندري كيف نخاطب بعضنا البعض بعد الهول. عشنا قرابة ساعة أطول من قرن...
استهدفني أوباش السلطة بنفس الكيفية في جنازة حمادي فرحات بمدينة هرقلة والأخطر من هذا ارتماء فتاة محاطة بمجموعة من الرجال على أحد مرافقي هو المحامي طارق العبيدي تتهمه بالتحرش الجنسي، لكن احد هؤلاء الرجال نبهها بصوت سمعه الجميع أن المرزوقي هو أنا فتوجهت لي الفتاة بنفس الصراخ، فانفجر بالضحك أصدقائي وحتى أعوان البوليس السياسي... كيف يمكن ممارسة السياسة مع ديكتاتور هذه أساليبه ذلك هو السؤال الذي كنت لا أتوقف عن طرحه على كل المتشدقين بضرورة “الاعتدال والمشاركة البناءة” في المهازل الانتخابية التي كان بن علي ينظمها كل خمسة سنوات على أمل سخيف ب”توسيع رقعة الحريات” متمسكين إلى ليلة سقوطه بأفضلية خيار الإصلاح على “التطرف” الذي كنت متهما به أنا ورفاقي في المؤتمر من أجل الجمهورية.
خيبة وشماتة
يا لخيبة الأمل! كنت أتصور بسذاجة لا اقدر إلاّ اليوم عمقها أن إطلاق نداء مقاومة المدنية والعودة للبلاد للانخراط فيها ولما لا قيادتها سيفجر الوضع وتنزل الجماهير للشارع وتطرد المجرم الأكبر. بالطبع لا شيء من هذا حدث وبقيت الناس تتفرّج عليّ والمنحرفين الذين أطلقهم النظام ضدّي يهاجمونني كلّ مرّة اخرج فيها إلى الشارع. الأدهى والأمر الحصار الذي ضربته حولي جلّ الطبقة السياسية ـ خاصة التي اختارت الإصلاح ـ ولسان الحال يقول يا لشماتتنا فيك أنت الذي جئتنا لتنغّص علينا وتلعب دور البطل.
السؤال قل الهاجس الذي أرّقني أشهرا طويلة كان: أين أخطأت الحساب؟ بداهة كان واضحا حتّى لمن لا يريد أن يرى وأن يسمع أن تونس تعيش تحت نظام عصابات حق عام تسرق أموال التونسيين في وضح النهار ولا تستحي... إننا أمام نظام لا يصلح ولا يصلح... إننا أمام نظام يغطي بأكاذيب لم تعد تنطلي حتى على أكبر المغفلين على انهيار التعليم والثقافة والأخلاق... إنّ كذبة المعجزة الاقتصادية استنفذت كل مفعولها والغلاء والفساد يطحن كل طبقات الشعب، وأنه لا جدوى ولا أمل من انتخابات محسومة سلفا... إنّ لم يعد في هذا الوطن المحتل بالجيوش البوليسية الجرارة للطاغية إلاّ أملا واحد هو الثورة. كان التشخيص سليما وكان خيار الدواء أيضا صائبا لكن كان واضحا أنّ “الطبخة” لم تنضج بعد كان من الضروري التغلب على مشاعر الإحباط واليأس.
هكذا عدت للكتابة في محاولة لتعميق مفاهيم عديدة كنت أعمل عليها باستمرار: نحن نعاني من الاحتلال الداخلي، أملنا الاستقلال الثاني يجب ترسيخ المواطنة ولا الوطنية، نعم للانتماء العروبي لا للقومية، الاتحاد العربي للشعوب الحرة هو الحل وليست الوحدة العربية في صيغتها القديمة، الديمقراطية آلية للافتكاك والتحسين وليست وصفة جاهزة للنقل، الديمقراطية التي لا تضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا تساوي شيئا. كانت كل كتبي ممنوعة ومحاصرة ومن ثمة تحايلي على الرقابة العربية بنشر تشخيصي للنظام العربي الفاسد وتعريضي الدائم لإسقاطه على شكل مقالات نشرتها “الجزيرة ـ نت” مشكورة من 2006 إلى لحظة اندلاع الثورة العربية في 17 ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد بالقطر التونسي. كان الحطب اليابس مكدّس في كل مكان، لكن الشرارة لم تكن الدعوة التي أطلقتها ولا كانت حتى حالات الانتحار الكثيرة ومنها بإضرام النار في النفس. كان علينا أن ننتظر جميعا استشهاد محمّد البوعزيزي لتلتهم النار الحطب وأن ينتشر الحريق إلى كافة أرجاء الوطن العربي.
كيمياء غريبة
ما الذي جعل هذه الحادثة دون سواها هي التي تفجر الأمر؟ مؤكد أنّ السؤال سيعرف آلاف الأجوبة ولا واحدة قادرة على إن تفرض نفسها. كان هنالك كيمياء غريبة في الثورات تجعل حادثا يبدو بسيطا في لحظة تبدو كمثل كل اللحظات هو الذي يطلق مفاعلة جاهلة الإدارة الواعية بدفعها ولم تنجح. كانّ هنالك داخل الوعي الجماعي لهذا الكائن الجبار المسمّى الشعب حسّ يقدّر متى يجب الانتفاض. قد لا نعرف أبدا السرّ أي كيف تفاعلت كل المعطيات داخل الوعي الباطني للتونسيين، ثمّ للعرب لكي ينفجر البركان. كنّا قلّة ممن كانوا يندّدون لا يغرّنّكم صمت البركان هناك أكثر من مؤشر يدلّ على انّه سينفجر عاجلا ام آجلا. أخيرا انفجر وحصلت الثورة التي تعصف هذه الأيام مشرقا ومغربا ولا احد قادر على التنبؤ بما ستؤول إليه.
يا لمشاعر الاعتزاز والفخر التي داهمتني وأنا أحط على أرض المطار في تونس الذي عوملت فيه طيلة ثلاثة عقود كشخص مشبوه فإذا بي أحمل على الأعناق. عنون أحد الصحافيين مقاله عن الاستقبال الرائع: عاد ورحلوا. نعم عدت ورحلوا عنه بل قل فرّوا منه أو قل طردوا منه شرّ طردة أو قل تقيؤهم الشّعب هم الذين كانوا يتأهبون للتمديد والتوريث.
ما الذي يمكن أن نقوله عنها في هذه اللحظة بالذات وهي منتصرة في تونس ومصر، وهي تتعثر في ليبيا واليمن والبحرين، هي وتتهيأ في باقي أقطار الوطن لكنس نظام سياسي مات في العقول والقلوب منذ سنوات ونحن ندفنه اليوم منا، وهناك غير مأسوف عليه بداية نقطة نظام. ثمّة من يستعملون مصطلح الثورات العربية وهو أمر لا يجوز، حيث لا مجال للحديث إلا عن الثورة العربية بالمفرد، فمما لا جدال فيه:
ـ إنّ أسبابها واحدة وهي تسلّط الفرد وفساد أهله، وحكم الأجهزة البوليسيّة وخصخصة مؤسّسات الدولة لخدمة الأفراد والعصابات بدل خدمة الوطن والشّعب.
ـ أنّ أهدافها واحدة، حيث لم يرفع احد مطلب بناء دولة العمال والفلاحين أو إقامة الخلافة، وإنما اتفقت كل الشعوب على الشعار الذي رفع في تونس وصنعاء والمنامة والقاهرة وبنغازي “الشعب يريد إسقاط النظام “ وعلى مطلب مجلس تأسيسي ودستور يضمن بناء الدولة المدنية والمجتمع الحر ويقطع نهائي مع الاستبداد.
ـ أنّ وسائلها واحدة فكلّ الانتفاضات كانت سلمية حتى وان ووجّهت برصاص المجرمين.
ـ إنّ طبيعتها واحدة: شعبيّة، مدنية، شبابيّة، بلا قيادة مركزية ولا أيدولوجيا.
أمام هذه القواسم المشتركة أيّ أهمية لفوارق طفيفة؟ ليكفّ إذن البعض عن استعمال مصطلح الثورات العربية، فالأمر إما خطأ غير مقصود وإمّا موقف وإصرار واع على تجزئة امتنا ولو على صعيد التسميات، كما تفعل الإدارة الأمريكية عندما ترفض للأمة وجودها متعاملة مع “الشرق الأوسط” و”شمال إفريقيا”.
مستقبل الثورة
حتى وإن كانت الثورة لا تشمل لحظة كتابة هذا النص إلا ثلث الأمّة إلى أين تتجه الثورة وماهو مآلها على الأمد القصير والمتوسط والبعيد؟
يمكننا التوقع بانّ أثارها ستنتشر خارج حدود الوطن وما عصبية الحكومة الصينية إلا الدليل على توسع دائرتها إلى حيث لا نتوقع. الثابت أنها ستمتد إلى كل أقطار الوطن، ولكل من يحاول مغالطة نفسه في المغرب وسوريا أو الجزائر باستقرار نظامه إن يتذكر أن النظام التونسي والمصري والليبي، كان كل منهم هو الآخر”مستقرا”. كم صدّقت هانا ارندت الفيلسوفة الألمانية عندما قالت: خاصية الديكتاتورية ان كل شيء فيها يبدو على ما يرام إلى حد الربع الأخير من الساعة الأخيرة.
لنتأمل بعض الثوابت التي تتردد عبر التاريخ حتى تكاد تكون قوانين. قرابة قرن قبل أن تحقق أهداف الثورة الفرنسية والأمر ليس شاذا وإنما قاعدة وان تباينت مدّة الجزر وتوقيت عودة المد. لا تقوم ثورة إلا وقامت لها ثورة مضادة. ومن يفقدون السلطة لا يتبخرون ولا يذوبون كالسكر في الماء وإنما يتراجعون خلف الستار للتآمر على قلب النظام الذي انقلب عليه، وإن عجزوا عن الأمر بذلوا كل ما في وسعهم لعرقلة المسار الثوري وتشويهه... ولكل ثورة ثمن باهظ.
وبغض النظر عن القوى الهدامة التي تحركها الثورة المضادة، فإن هنالك في الثورة نفسها قوى جبارة تدفع للفوضى والعنف وعدم الاستقرار. فلا بدّ بالنسبة للثوريين من مجابهة الأعداء بالمقاصل والمشانق والسجون وآنذاك تعود الآلة الجهنمية للقمع السياسي إلى العمل مع كل مضاعفاتها الكلاسيكية ومن أولها الالتفاف على الثوريين أنفسهم.
الثوار ليسوا من يجنون ثمار الثورة. بعد الثوريين يأتي عهد الانتهازيين وبعد الملحمة يأتي عهد خيبة الآمال، إذ يعود فقراء سيدي بوزيد إلى فقرهم ويعود سكان المقابر في القاهرة لمقابرهم . فلا حلول جذرية لمشاكلهم وإنما كثير من الوعود التي قد تتحقق وقد لا تتحقق، أما من ينغنم الغنيمة الكبرى ففي حالتنا هي البرجوازية التي كانت تتنعم تحت الاستبداد بمستوى مادي مقبول.
لا تعجل عليّ باللوم فهذه قراءة النصف الفارغ من الكأس. والكن لرفع المعنويات هذه قراءة النصف الملآن وفيها المنجزات الثلاث العظمى للثورة العربية، وهي لم تتجاوز بعد شهرها الثاني.
الإنجاز العظيم الأول هو إعادة بناء الإنسان العربي. فجأة وبدون مقدمات ـ أو هكذا يبدو ـ قطع الإنسان العربي مع حقبة كان فيها رعية لراع. لسائل أن يسأل أين ذهب ذلك العربي العاجز الجبان الرعديد المحبط السلبي ومن أين خرّج هذا الشباب الثائر بكل شجاعته ووقاحته وتحديه؟ قد تكون الإجابة أن شطط النظام الفاسد في القمع والفساد والتزييف والاحتقار وضع الإنسان العربي أمام تحدّ وجودي: أكون أو لا أكون، قرر أن يكون ونظرا لموازين القوى اختار أن يسكت دهرا مستبطنا وفكرا ومقيما لحظة الانقضاض على جلاده وكان الأغبياء يأخذون طول ترقّبه بهم على انه استكانة نهاية واستسلام شامل.
الإنجاز العظيم الثاني هو إعادة بناء الشعوب العربية. لا تعيش الديكتاتورية إلا إذا نجحت في خلق غبار من الأفراد يخافون منها ويخافون من بعضهم البعض، ويمرّ الأمر بمنع كل تواصل لا تتحكم فيه الديكتاتورية ذلك ما حاوله استبدادنا البغيض، لكن الثورة صهرت في بوتقتها الأفراد المعزولين عن بعضهم البعض وخلقت منهم مجموعة بشرية متلاحمة تثق في بعضها البعض وتواجه الموت جنبا لجنب، لفرض حقها في العيش الكريم. الأخطر من هذا إن هذه المجموعة التي نحتها لهيب الثورة اكتشفت قوتها وإنها قادرة على سحق الطغاة وكنسهم كما لو كانوا كدسا من القاذورات.
ثمة اليوم وعي عميق عند المواطنين أنهم قادرون على قلب النظام ووعي لدى النظام إن المواطنين لم يعودوا رعايا وإنهم قادرون على قلبه. لأول مرة ربما منذ بداية تاريخنا السياسي تغير موازين القوى داخل العقول والقلوب
الإنجاز العظيم الثالث هو إعادة بناء الأمة العربية. لنتذكر إن الديكتاتورية بغضت العربي في العربي باصطناعها خصومات الجزائري ضد المغربي والكويتي ضد العراقي واللبناني ضد السوري الخ.. والحال أنّها لم تكن إلا معارك بين أنظمة شرسة وغبية تتخاصم حول تقاسم النفوذ الشخصي دون أدنى انتباه للمصلحة العامة. هي بغضت للعربي حلم الوحدة العربية عندما ربطته بهذا النظام الاستبداديّ أو ذاك. هي جعلت كل عملية تقارب مستحيلة لان الدكتاتوريات لا تتحد وإنما تتحارب وكلّ دكتاتور لا همّ له إلا منع الديكتاتور الآخر من التعدي على مزرعته وقطيعه. الأخطر من هذا كله أنها بغضت العرب لأنفسهم وهم يشاهدون تفككهم وعجزهم وتخلفهم وتواصل مأساتهم في ظل الاحتلال الداخلي والخارجي.
هذا ما سيعيد ترتيب شؤون العالم بكيفية لم يحسب لها كبار المخططين حسابا منذ ثلاثين سنة وتحديدا منذ سنة 1981، صدر لي في تونس أول كتبي وعنونته “لماذا ستطأ الأقدام العربية أرض المريخ” تحديدا لكل من يحتقرون أمّتنا سواء أكانوا من أبنائها أو من أعدائها ودعوة للإيمان بما تزخر به من طاقات جبّارة ستنفجر عاجلا أو آجلا. صحيح إننا معرضون لأخطار الفوضى والثورة المضادة وعودة الاستبداد مرة أخرى وطول الآجال لتحقيق أهدافها لكن صحيح أيضا أننا اليوم قاب قوسين أو أدنى من هذا المريخ الذي بدا لنا يوما أملا حتى الحلم به جسارة مضحكة: مريخ الحرية والديمقراطية، والتقدم، ولما لا في يوم من الأيام، المريخ الكوكب نطأه بأقدامنا وليس فقط بأحلامنا، وقد أصبحنا كما كنا، أمة لا تضحك من جهلها الأمم.
الأشراف واللصوص
كبار النفوس وكبار اللصوص: السؤال: أين يكمن الاختلاف بين النوعين من الحكام اللذين يفرزون وتفرزهم المدرستان وما تأثيره على مصير الشعوب؟ الخاصية الرئيسية لحكام مثل مانديلا وديجول وعبد الناصر أن لا أحد وضع يده يوما على درهم من المال العمومي. لا أحد منهم جعل من أفراد عائلته أصحاب رؤوس أموال ومضاربين يتصرفون في الأموال الطائلة. لا أحد منهم استغلّ منصبه لكي يوزّع الثروات على من يناصره سياسيا. لا احد منهم هرّب أمواله الشخصية للخارج أو ملك فيه أجرة. كلهم اعتبروا أنفسهم حرّاس المال العمومي. كلهم استنكفوا أن تظن بهم الظنون فبالغوا لدرجة التي وصلها ديجول وهو يرفض أن يتلقى أجرا كرئيس جمهورية وكان يدفع من جيبه ثمن غداء عائلته عندما تزوره في قصر الإليزيه. من لا يعرف أن عبد الناصر مات مدانا وأن ابنته لم تصبح مليونيرة ولا ابنه؟ يتصادف أني خصم لبورقيبة أبا عن جد، لكنني اعترف بأنني ذهلت يوم مات الرجل وذهبت للعزاء ففوجئت بجثته ملفوفة في العلم وسط ساحة بيت لا يختلف عن بيت أي عائلة تونسية من الطبقة الوسطى. لهذه الأسباب يمكن تسمية هذا النوع من القادة كبار النفوس لأنهم وضعوا أنفسهم فوق كل المغريات المادية للسلطة وأعطوا في مجتمعات الناس دوما فيها على دين ملوكهم، فحوى لقيم النزاهة والإخلاص وحب وطن أحبوه كما يحب الأب أبنائه أي بقلوبهم لا كمن خلفوهم الذين أحبوه ولا يزالون على طريقة حب الشرهين للدجاج المحمّر أي بأشداقهم وأسنانهم. هؤلاء الناس ـ اللذين لا تجدهم إلا عندنا وفي إفريقيا جنوب الصحراء وبعض الديكتاتوريات المتخلفة هنا وهناك ـ هم على عكس كبار النفوس مهووسون بما توفره السلطة من نرجسية وملذات. هم يسرقون أموال الشعب الفقير ويوزعون الشركات على عائلاتهم ويملكون المعروف وغير المعروف من المباني والحسابات البنكية داخل الوطن وخارجه وربما أقصى طموحهم أن يملكوا طائرة خاصة فيها مسبح وجاكوزي ولم لا ملعب تنس.
أضف لهذا أنهم يريدون البلاد كلها تركة يرثها أبنائهم. لذلك ليس من باب التجني وصفهم بكبار اللصوص، فأي وصف آخر لمن يضعون أيديهم على أموال طائلة هم المؤتمنون عليها وتدبروا أمرهم للإفلات من العقاب بوضع اليد على أجهزة الدولة جاعلين من البوليس جهاز حماية أكبر اللصوص ومن القضاء جهاز تتبع صغار المجرمين للتعمية على انه حامي أخطرهم.
إن خطر الفساد ضربه للدعامات غير المنظورة التي يرتكز عليها كل مجتمع أي القيم. أي مصير لقيمة العمل في مجتمعاتنا والناس ترى بأم عينيها أن صاحب الدكتوراه عاطل جائع والقريب من السّلطة يصول ويجول في أفخم السيّارات وهو لم يدخل مدرسة ثانوية؟ أيّ قيمة للعدالة والأمن والاستقرار وكل هذه الكلمات التي عافتها الآذان لمعرفتها بما تخفي وراء جعجعتها؟ كيف يمكن لمجتمع أن يحافظ على كيانه وأن يتقدم وهو يعلم أصدق العلم أن من يحكمونه كبار اللصوص وليس كبار النفوس؟
الخاتمة والبداية
حديث الساعة والثورة تدخل في شهرها الرابع، تفجّر أحداث العنف في العاصمة وآخر مظاهره مشادّة بين أحياء في المدينة العتيقة. وخارج تونس ليس الوضع بأحسن فالسلطة تفرض حظر التجول في مدينة المظيلة، بعد وقوع جرحى وقتيل في معارك بين حيين. واليوم تأتينا الأخبار بمواجهات بالغة العنف بين أبناء مدينة جلمة وحي باب الجزيرة في تونس. من أغرب ما سمعت في هذا السياق مشادّة داخل مدينتي دوز وكأن النعرات القبلية القديمة تحركت بين عشية وضحاها. ولاكتمال الصورة تقرأ في الصحافة أن جمهور نادي كرة قدم (الزمالك) هاجم الفريق التونسي (النادي الأفريقي) وبطش باللاعبين التونسيين الذين لم ينقذ حياتهم إلا الجيش. وكنا نعتقد بسذاجة أن الشعب المصري سيتلقى بالأحضان أبناء الشعب الشقيق، وأن المباراة ستكون فرحة انتصار الشعبين في ثورة قادها البلدان بتنسيق لم يعرف له مثيل. كلّ هذا في إطار نفجّر المطالب المشروعة وغير المشروعة، والتي من مظاهرها الاعتصامات المتواصلة وقطع الطرق وطرد كل مسؤول والتطاول على كل مظاهر السلطة ولو كانت سلطة الآباء والمربين، مع تبعات مثل هذه التصرفات على اقتصاد تعطلت كل دواليبه، الشيء الذي ينذر بتفاقم الأسباب التي أدّت إلى الثورة. حدّث ولا حرج عن كلّ هذه الأحزاب التي تتكاثر كالفقاع يوما بعد يوم وعن كل هؤلاء الزعماء الذين برزوا من تحت الطاولة مهددين بكثرتهم بشلّ كلّ المشروع السياسي، حيث لم يعد للمواطن المسكين أي قدرة على التفريق بين الغثّ والسمين.
هل سنتحسّر نحن أيضا على عهد الاستقرار والأمان الذي كنا نعيش في ظله قبل اندلاع الثورة التي سيكف الكثيرون عن وصفها آليا بالمباركة؟ وهل سنتذكّر فجأة كم كان انهيار الدكتاتورية مكلفا لشعوب البلقان وكيف أن مئات الآلاف قتلوا في الحرب الأهلية التي تبعت تفكك النظام الشيوعي في يوغسلافيا؟ كأنّني أسمع عبارات التشمّت: الآن تأتينا بهذه الملاحظات بعد أن أشبعتنا أنت وأمثالك خطابا غير مسؤول عن ضرورة الثورة..الآن انتبهت إلى أننا لم نكن ناضجين ولا حتى جديرين بالديمقراطية التي صدعت رؤوسنا ربع قرن بالدعوة إليها.
مهلا يا متشمتين، وانتم يا أنصار الثورة السلمية كفوا عن تحميل فلول البوليس السياسي والحزب البائد كل مشاكل المرحلة، حتى وان كان لهم فيها ضلع. لقد نسيتم جميعا جملة من الحقائق الثابتة آن الأوان استحضارها...
كنت أستفز ذكاء الطلبة لأكتشف ما أقصد بالحرف الأول وكان أذكاهم ينتبهون بسرعة إلى أنه يعني إنجازات أي ما يحققه تنفيذ البرنامج من إيجابيات على صحة الأفراد والمجموعات. بعدها كان من السهل على الجميع الانتباه إلى أن حرف س يشير إلى السلبيات المحتملة للبرنامج، وكان الكثير منهم يغفلون بسبب كمها عن العديد من المشاكل المختفية وراء الإيجابيات مثل التكلفة الباهظة أو صعوبة التنفيذ لآلاف عام وعام وحتى عن ظهور مشاكل صحية في شكل آثار مرافقة للعلاج. كنا مثلا نناقش تبعات حملة توعية صحية بالتلفزيون في ميدان مرض نقص المناعة المكتسب. وكنت أدفع الطلبة للتفكير في مضاعفات مثل هذه الحملة وكيف أنها في الوقت الذي تعلم فيه البعض الوقاية من المرض فإنها تتسبب في انتشار الخوف والقلق والريبة بين المواطنين وبعد استعراض مدقق لهذه السلبيات كان بديهيا أن متحيل إلى ردود الفعل على هذه السلبيات أي إلى طريق مقاومتها المؤدية إلى إفشال برنامج لم نر في البداية سوى حسناته.
أغلب خياراتنا في هذا العالم خاضعة لتحليل إ. س. م. حيث لا وجود لحلول شاملة ومطلقة لمشاكل بالغة التعقيد والتداخل، كالتي بين أيدينا إن أكلت التفاحة كان الإنجاز المتعة والصحة وأول السلبيات نهاية التفاحة، ومن بعض ردود الفعل المحتملة الإسهال إن كانت ملوثة بالجراثيم. مما يعني، أحببنا أو كرهنا، إن الديمقراطية ليست حل شامل مطلقا لكل مشاكلنا. هي أيضا تولد سلبيات كالتي نعيشها اليوم عبر مظاهر الفوضى، أو التي تجربها أعرق الديمقراطيات حيث نرى الفساد والديماغوجيا وعزوف الناس عن التصويت وكظهر من مظاهر رد الفعل تظهر فيها الأحزاب اليمينية وكلها حركات تتخفى بالديمقراطية ولكنها تنظيمات استبدادية فكرا وروحا.
علينا الاعتراف بأن للاستبداد إنجازات منها لجم العنف داخل مجموعات بشرية كأنها جبلت على حب النزاع، ومنها أيضا أنه يفرض الانضباط على من يفهمون أن حريتي تتوقف حيث تبدأ حرية الآخر. نحن نرى في الصين على شحذ طاقات أمة جعل منها ثاني اقتصاد في العالم وغدا ربما الأول. لكن من يتمعّن في سلبيات مثل هذا النظام يكتشف كما اكتشفنا كل الموبقات والفظاعات التي تغطّي عليها الإنجازات. ولولا أنّ ثمنها قد تجاوز آلاف المرات المقبول عند المجتمع، لما قامت مقاومة لها. تلك المقاومة التي نراها في مواجهة أفراد وجماعات معزولة في البداية، لكنها ستنتهي حتما إلى ثورة عارمة.
قد يحلو للبعض من السذّج أو الخبثاء أن يطلعوا علينا بنظرية الديمقراطية الاستبدادية. عدا صعوبة التوفيق بين الماء والنار فإنه علينا مواجهة الواقع لا محاولة التحايل عليه. والمواجهة تقتضي أن نقبل بكل الفوضى الحالية إذ لا مناص منها. لنثق إذن في خيارنا الديمقراطي ولنقبل بكل وعي بنواقصه وعيوبه وحتى بأخطاره، لأنها ثمن بخس لأثمن ما يطمح له إنسان ومجتمع: الكرامة للمواطن والسيادة للشعب والشرعية للدولة.
الكتاب: إنها الثورة يا مولاي
المؤلف: المنصف المرزوقي
الناشر: الدار المتوسطية للنشر