عز الدين عناية
كيف نعي الغرب ثقافيّاً؟ سؤال مركَّب تبدو الإجابة عليه ضاربة في عمق التاريخ وممتدّة على مساحة الجغرافيا الجامعة والمفرّقة بين عالمين. ولذلك تنبني الإجابة على هذا السؤال الإشكالي وسط تفاعلات شتّى: تدافعاً وتعايشاً، تقابساً وتنافراً، تقارباً وتباعداً. فكلّما عاد المرء إلى سؤال المثاقفة بين العرب والغرب، بحثاً عن إجابة شافية، اختلطت عليه السبل وتضاربت لديه المقاربات. ومن ثَمّ يقتضي الإلمام بتمثّلات العرب في المخيال الغربي، والعكس أيضاً، اتّزاناً وهدوءاً للظفر بشيء من اللُّمع في رصد تلك العلاقة المركَّبة. فلا يفيد الفصل الحاسم المنطلق من نحن وهم، ضمن أحكام تجزم بالمغايَرة، لأنّ ذلك لن يزيد الموضوع إلا غموضاً وإيغالاً في الغرائبية. فكما يقول الأنثروبولوجي جيمس كليفورد في هذا السياق: «إذا كنّا نريد صياغة حقائق على هوانا، فالأحرى ألّا نبحث ونمكث في البيت».
عودة إلى غور الأشياء
لا شكّ أنّ الغرب، وأقصد الغرب الحديث تحديداً، كان سبّاقاً في سبر أغوار العرب، من معتاد عيشهم إلى بنى مؤسّساتهم التاريخية. بدا ذلك الشغف للتعرّف على العرب مع قسطنطين فرانسوا فولني، ثم لاحقاً مع إرنست رينان، بغرض الإلمام بالأعراف والعادات والمؤسّسات البنيوية المتحكّمة بالاجتماع العربي. لكن الجليّ في أعمال هذين الرائدين وغيرهما، أثرها القوي في طبع تصوّرات الأجيال اللاحقة. ففي منظوريْ فولني ورينان ثمة تصوّرٌ جامدٌ للتاريخ في بلاد العرب، وكأنّ حراك الزمن لا يعني هؤلاء القوم، فهم يسلكون في التاريخ الحديث مسلكهم في العهود الغابرة. تدعّمت تلك النظرة مع باحثين لاحقين أمثال ويليام روبرتسن سميث مؤلّف العمل الشهير حول بلاد العرب «محاضرات في ديانة الساميين» (1889)، وألويس موزيل في كتابه «أخلاق الرولة وعاداتهم»، المنشور سنة 1928. كما طغت الرؤية الفسيفسائية للعرب وطُمِست الروابط الحضارية الحقيقية بين تنوعات ممتدة من المشرق إلى المغرب، مما حوّل العرب إلى شظايا متناثرة في أعين الدارسين اللاحقين الباحثين عن لملمة تلك اللوحة المهشَّمة.
بالمقابل نحن العرب، عازت إطلالتنا المبكرة على الغرب تلك المسيرة العلمية اللازمة في سبر أغوار بناه الاجتماعية لمعرفة هويته العميقة. فغالباً ما كنّا نقنع بما يطفو على السطح، وبما يلفّه البريق ونفوّت في جواهر الأشياء. صحيح اتّصلنا بالفكر الغربي على مدى القرن الفائت، ولكننا تابعنا مسارات مرسومة، لم تسعفنا بصورة واضحة عن ذلك الغرب، ولم نوفق في بناء لوحة مكتمَلة عنه. كنّا ننبهر حينا وننفر آخر من هذا الغرب، لعدم احتكام رؤانا إلى أطر علمية توجّهها، أكان في التاريخ، أو الاجتماع، أو الأدب، أو غيره من حقول المعرفة. لم ننقل مناهج الغرب العلمية ونشفعها بالمراجعة، بل كانت جلّ نقولاتنا لا تتعدى الانبهار به وبإنتاجاته.
نزْعُ الأسْطرة عن الغرب
أردنا من هذا الاستهلال بيان دواعي الهاجس الملازم للفيف من الكتّاب العرب في الراهن المعاصر، والمتلخص في تساؤلات سلبية على غرار: لماذا يستهلكنا الغرب بالسوء في إعلامه؟ ولماذا لا يُترجمنا؟ ولماذا لا يبالي بنا ما لم نشكّل خطراً عليه؟ وهي أسئلة في واقع الأمر مطالِبة للغرب، لا أسئلة مسائِلة للذات، ماذا فعلتْ في هذا العالم المتلاطم بالمصالح والأفكار والأهواء، حتى تُدلّل على حضورها في التاريخ؟ فغالباً ما ننطلق في فهم الغرب من أحكام مسبَقة تستحوذ على رؤانا له، على غرار أن الغرب ماديّ ونحن روحانيون، وأن الأسرة فيه مفكّكة ونحن أُسَرنا متماسكة، وأن القِيم فيه منعدمة ونحن على خُلق عظيم، وغيرها من المقولات الجاهزة والمضلّلة، التي لن تزيد المرء إلا غشاوة عن بلوغ جوهر الأشياء.
فالغرب، كما يبدو للناظر البصير، هو كيان جَمعيّ طافح بما تطفح به سائر المجتمعات الأخرى من فضائل ورذائل، يسعى إلى زيادة فضائله وتنميتها بتوظيف المعرفة والعلم والتربية، ويسعى إلى محاصرة رذائله بما تيسّر له من ضوابط القانون والحسّ المدني والإعلام، وغيرها من الوسائل الحضارية. كما أنّ هذا الغرب ليس، كما نتصوّر أحياناً، كِياناً مفارقاً مطلقاً، لا يأتيه التحوّل من بين يديه ولا من خلفه؛ بل هو كيان خاضع لِسُنن التاريخ وتبدّلاته. فهو يرسم مساراته ويتعقّبها بالمراجعة والتقويم على الدوام، في الاقتصاد والاعتقاد، في المقدّس والمدنّس. فقد علّمه التمرّس بقِيم الحرية والنقد والديمقراطية، المستبطَنة في أحشائه، عدم الثبات على حال. فلا يعرف الغرب الإصرار والتعنّت، ولا يهوى القفز في المجهول، ولا يراهن على السراب، بل يقدّر الأمور حق قدرها، ويتصرف بتلك الحكمة العربية «يعقلها ويتوكّل». ومن ثَمّ يحتاج الوعي العربي إلى نقد ذاتي مع الغرب يخرجه من الأسْر الرؤيوي، على أمل بلوغ استراتيجية مثاقفة رصينة.
تمثّلات العرب في المخيال الغربي
لكن قبل الشروع في تلك المثاقفة المنشودة لِنحاول تلمّس تمثّل العرب في المخيال الغربي المعاصر، من خلال أنشطة مؤسساته وشواغل العاملين في هذا الحقل المتشعّب. نلحظ حضور العرب في العقل الأكاديمي الغربي ضمن مستويات متفاوتة، يهيمن فيها بشكل رئيس العنصر السياسي. فكلّما اهتزّت أواصر العلاقات بين العرب والغرب وحادت عن سيرها المعهود إلا وداخل تلك العلاقة الاضطراب، وانعكست بصورة مباشرة في قصف الإعلام. وغالباً ما تكون لأحداث الاضطراب مع الغرب، حتى وإن كانت جزئية، أو على صلة بواقعة معينة، أو ببلد محدّد، من القوة للتمدّد والانسحاب على مجمل الدول العربية الأخرى، لتصنع صورة سلبية جامعة حول العرب. فقد مثّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أبرز تمثلات تلك الصورة السلبية المعمَّمة على البلدان العربية في الأوساط الغربية.
لكن ذلك المستوى السياسي برغم ضراوته، وقوة تأثيره، وسرعة انتشاره، فإنّ هناك مَلمحاً آخر، لا يحظى رصده بمستوى العنصر السياسي، يتوزّع رصيده بين شرائح مثقّفة على تواصل بالحضارة العربية وبإنتاجاتها الثقافية، يمكن أن نُطلق عليه المستوى الحضاري. وهو غالباً ما يلعب دور المعدِّل والمهدِّئ لذلك التوتّر السياسيّ. لا يعني ذلك أنّ المستوى الحضاري، الذي نجده ناشطاً في الجامعات وفي مراكز الأبحاث وبين دوائر العمل الثقافي، يقف على نقيض ما يعتمل في العقل السياسي، ولكنّ نَظرَه هو أقرب إلى التريّث في الأحكام، وأقلّ اندفاعاً، وأكثر حرصاً على تفهم غور الأشياء التي تعتمل في الواقع العربي.
ففي الغرب توجد جموع هائلة من المنشغلين بالدراسات العربية وبالثقافة العربية، بَيْد أنّ العلاقات العربية معهم تلوح فاترة وعَرَضية ودون ما هو مطلوب. وقد كان من المجدي الاستثمار في هؤلاء المنجذبين طوعاً إلى حقول الثقافة العربية لتطوير ارتباطهم بالعالم العربي، وقد بات عددهم وافراً إذا ما نظرنا إلى حجم الدارسين والمدرّسين الغربيين في جامعات الغرب في أقسام الدراسات الشرقية والعربية فحسب. سيكون الاستثمار الثقافي عائداً بالفائدة على الطرفين لو توفّرت استراتيجية تثاقف، تمتدّ من الترجمة إلى إنتاج الأبحاث المشتركة وإلى تشجيع الطلاب الجامعيين لتعلّم العربية وغيرها من البرامج.
جغرافية المعرفة
ومع أنّ خريطة المنشغلين والمهتمّين الغربيين بالحضارة العربية خريطة متنوّعة، فإنّ تضاريسها مجهولة أكان للدارس العربي أو للإعلامي العربي في الداخل. لم ننتج دراسات وأبحاثاً فعلية تحلّل وتتابع هؤلاء المستعربين والمؤرخين والآثاريين فيما ينتجونه من معارف حول ثقافة العرب وحضارتهم. إذ تبدو الدراسات المقارنة من جانبنا، وعلم الاجتماع العربي في انشغاله بالغرب، والعلوم السياسية العربية الراصدة لمسارات الفعل السياسي الغربي غائبة عن هذا الدور. لقد دأبنا على لوم الغرب عن إهماله ترجمة أدبنا، وعلى تقصيره في الاطلاع على منتوجنا المعرفي، ولكننا لم نبذل جهداً في فهم الأسباب العميقة لذلك.
فغربٌ يرتاد جامعاته آلاف الطلاب لدراسة حضارتنا العربية بأبعادها المتنوعة، وتقريباً في غياب أي تعاون من جانبنا، أَوَلا يمثّل هؤلاء ثروة مهدورة لحضارتنا؟ فكم من الطلاب الغربيين يحصلون على مِنح تشجيعية من البلدان العربية لتعلم العربية لدينا؟ والصواب أن نستثمر في هؤلاء لترويج العربية وتوسيع دائرة الناطقين بها. إذ الواقع يقول إنّ لدينا مخزوناً من الجاذبية الحضارية في الغرب، لكن يغيب استثمارنا في هذا الرأسمال المهدور لأجل نشر السكينة والتفاهم والتثاقف بيننا وبين العالم.
فلا يكفي أن نكتب بلغتنا لنشر ثقافتنا في عالم بات معولَماً ومتقارباً بشكل كبير. وما علينا إلا أن نبادر بالشراكة مع مثقّفين غربيين في إنتاج المجلات الثنائية اللغة للتعريف بمنتوجنا الثقافي، وأن نرصد لها الدعم والتشجيع، فهي سبيلنا إلى مواكبة الحراك الثقافي العالمي. لأنّ الانزواء داخل هياكل ثقافية متقادمة وبأساليب بالية، قد بات لا يكفي. نقول ذلك لأن لنا من الرصيد الكافي لذلك، فخريطة المثقفين العرب الملمّين بالثقافة الغربية والمبدعين بالألسن الغربية المقتدرين على إيصال الصوت العربي بلغات الغرب المتعددة هم كثر؛ ولكن ترشيد الفعل الثقافي في ذلك المنحى يتطلّب مثابرة وتضحية وإيماناً بإنسانية ما نفعل. فلا يكفي أن نترجم أقصوصة من هنا أو رواية من هناك إلى لغة غربية لنحدّث النفس أننا حققنا فتحاً مبيناً في نشر الثقافة العربية. لا بد أن نحوّل فعل المثاقفة إلى عمل دؤوب ترعاه مؤسسات ويشرف عليه ساهرون، يؤمنون بأثر الفعل الثقافي الإيجابي على البشرية جمعاء. وفي هذا الانحباس الذي تعاني منه ثقافتنا لم نسائل أنفسنا برويّة: لماذا لغات أجنبية أقل حضوراً في أقسام الدراسات الشرقية في الغرب يُترجَم منها أكثر مما يُترجَم من العربية؟ فلطالما بحثنا عن أجوبة فورية ووجدنا مبرراً في تلك المقولات المعلَّبة: «الغرب يحتقرنا»، «الغرب يكرهنا»، «الغرب يخافنا»، «الغرب يعادينا»، والحال أن الغرب الذي نتحدث عنه هو غرب وهْمي اصطنعه مخيالنا العليل. فقد تحوّل الغرب إلى تكتّل كوسموبوليتي يطفح بشتى التنوعات الإثنية والثقافية والدينية، وبات لنا مساهمة في هذا الغرب المعولَم بعد أن انحشر في مكوّنه ملايين العرب. الجليّ أننا لم نخرج من دائرة العواطف إلى دائرة الوعي الموضوعي بالوقائع لفهم الأسباب الحقيقية لهذا الفتور الثقافي بيننا وبين ما نسمّيه الغرب.
وبالتالي لن يتسنّى لنا بناء مثاقفة فاعلة بين الضفتين ما لم نستشعر الحاجة الماسة إلى التعايش المشترك، أو بتعبير أوضح إلى العيش معاً، في عالم تقلصت فيه الحدود بفعل آثار العولمة المستشرية. فعالمنا اليوم بات أحوج ما يكون إلى مؤتلف ثقافي جامع. إن إنتاج كتلة ثقافية إنسانية تدافع عن العيش الثقافي المشترك بين العرب والغرب، وتقدّس مضامين الرأسمال الرمزي هو ما نحتاجه. فهناك حاجة من الجانبين إلى الاشتغال على الثقافة العوْلمية، بعيداً عن المركزيات القاتلة والحائلة من دون تقارب الحضارات.