سر الجنون والفنون
يقول المثل العربي الفصيح: «الجنون فنون»، وهذا الربط التعسفي بين الجنون والفنون ليس صحيحاً بالمطلق، صحيح أن بعض الفنانين الكبار يمارسون تصرفات غرائبية تعتبر شاذة عن المألوف والمعروف والمتعارف عليه بنظر الكثيرين، لكن هذا لا يكفي على الإطلاق من أجل ربط الجنون بالفنون – والعكس ليس صحيحاً أيضاً-، فالإنسان ليس نسخة كربون، وليس لدينا النموذج الأسمى لممارسات الإنسان السوي حتى نقيس عليها ونقارن ونعتبرها كميزان حرارة سلوكي. وما نعتبره نحن العرب من الأمور العادية – كأن تذبح ناقة من أجل تجهيز وجبة الغداء لضيف واحد يعتبر جنوناً مطبقاً لدى البريطاني والأوروبي الذي يحسب قطعة اللحمة الكافية للضيف بالسنتيمترات-.
بالفن وحده عاش الإنسان وتطور، من مخلوق يتنطنط على الأشجار، الى هذا الكائن المدرك الواعي، الذي يعي ذاته ويعي الكون الذي يعيش فيه. إذ قبل أن يدرك الإنسان أنه كان «يتفن») بآلاف السنين، وقبل أن يدرك أنه كان يعيد خلق الأشياء وابتكارها من جديد، قبل كل ذلك مارس الإنسان بواكير انسانيته الأولى التي ميزته عن بقية الكائنات الحية بالفن.
نعم بالفن أولاً: حيث إن هذا الكائن العاري نزل عن الإشجار وشرع في بناء مستوطناته الأولى على الأرض، لكنه واجه تحدياً أكبر بكثير وأعظم من قدراته العضلية.. إنها الحيوانات العملاقة والمتوحشة.
ردة فعل الإنسان الأول الغريزية كانت الهرب من هذه الحيوانات والاختباء بالكهوف، لكن ماذا يفعل هناك؟ هل يبقى قيد الرعب يرتجف خوفاً حتى يموت جوعاً؟؟ كان من الممكن أن يبقى كذلك وتنتهي أول محاولة انتخاب طبيعي للأنسنة!!
هنا ظهر الفنان الأول بشكل عفوي كرد فعل على حالة الخواء والانهزام، تناول الفنان الأول حجراً طباشيرياً من أرض الكهف الأول، وشرع يرسم بالحيوانات التي يخشاها على جدران الكهف. طبعاً لم يكن مدركاً لمتطلبات الفنون وشروطها الإبداعية، لذلك ظهرت معه الرسومات بشكل كريكاتيرى، وهنا – ربما- ظهرت الابتسامة الأولى على سحنة الإنسان.
تشجع الفنان الأول عندما أضحك المشاهدين الأوائل، فرسم نفسه وهو يعتلي فوق هذه الكائنات المخيفة التي كان يخشى مجرد النظر اليها، ربما هنا شرع الإنسان الأول بالتصفيق اعجاباً، فتشجع أكثر وأكثر، فرسم نفسه وهو يحمل عوداً كبيراً ويطعن هذه الحيوانات به.
هكذا اكتشف الإنسان الأول أداته الأولى بواسطة الفن.. فن الرسم، حيث سلّح نفسه بالأداة الأولى لمواجهة الحيوانات المفترسة.. إنها الشكل الأولي للرمح. بالطبع لم يتوقف الإنسان عند درجة الضحك والتصفيق، بل تعلم منها وتعداها لمستويات أعلى، فقد صنع من الأغصان أعواداً مدببة، وهاجم الحيوانات الأقل، وشرع يصطاد الأرانب البرية وما شابهها، فتشجع أكثر، الى أن تمكن من إضافة رؤوس صخرية مدببة على رمحه المطّور الأول.
هكذا وبواسطة الفن، تمكن الإنسان الأول من اكتشاف الآلة التي يواجه بها هذه الحيوانات، ويصطادها ويأكلها، ويركبها، ويستولدها ويدجنها بالكامل. بالطبع لم يتوقف الإنسان عند الرمح، بل أدرك – بواسطة الفن- أن الخيال يمكن أن يغير الواقع، إذا حولناه الى ممارسة يومية، وهكذا صنع المصائد الأولى والأدوية والسموم واكتشف الزراعة والرعي ،الى أن تمكن من السيطرة على الطبيعة بكامل تقلباتها.
الخلاصة: صحيح أن للفن دوراً مهماً في منح الفرح للإنسان، وهو يغيره من الداخل ويجعله أكثر رقياً، لكن للفن أيضاً أدواراً مهمة في تطوير ملكات الإنسان العملية، ونحن ندين للفنان الأول على جدران الكهوف بكل ما نملك من قوة وقدرة حتى الآن.
يوسف غيشان
ghishan@gmail.com