غالية خوجة (دبي)

أن تكون شاعراً في زمن ليس بشعري، في زمن أصابته الظلمات بالجنون بوصلته الحروب والدمار والتدمير والإرهاب والخيانة المتشعبة والمتعددة والشيزوفرانية، فهذا يعني أنك الضوء ومداراته المقاومة للظلمات، والمنتصرة عليها بإنسانيتك، ورؤيتك الإيجابية، وهويتك الوطنية العربية، وهذا ما تمثله تجربة ثلة من الشعراء ذوي القيم النورانية الثابتة، ومنهم الشاعر ربيع بن ياقوت، عافاه الله، الذي صدرت له عدة دواوين شعرية منها (حوايا، حصاد العمر).

منصة للقصيدة وستارة للمسرح
يضيء الشاعر العتيق مثل ذاكرة البلاد، فكم مرّ بتضاريس اللحظة وتحولاتها المختلفة، كما أنه اتسم بتوظيف الفكاهة الهادفة ضمن نسق حياته، متحدياً بحيويتها الطاقة السلبية والظروف الحياتية القاسية، كونه من مواليد 1928، مما يجعلنا نستعيد، وبأثر رجعي للوعي، ذاك الزمان الذي كانت ظروفه الصعبة تحاصر الحياة بكافة جوانبها.
سافر ربيع بن ياقوت إلى الكويت للعمل، حين كان في العشرينيات من عمره، مع الشاعر حمد خليفة بو شهاب، وراشد بن صفوان، وعاد ياقوت بعد 18 سنة إلى الإمارات العربية المتحدة، قبل إعلان الاتحاد بسنوات قليلة، والتقى بشباب مسرحيين، منهم سلطان الشاعر واسمه سلطان الشامسي، ومثّل 3 مسرحيات، وكان متقناً للأدوار الكوميدية فيها، لكنه لم يستمر طويلاً لأنه اكتشف نفسه شاعراً أكثر منه ممثلاً، ورأى منصة القصيدة قادرة على الاستمرار في إشعاعاتها إلى الأجيال الشابة التي تتوارث ذاكرة الأجداد، وتقبض عليها مثل مشعل الأولمبياد، وتحلق بها عبْر الأزمنة، وهذا ما اهتم به وأنجزه بقصائده النبطية، لا سيما بعدما تطوع في جمعية الفنون الشعبية بعجمان، فساهم في الأهازيج والثقافة الشعبية.

شفافية الروح المنتمية
كان ابن ياقوت أحد أعضاء برنامج مجلس الشعراء الذي أسسه حمد بو شهاب، في تلفاز دبي أواخر الستينيات، وجمع شعراء آخرين منهم راشد خضر، سالم الجمري، محمد بن سوقات، أحمد الهاملي، علي بن رحمة الشامسي، وراشد شرار الذي أكد، ذاتَ أمسية، على أن ابن ياقوت أحد العلامات الفارقة في المشهد الشعري الشعبي، وأن تجربته تتسم بالمفردة الإماراتية الأصيلة وموسيقاها الإيقاعية وظلالها اللفظية الوارفة، معتبراً قصائده كنزاً ثقافياً وتراثياً زاخراً بالمفردات والأخيلة والصور، وهذا الرأي يتوافق معه الكثير من الشعراء والنقاد.
ولأن شعر ربيع بن ياقوت عابر للأزمنة، فإن اللافت أن الكثير من الجيل الشاب متأثر بأسلوبه، وهذا ما لاحظه الكثير من الشعراء، ومنهم الشاعر بخيت المقبالي، بينما يرى الشاعر عبيد بن طروق أن ابن ياقوت يمتاز أيضاً بصفة الشاعر المنتمي، لأنه ينتمي جسداً وروحاً وكلمة إلى بيئته ولهجته ومجتمعه وذاته المبدعة التي ابتكرت معجمها الشعري.

البحر قافلة الحنين
يموج البحر في أعماق كل إماراتي، ولهذا البحر «اشتياق» خاص لدى الشاعر ربيع بن ياقوت، فهو مراكبه الوجدانية وقوافله التعبيرية، المتحركة بين الاغتراب والعودة، والتأمل والشرود والكتابة والحلم، فما إن تأتي موجة حتى ترحل لتأتي موجة أخرى وترحل.. وهكذا دواليك في اشتياق دائم: «مشتاق أنا للبحر مشتاق للسيفه»، ويكمل معبّراً عن شوقه حتى لعواصفه: «مشتاق أنا للبحر أنظر عواصيفه»، وما بين تكرار الاشتياق والبحر، تزهرُ بواطن الشاعر ووجداناته، ليكتشف أن البحر تخلى عنه «خليتنا يا بحر ما تذكر أحبابك، جرح الهوى في الحشا صعبه تكاليفه»، وهنا، نلمس كيف صار صوت الشاعر هو ذاته صوت البحر، ليحكي عن حالة متأرجحة بين التذكر والنسيان، وكأنه يحرض البحر على العودة إلى الزمن الماضي، مستبدلاً البحر بالحبيبة والأحبة والوطن، ما يجعل الحنين يستعيد مدّهُ وجزْره مع كل حركة تقترب من «السيف»، ثم تذهب بطمأنينة، أو عصْف، إلى أعماق البحر.

هوية عربية
جميع هذه العوامل الموضوعية والفنية ساهمت في اتساع فضاء صوت الشاعر، الذي تغنّى بشعره عدة فنانين منهم ميحد حمد، كما ساهمت في الحضور مع ذاكرة الناس، وهمومها، وأفراحها، وجلساتها، وحكمتها، مع تركيزه على انتقاد بعض الظواهر السلبية في النسق الذاتي للإنسان، والنسق الاجتماعي، مثل غلاء المعيشة، الوساطة، العادات الدخيلة، الغزو الفكري للشباب، إضافة إلى تعبيره عن هويته الوطنية الإماراتية وفخره بها، ومنها قصيدته «يا موحدين الرايه» التي مدح فيها الشيخ زايد، طيب الله ثراه، والاتحاد، ويقول في مطلعها: «يا موحدين الرايه، يا عصبة بو بكر، انتو سند واحمايه، عن توحات الدهر»، والتي يؤكد فيها على قوة الجمع المشكّلة لمركب النجاة من تحولات الزمن السلبية، معتزاً بتأسيس اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة.
وبالتوازي، تنبض قصائد ابن ياقوت بتعبيره عن هويته العربية، وإحساسه بمجريات الواقع العربي، وقضاياه، ومنها القدس: «مات الضمير وماتت أحفاد لمجاد، ما حد على المحنة بيوقف يواسيك، إن صحت أو ما صحت من عنك نشاد، اصبر عسى ان الفرج بالصبر ياتيك، أتصيح والنجدة مشاريف بغداد، القدس راح ودنسوها أراضيك».

تقدير
لم يكن ممكناً أن نرسم سيرة الشاعر ربيع بن ياقوت، أو نوجه له هذه التحية الثقافية على عطائه، من دون أن تستذكر اللفتة الشعرية، التي اجترحتها معالي نورة الكعبي وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة، حين قامت بزيارة الشاعر الراقد في المستشفى؛ ذلك أن الشعر ليس كلمات وحسب.. الشعر سلوك، يظهر ويتجلى في الممارسة اليومية.
تلك الزيارة لم تعكس فقط تقدير الدولة لمبدعيها وشعرائها، وإنما أدخلت السرور على قلب ذلك المريض الراقد في مستشفى خليفة التخصصي في رأس الخيمة، يومها قالت معاليها في تغريدة على حسابها في تويتر: «سعدنا بزيارة الشاعر القدير ربيع بن ياقوت للاطمئنان على صحته.. فاكهة الشعر الوطني، ابن ياقوت صاحب تجربة شعرية وأدبية فريدة».. والحق أنها سعدت، وأسعدت الشاعر ومحبيه الذين رأوا في زيارتها دلالات الوفاء والتقدير لمبدعي الوطن وبناة ثقافته.

المنتمي
يرى عبيد بن طروق، أن ابن ياقوت يمتاز أيضاً بصفة الشاعر المنتمي، لأنه ينتمي جسداً وروحاً وكلمة إلى بيئته ولهجته ومجتمعه وذاته المبدعة التي ابتكرت معجمها الشعري.