عبير زيتون (دبي)
الجغرافيا ليست مجرد «علم ساكن» منحصر في التضاريس والحدود، والمسطحات المائية والمحيطات والتغيرات المناخية على النحو الستاتيكي الذي درسناه في المدارس. الجغرافيا هي حواس الإنسان في التذوق، والشم، واللمس، والنظر، أي هي «موارد المعنى» التي تشكل إدراكاتنا للعالم، وطريقة إحساسنا بالعالم، هي جسد الإنسان، وموطن هويته، تشكل بداهتنا وإدراكاتنا التواصلية والتفاعلية والوجودية، وما بين بدن الإنسان، وبدن الجغرافيا، ليس ثمة قطيعة، وإنما استمرارية حسية وإدراكية دائمة الحضور، والاختراق، والتبلور، والتأُثير، نعيش في داخلها، وتعيش في داخلنا في تجذر جسدي للفكر أخلاقياً وفكرياً ومعرفياً ووجودياً.
هكذا، علقت الدكتورة نعيمة الحوسني رئيسة قسم الجغرافيا والاستدامة الحضرية في جامعة الإمارات العربية المتحدة على سؤال «الاتحاد» حول مفهوم «الجغرافيا» التي اختبرناها دراسياً وأكاديمياً كعلم جامد وساكن، لا يتجاوز مفهومها على مستوى الفكر العربي، كونها علماً منحصراً في التضاريس والحدود، وأسماء مواقع المحيطات والجبال والبلدان مما ساهم لحد كبير دون فهمنا لأبعادها الفكرية والدلالية، وإدراك دورها في تشكيل وجودنا، وتكوين سماتنا الذاتية والجمعية في آن معا.
المكان والجغرافيا
ولفهم هذه الأبعاد، نتساءل: هل الجغرافيا هي المكان أم المكان هو الجغرافيا؟
تقول الباحثة الدكتورة «الحوسني»، العلاقة بين المكان والجغرافيا، علاقة تبادلية أزلية منذ القدم. والكثير من العلماء يُعرفون الجغرافيا على أنها فلسفة المكان، أو شخصية المكان، من منطلق أن دراسة الجغرافيا لا تُعد دراسة جغرافية دون ربطها بالمكان الذي توجد فيه، إذ يمثل «المكان» العامل الأساسي في الدراسات الجغرافية، والذي يتأثر بالحقائق الجغرافية بشكل مباشر وغير مباشر، لوقوعه بذلك المكان، فهو يشبه إلى حد كبير «الكائن الحي» في نموه وازدهاره، ومرضه، وموته أيضاً، تحت تأثير العوامل الجغرافية «الطبيعية والبشرية».
وترى د. نعيمة الحوسني التي نالت العديد من المنح والجوائز البحثية لدورها في التأليف والترجمة في مجال تخصصها العلمي، خاصة في رسم الخرائط، ونظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد: أن فلسفة الجغرافيا، كقيمة معرفية وعلمية، ازدادت أهمية في عصر العولمة ومع التطورات التكنولوجية والتقنيات الحديثة، واكتسبت معاني جديدة، وتوسعت آمادها وتعددت مسالكها، ولاغنى عنها كنوع من المعارف العلمية والفلسفية وحتى الأدبية. أما لماذا؟ فتجيب مستشهدة بقول المفكر الكبير«جمال حمدان»: إذا عرفنا الجغرافيا بشكل صحيح، من أعلى آفاق الفكرالجغرافي في التاريخ والسياسة، فإنها لا تستنكف عن أن تنفذ أو تنزل إلى أدق دقائق حياة الإنسان العادية في المكان الذي يحيا فيه».
شرق.. غرب
حول مفهوم «الشرق والغرب» هل هو جغرافيا؟ أم هو نتيجة تراكم إسقاطات خاصة من المخيلة الغربية على هذه المنطقة من العالم؟
تقول د. نعيمة الحوسني» تلعب الجغرافيا دوراً مهماً وراء هذه السرديات ذات الطابع الاستشراقي والاستعماري، ولكن ثمة تراكمات أخرى تاريخية ودينية تدخل ضمن هذه المنظومة المعقدة التي تمثل الفوارق الحضارية بين الشرق والغرب، علاوة على العديد من الأعراف والأساطير الثقافية، التي اكتسبت مكانة بارزة في عملية التصنيف التي تستند في معظم الوقت على مكونات عنصرية بغيضة لا مكانية أو جغرافية !!!.
ولكن هل يمكن تزييف الجغرافيا كما يتم تزييف التاريخ؟ وكيف؟
تجيب نعيمة الحوسني: بالطبع يمكن تزييف الجغرافيا. فالاستعمار أعاد صناعة الخرائط، وترسيم الحدود وفق أطماعه في ثروات البلاد. والحروب دائما تنتهي بتزييف الجغرافيا بكل عناصرها البشرية والطبيعية، بما يتناسب مع مصالح هذا الاستعمار الذي لم ينته بعد مع تعدد أشكاله وحيله. وأكبر مثال عالمنا العربي الذي وقع ضحية تميز موقعه الجغرافي وغنى موارده الطبيعية.
وتصف إقبال شباب اليوم في الإمارات على علوم الجغرافيا، بأنه إقبال منقطع النظير، وتوضح بالقول: بسبب توفر فرص العمل، خاصة في مجال التخطيط العمراني مع تطور جغرافية المدن بشكل مضطرد، في ظل التمدد الحضري الرهيب الذي يضرب بأطنابه في شتى أنحاء العالم.
وفي سؤال حول من المسؤول عن كرهنا لعلوم الجغرافيا وفلسفتها المكانية؟ هل هي طرائق التدريس القائمة على مفهوم التلقين والحفظ؟ تؤكد الحوسني بالقول: بلا شك المدرسة، وطرائق التدريس ونوعية المدرسين، تؤثر سلباً أو إيجابا على مدى تقبل أو كره الطلاب لأي علم بما في ذلك الجغرافيا التي تحتاج لحب وفهم كبير قبل تقديمها للطلاب والدارسين، إضافة إلى غياب اهتمام كتابنا وباحثينا في البحث والدراسة في الرابط بين الجغرافية والعلوم المعرفية والأدبية الأخرى خاصة الفلسفة باعتبارها فلسفة للمكان، وشخصية المكان تلعب دوراً كبيراً في تشكلنا وتفكيرنا في الغيرية والهوية.