في فيلم «المصير» (1997) جعل يوسف شاهين من الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، علامة دالة على احترام الآخر، إذ رأى فيه نموذجاً فذاً للحوار بين العقل والإيمان، ذلك الحوار الذي يحتاجه العالم العربي الإسلامي اليوم بشكل بالغ الإلحاح. ومن هذه الزاوية، قد نكون بحاجة إلى معرفة مدى حضور ابن رشد اليوم بيننا، إن كان علينا النظر إليه بوصفه حامل لواء الحداثة الخاصة بالعالم العربي الإسلامي، ثم.. قد نحتاج أيضاً إلى معرفة ما إذا كانت هذه الحداثة قد تأسست حقاً على الصورة الرمزية التي مثلها هذا الفيلسوف الجليل في الإرث الفلسفي العربي الإسلامي، أم أنها قامت على إعادة قراءة متبصرة لأعماله الفلسفية.

إن إعادة نشر الأعمال الرشدية التي تمت حديثاً بالفرنسية، كما أعمال الفلاسفة العرب المعاصرين مثل محمد عابد الجابري، عن ابن رشد، تكشف عن شغف متزايد بفكره وفلسفته. فما الذي قد يحملنا اليوم على إعادة قراءة هذا الفيلسوف؟ هل إن العوامل التي تدفع إلى ذلك هي ذاتها في الكيبيك أو في فرنسا، في المغرب أو في بغداد؟ ما الذي قد يضيفه فكره للفكر العربي الإسلامي الحديث؟ ثم أي خطاب قد ينقله ذلك الفكر إلى خطاب الحداثة في الغرب؟
أهمية فكر ابن رشد تكمن، في هذا الجانب أو ذاك، في إثارة السؤال عن علاقة الإنسان بالآخر، وهي الإشكالية التي تحيل على مسألة الأصولية المتزمتة، ولكن أيضاً على ضعف الحوار بين الأطراف الفلسفية المختلفة. فكيف لنا أن نفسر أن يكون تصور الفلسفة السياسية المعاصرة إلى اليوم، عاجزاً عن النظر إلى المثقفين العرب أو المسلمين على أنهم أطراف في مثل ذلك الحوار؟ أو يكون الدافع إلى ذلك هو الاعتقاد الضمني لمفكري الغرب في أن ذلك الحوار ظل في كل الحالات، عند العرب والمسلمين، وثيق الصلة بالدين؟
حاملاً لتصور محدد عن الحداثة، ظل ابن رشد مرفوضاً.. قبل أن يتم الاعتراف به في الغرب المسيحي، إلى حد أنه اعتبر آنذاك مؤسساً لأسلوب من التفكير فريد وخاص به. غير أن تأثيره، وبشكل مستغرب، ظل لأمد بعيد مُخْتنَقًا في العالم العربي الإسلامي. وحتى حركة النهضة العربية، التي تعود أصولها إلى أواسط القرن التاسع عشر، سعت بشكل أساسي إلى تمجيد المقومات اللغوية والأدبية للثقافة العربية، متجاهلة الإسهامات النوعية الثمينة للفلاسفة العرب والمسلمين. لذا، لن يعرف العالم العربي الإسلامي تجديداً فلسفياً حقيقياً إلا غداة الحرب العالمية الثانية. ففي تلك الآونة، وهي مُخْترقة بالحداثة الغربية، أصبحت مسألة إنعاش التراث، مهمة متأكدة وبالغة الإلحاح. وحينها أيضاً، اعتبر الكثيرون أنه غدا بالإمكان، وبوساطة الفكر الرشدي، تحقيق حداثة عربية إسلامية خالصة.
نود فيما يلي، العودة إلى تاريخ استيعاب الغرب المسيحي للفكر الرشدي، للوصول إلى «فصل المقال»، أي إلى ذلك الخطاب الحاسم الذي تناول فيه ابن رشد بالتحليل والشرح المستفيض علاقة الدين بالفلسفة. ومستندين إلى تلك المكتسبات، سوف نتبين إلى أي مدى يكون هذا الأخير قد غدا معاصراً لنا.

ابن رشد والغرب
لاستقبال الغرب المسيحي لابن رشد جانب بالغ الغرابة، إذ أن الرجل لم يُعرف بصورة أساسية إلا من خلال شروحه لفلسفة أرسطو، وعلى وجه أخص لمؤلفه «شرح كتاب النفس». ففي هذا المؤلف، يكون ابن رشد قد طور نظرية تقول بأن العقل النظري لكل إنسان «موصول» بعقل منفصل عنه وأبدي، قادر على إنتاج أفكار مفردة. غير أن هذه الفكرة جاءت متعارضة مع العقيدة المسيحية، إذ رأى علماء اللاهوت المسيحيون أن الإقرار بأن الإنسان يفكر بوساطة عقل منفصل، لا يتفق مع فكرة أن كل إنسان يكون في سره مسؤولاً عن أعماله، ونظرية العقل تلك كان قد أيدها مفكرون عشقوا أسلوب المفكر الأندلسي في التفلسف الحر. أولئك الذين عرفوا الرشديين. فما تكون هذه الرشدية؟ فذلك سؤال أساسي يمكن أن يساعدنا على أن نتبين كيف تم قبول ابن رشد في الغرب المسيحي، ولكن أيضاً تبين إلى أي مدى يكون ابن رشد اليوم معاصراً لنا.
إن أولئك الذين عرفوا في الغرب بـ«الرشدية» كانوا قد أبدوا حرية فكرية أدانتها الكنيسة المسيحية، كما أدانها الفيلسوف المسيحي سان توماس الإكويني. غير أن ذلك الأسلوب من التفكير، رغم إدانته من قبل علماء اللاهوت، كان قد ساهم في تشكيل نمط متحرر من التفكير في الغرب له تصوره الخاص لعلاقة الدين بالعقل. ولكن، ينبغي لنا أن نحاذر كي لا نرى في ذلك حلولاً مبكرة للـ«كوجيتو»، لأن التصور القروسطي لموضوع الفكر كان قد انتشر قبل نظرية «الأنا» أو الـ«أنا أفكر».
لقد تأسس الالتباس الذي شاب قبول الغرب لابن رشد على فكرة الرشدية. ففي حوالي 1225 ـ 1230 تشكل «تصور رشدي أول» عارض بين نظرية النفس عند ابن رشد وفكرة النفس الواحدة العاقلة عند ابن سينا. وفي هذا الإطار كان ابن رشد قد أقر نظرية العقل الفعال أو وحدة العقل، التي ترى أن الجنس الإنساني يشترك كله في نفسٍ عاقلة واحدة منفصلة عن الأفراد، وأنه باتصال النفس الفردية بالنفس العاقلة الكلية يحدث التفكير، كما كان يرى بأن عملية المعرفة والإدراك ليست إلا اتصالاً وتواصلاً من طرف العقول السلبية، غير الفعالة، بالعقل الكوني الأعظم. وخلافاً للرأي الشائع، فإن نظرية الروح التي كان يتبناها الرشديون الأوائل، لا علاقة لها بما كان يعرف في علم التاريخ المسيحي ببدعة وحدة العقل: لقد سعى الرشديون الأوائل إلى إبداء معارضتهم الفلسفية لفكرة وحدة العقل المعتدلة التي كانت لابن سينا. وحوالي 1250 أعقبت تلك «الموجة الرشدية الأولى»، «موجة رشدية ثانية»، اعتمدت تصوراً أكثر تجذراً للعقل الفعال أو إلى وحدة العقل. وانبنى ذلك التصور على الشرح المستفيض الذي بين فيه ابن رشد أن العقل المادي هو في ذات الوقت متجدد عند كل البشر، أبدي، وغير قابل للفساد. وقد تهجم توماس الإكويني على نظرية وحدة العقل تلك، إذ رأى أنها تفضي في النهاية إلى خلاصة أن الإنسان لا يفكر. ولكن كيف لأولئك الرشديين أن يجزموا بأن الإنسان لا يفكر، والحال أنهم كانوا ينظرون بإعجاب لمنهج التفلسف الحر والجريء عند ابن رشد.

موقف توماس الإكويني
لقد جاء كتاب «في وحدة العقل والرد على الرشديين» لتوماس الإكويني، المنشور سنة 1270، ليفند أطروحات ابن رشد، ويبين أن موقف هذا الأخير جاء متناقضاً مع مبادئ الفلسفة، ومع ثوابت الإيمان. كما اعتبر الإكويني أن اطلاع ابن رشد على «كتاب النفس» ارتكز على قراءة رديئة لكتاب «رسالة في النفس» لأرسطو، لذا، لاذ هذا الأخير بأرسطو لتصويب موقف الفيلسوف العربي. ولكن أي أرسطو كان يتحدث عنه توماس الإكويني؟ إنه أرسطو صاحب تلك الرسالة الغامضة التي سافرت إلى بلاد فارس ومنها إلى الأندلس، مروراً بالشرق الأوسط، قبل أن ترسي على طاولة توماس الإكويني. أي رسالة أرسطو عن النفس. والحال أن نص ابن رشد الذي اطلع عليه هذا الأخير لم يكن سوى ترجمة لاتينية بائسة ورديئة من العربية تعود إلى سنة 1230.
وفي الفصل الثالث من «وحدة العقل»، حاول توماس الإكويني دحض الخطأ الأول لابن رشد أي فصله الفعلي بين العقل والروح، ثم طرح السؤال التالي: إذا لم يكن للعقل صفة من صفات الجسد، فكيف له أن يكون موصولاً بكل إنسان؟ أما ابن رشد فقد كان يرى في شرحه المطول لـ«رسالة في النفس»، إن العقل أحياناً ما يتحد بالجسد، وأحياناً ما لا يتم ذلك الاتحاد. ويكون بذلك قد اعتنق أطروحة أرسطو التي تقول بأنه ليس ثمة من فكر بلا صور، وأن تمثلاتنا هي التي تسمح بوجود علاقة بين العقل والنفس البشرية.
كما يعيب توماس الإكويني على ابن رشد اعتقاده في أن الأفكار تكون منطوية في الإنسان، فلا يكون بوسع الإنسان هكذا أن يفكر، طالما أن الصور الخاصة لتمثله للعالم يتم التفكير فيها بعقل منفصل. حينئذ، يكون ثمة تناقض يتعلق بوحدة الإنسان، إذ يجمل الجنس البشري أفكاراً، ولكن دون أن يكون الإنسان المفرد هو الذي ابتدعها، فثمة أفكار، ولكن ليس ثمة إنسان ليفكر بها. وهكذا تحدث توماس الإكويني عن ابن رشد: «إن علم النفس عند ابن رشد لا ينسجم تماماً مع فكرة أن يكون للإنسان وسيلة للتفكر. فأن يكون المرء رشدياً، فإن ذلك يعني الإقرار بأن الإنسان لا يفكر».
ولنا أن نتساءل: إن كان ابن رشد في شرحه لـ«كتاب النفس» قد أجاز فعلاً الحديث عن إنسان لا يفكر؟ وهل تكون الإجابة على هذا السؤال ممكنة دون أن نتيه في دقائق الفلسفة القروسطية؟
حسب ابن رشد، يكون العقل الذي هو أساس التفكير، منفصلاً عن العالم الحسي، وأبدي في ذات الوقت، ومتى اتحد الإنسان بذلك العقل، يكون قد أدرك المعرفة الكونية. غير أن التفكير هو عند ابن رشد رديف البرهنة، فيما تكون الحكمة بالمعنى الدقيق للكلمة.. برهانية أو إثباتية، والبرهنة تحيل بدورها على منطق أرسطو والقياس المنطقي. والقياس المنطقي يفترض إمكانية استخلاص استنتاجات موثوقة من مسلمة مؤكدة، طالما أن الحد الأوسط بينهما يسمح بالجمع بين الافتراضين. ومسألة الحد الأوسط هنا مسألة حاسمة: يتعلق الأمر بضبط قائمة خاصيات كل من الوحدات التي هي محل المقارنة، للجمع بين تلك التي تكون لها خاصيات متلائمة (تكون ذات طبيعة واحدة). غير أن هذا المنهج يختلف عن أسلوب آخر في البحث والاستقصاء يختص به الفكر العربي الإسلامي، ألا وهو التفكير التناظري. والتناظر يفترض أنه يكون من الممكن معرفة شيء ما مجهول انطلاقاً مما هو معروف عنه، إن كان بين التعبيرين تآلف ما. على أن ابن رشد لا يقبل بالتناظر إلا متى كانت للمجهول والمعروف طبيعة مشتركة. غير أن إدراك المعرفة الربانية عن طريق التفكير التناظري، يفترض أن يكون للِه طبيعة مماثلة لطبيعة الإنسان، وهذا ما لم يكن لابن رشد ليقبل به. سوف نتوقف لاحقاً عند أهمية البرهنة في علاقة الفلسفة بالدين عند ابن رشد، ولكن حسبنا هنا الإشارة إلى أن ابن رشد في شرحه الكبير، كان قد ميز بين المعرفة السلبية والمعرفة الإيجابية، فالمعرفة الإيجابية هي معرفة خاصة بالفكر النظري للكائن البشري، الذي بوساطة البرهنة التي يحكمها مبدأ السببية، يكون بإمكانها إدراك الحقيقة.
ولئن كانت الحقيقة واحدة عند ابن رشد، فإنه كان يرى مع ذلك أن الدين لا يفهم إلا بالرجوع إلى الفلسفة. وبهذا المعنى يكون ابن رشد حامل لواء حداثة خاصة بالعالم العربي الإسلامي، وهو ما سوف يربك القارئ الغربي. ولكن أي علاقة قد تكون بين الدين والفلسفة في تفكير ابن رشد؟

فصل المقال
ليس «فصل المقال»، الذي تطرق فيه ابن رشد إلى علاقة الوحي بالفلسفة، عملاً فلسفياً بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما كان عبارة عن فتوى تناولها ابن رشد تناولاً فقهياً. فمَنْ من قراء ابن رشد كانوا بحاجة إلى الإقناع؟ وبِم كان على ابن رشد إقناعهم؟ لقد ضم جمهور قراء ابن رشد بصورة أساسية مريدين تربوا في بيئ ة فقهية مالكية، مريدين كان على ابن رشد إقناعهم بوجاهة آرائه في الإصلاح السياسي والديني زمن الحكم الموحدي. وهنا تكمن أصالة هذا البحث الخاص بالمكانة الشرعية للفلسفة في بلاد الإسلام. وفي هذا السياق كان ابن رشد يريد معرفة إن كان الشرع الموحى قد أجاز التفلسف أم لا؟ إن كان هذا الشرع قد أمر بالتفلسف؟ وإن جاء ذلك الأمر على سبيل التوصية أم أنه كان فرضاً مفروضاً.
في الفقرات الأولى من «فصل المقال» يبين ابن رشد أن الدين يأمر الناس بالتفكر ويوصيهم بالتدبر في وجود الخلق، وبهذا المعنى هو لا يمنعهم من التفلسف. ولتحمل عبء هذه المهمة يكون من واجب المقبلين على النص أن يحذقوا استخدام أداة القياس المنطقي العقلاني. وفي هذا الإطار يقر بأن الفلسفة لا يمكن أن تكون مضادة للحقيقة، لأنها تنسجم معها وتشهد على وجاهتها. ثم يقرر أن لا تعارض بين الوحي والحقيقة، لا لأن النص الموحي موتر على الحقيقة فحسب، بل لأنه هو.. الحقيقة. ولكن ما الذي تراه سيحدث لو جاء التفكير البرهاني متعارضاً مع المعنى المتجلي في النص؟ ويجيب ابن رشد: ينبغي للعلم ألا ينحني أمام النص، وأن يسعى إلى تأويله وفق قواعد التأويل الخاصة باللغة العربية. ويرى الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري، أن غاية ابن رشد من هذا التأويل هي القبض على مقاصد المشرع. ويفترض ذلك ألا يتم تحويل أي عبارة في النص من معناها الحرفي الظاهر إلى المعنى المجازي، مع الابتعاد عن القراءة الحرفية للنص. وإلا فإن ابن رشد يرى في أي تأويل لأركان العقيدة ضرباً من ضروب الخيانة للنص.
على أن إدراك حقيقة علاقة الدين بالفلسفة، لا يمكن أن تكون بينة إلا متى عدنا إلى المنهجية الأرسطية الخالصة، التي وفقها يكون كل جنس من الأشياء مطابقاً لجنس محدد من العلوم. فأن نقارن الفلسفة بالعلم الإلهي، فإن ذلك يعني في نظر ابن رشد أن نساوي بين أشياء متناقضة من حيث ماهياتها وخواصها، وذلك هو عين الجهل، ولكن كيف تكون الفلسفة والعلم الإلهي متعارضين من حيث الماهية، إن كان كل منهما ينشد الحقيقة ويعمل على إشاعة الفضيلة؟ سينجر عن ذلك إن علاقة العلم الإلهي بموضوعه سوف تكون بشكل عام.. مختلفة.
قد يغرينا ذلك بأن نلمس عند ابن رشد هنا ميلاً إلى النزعة الإشراقية، ولكن الأمر هو على عكس ذلك تماماً، فابن رشد ما انفك يعمل جاهداً من أجل التخلص من التفكير الإشراقي، الذي تمر فيه معرفة الحقيقة بالتجربة الباطنية للإنسان في علاقته بالله. وابن رشد هو فضلاً عن ذلك مفكر عقلاني، لا يأبه البتة بالتجارب الذاتية، ويرتاب من كل القراءات الحرفية، كما القراءات التي تحمل النص أكثر مما يطيق. وقد أدخل تصنيفاً للبشر وفق قدرتهم على تأويل النص، فرأى أن أغلب الناس كانوا يلوذون إما بالبلاغة أو بالجدل أو بالتفكير البرهاني.. الاستدلالي. وقد ساهم هذا الانقسام الثلاثي في بروز الفرق الدينية، والملل والنحل، وتكاثرها خاصة في القرن الـ12م. وقد تذهب هذه الفرق إلى الاعتقاد في أن تأويلها للشرع الموحى هو الذي ينبغي أن يشاع بين المؤمنين، وهذا من شأنه أن يجعل جمهور المؤمنين ينحرفون عن الشرع ذاته، فيؤول ذلك إلى طمس الإنسان وطمس الإسلام.
ويرى ابن رشد أن الفلسفة توجد في حال التوتر، لأن النص الموحى يدفع إلى التفلسف، ولأن الفلسفة تستلزم الانقطاع عن المجتمع. وذلك التوتر الذي قد يؤسس لنزعة حداثية قد يسهم في استئصال الشعبوية السياسية والتعصب الطائفي. ولا شك في أن ذلك قد يشكل فتحاً لطريق مسعفة، «طريق وسطى» للشعب متى كان مستنيراً بالفلسفة. ومع ذلك، فقد بين ابن رشد بكل وضوح أن الفلسفة لا تحتاج إلى تنكير معنى النص لإرضاء جماعة المؤمنين. ذلك أن المسألة الطائفية لا تمد عنقها تحديداً إلا حينما يقدم أصدقاء مزيفون للفلسفة وللنص على تزكية طرف ما واعتبروا أنه قد أدرك المعرفة الكلية بالنص، وهو ما لا يتأتى لأي كان. أما الشعبوية السياسية فإنها تقوم من ناحيتها، على افتراض قبلي من أن النص لا يستدعي الرجوع إلى الفلسفة، وهو الأمر الذي ما كان ليشكل قولاً فصلاً لدى الإنسان الأندلسي، الذي كان يرى أن النص يوجب التفلسف متى توافرت أدوات هذا التفلسف.
ثم أي علاقة قد تكون للسياسي بالديني فيما تقدم؟ إن «فصل المقال» فتوى صدرت باسم الدولة الموحدية، التي كان ابن رشد يحظى فيها بمكانة رفيعة وأثيرة. وفي هذا الإطار لا بد لنا قبل التطرق إلى مسألة العلاقة بين السياسة والدين، من تمثل الظرفية الأيديولوجية التي كانت تحيط يومذاك بابن رشد، لأن الأيديولوجيا الموحدية كانت تعمل على إشاعة المذهب الموحدي. فكيف يمكن لنا حينئذ تبرير التأويل المضاد للشعبوية السياسية الذي ذهبنا إليه في فصل المقال؟ بالنظر إلى ظرفيته، تخيّر ابن رشد طريقاً وسطى، تسمح للجمهور العريض من الناس باعتماد تأويلات تراوح بين البلاغة والجدل، دون أن تناقض تلك التأويلات التفاسير البرهانية لعلماء الدين.
ولئن كانت السلطة القائمة تتبع بصرامة تعاليم النص الموحى، فإنها كانت تحمل كل من آنس في ذاته قدرة على الاجتهاد وإعمال الرأي في النص على التفلسف. ويعني ذلك أن الطريق الوسطى التي ذهب إليها ابن رشد كانت في خدمة الفلسفة والتفلسف. وقد نتساءل هنا: كيف يمكن أن تأول هذه الفتوى على ضوء الواقع الراهن الذي نعيش؟ وهل يمكن أن نجتثها من إطارها؟
إن النظام الجامعي، الذي كان للرشديين دور مهم في إنمائه، كان لا ينفك ينتشر ويزداد توسعاً داخل المجتمع، ويعني هذا أن الاقتداء بفكر ابن رشد كان يقتضي مزيد الاجتهاد في تأويل النص، تأويل كان لا ينبغي أن يمس حسب ابن رشد أياً من الثوابت الجوهرية للعقيدة الإسلامية. وإحدى الآفات الكبرى التي تشكو منها بعض المجتمعات العربية الإسلامية الحديثة، تكمن تحديداً في تزايد الجهد من أجل التأويل، تأويل النص، وبصورة أعم، تأويل التراث. حينئذ، يكون الاجتهاد واجباً على المسلم، ومن واجب الدولة أن تحفزه إلى ذلك.

البديل الرشدي
تلك كلمة مفصلية لا تنفك تتردد في أعمال محمد عابد الجابري. فهل يكون بوسعنا تحمل عبء تراث الماضي وفكر ابن رشد كلحظة من ذاك الماضي؟ وما الذي قد يبقى من فكر ابن رشد؟
إن التملك الأصيل للتراث يمر لا محالة عبر ما يبقى ويمكث من ذلك التراث، أي ما يظل حياً فيه وفينا، والذي ينبغي أن يحدد وجهة المستقبل، انطلاقاً من مشاغل الزمن الراهن. بمثل ذلك البقاء، لن يُنظر إلى تراث الماضي بعد ذلك على أنه كل لا يتجزأ. ولكن ما الذي قد يتبقى من هذا التراث، وعلى الوجه الأخص من عمل ابن رشد؟ إن الجابري ليميز في هذا الإطار بين المحتوى المعرفي والمحتوى الأيديولوجي لهذا التراث، فيرى أن المحتوى المعرفي يعيش لمرة واحدة لأنه من قبيل العلم، والحال أن للعلم تاريخه، وتاريخ العلم هو قبل كل شيء تاريخ أخطائه. وترتكز وجهة نظر المفكر المغربي على مقاربة مطورة لمفهوم العلم، مقاربة تكون ذات طابع إشكالي، متى فهم التفسير على أنه تأويل للنص وللتراث. ثم هل أن علم تأويل النص يشهد تطوراً كذاك الذي يشهده تاريخ العلم (إن صح أن تاريخ العلم ينمو ويتطور).
أما المحتوى الأيديولوجي للتراث من ناحيته، فإنه يكون قابلاً لحيوات متعددة، إذ بوصفه حلماً، فهو يرتكز على تصور آخر للزمن من ذاك الذي يختص به العلم، فهو يتحدى زمن العلم الذي هو «الحاضر الراهن».. حاضر مرشح للاختفاء والتلاشي في كل لحظة، فيما تكون الأيديولوجيا متطلعة إلى «مستقبل ممكن». ومع ذلك، فإن بدا لنا أن كل تسييس لابن رشد قد يكون مربكاً، كأن نجعل منه مثلاً نموذجاً للاشتراكي الديمقراطي، فإنه طالما أن البقاء يفترض تحديث ما هو ضروري، يكون من المفارق أن يجعل الجابري من ابن رشد ما يشبه الرمز الذي يمكن أن يحشر داخله كل شيء. حينئذ ينبغي لنا أن نطرح مع الجابري هذا السؤال: ما هو المحتوى الأيديولوجي في أعمال ابن رشد التي يجب أن نعمل على تملكه من جديد؟
يميز الجابري بين لحظتين مهمتين في تاريخ الفكر الإسلامي. أما اللحظة الأولى، فهي تصادف اكتشاف كتابات أرسطو في القرن التاسع، لتبلغ الذروة مع فارس (بلاد فارس) ابن سينا، حيث كان التفكير البرهاني يقيم تآلفاً مع التفكير القياسي ومع الإلهام. ويكون هذا الزمن الذهبي الأول للفلسفة قد جد زمن الخلافة العباسية ببغداد. أما اللحظة الحاسمة الثانية للفلسفة الإسلامية فقد بلغت أوجها مع ابن رشد الذي كان يرى أن الفلسفة لا تستأنس إلا بالفكر البرهاني. وتكون الأندلس الموحدية هي المكان الذي شهد هذا الزمن الذهبي الثاني. وقد قطع هذا الزمن الثاني مع فكر ابن سينا القريب جداً من التفكير القياسي وخاصة من الإلهام. وتلك القطيعة هي التي تترجم عنها اللحظة الرشدية. وقد اختار الجابري الزمن الذهبي الأندلسي ليثبت اللحظة العقلانية في صيرورة الفكر العربي الإسلامي.
إن العقلانية التي أرسى أسسها ابن رشد، والتي يعود تطورها ولا شك إلى دوافع أيديولوجية، مكّنت من التفكير بصورة مغايرة تماماً في العلاقة بين العقل والفلسفة. ولم يحاول ابن رشد، لا التوفيق بين العقل والنقل كما فعل ذلك علماء دين قبله، ولا الموازنة بين العقل والدين (أو العكس)، كما فعل ذلك فلاسفة الشرق. لقد كان لابن رشد تصور آخر للعلاقة بين الفلسفة والدين، والعلم والدين، كما بين ذلك في الفصل 29 من «فصل المقال» يعمل كل منهما وفق المنهج الملائم له، مما يعني أن العلم لا ينبغي أن يُحد بالدين، وإن كانت الحقيقة واحدة، بل إن الدين ينبغي أن يساهم في تطور الفكر.
إن اللحظة الرشدية لتفترض قطيعتين، تكون الأولى على علاقة بفكر ابن سينا، فيما تكون الثانية على صلة بالعلاقة بين الفلسفة والدين. قطيعتان تؤديان إلى بديل رشدي ممكن، يكون ذا بعد عربي إسلامي، بديل يقترن بحداثة عربية إسلامية. وبمثل هذا التصور، لن يحتاج العالم العربي الإسلامي إلى قطع علاقته بالماضي، وإنما أن يجد في ذاته أكثر المصادر أهلية للتوجه نحو المستقبل. والحداثة كما يراها الجابري.. تؤسس للأصالة، كما أن الأصالة تؤسس لتلك الحداثة. وهذا التردد بين الحداثة والأصالة لا يكون منغلقاً أمام الآخر، إذ لا يتعلق الأمر بأداء دور النعامة، فنلتمس البقاء لتأويلنا الخاص للتراث.
«إن البديل الذي يقترحه علينا ابن رشد فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والفلسفة لقابل لإعادة التوظيف لإقامة حوار بين تراثنا والفكر العالمي المعاصر الذي نتشوف إليه»، ذلك هو الاستنتاج الذي خلص إليه الجابري. يبقى أن نعرف إن كان هذا الفكر العالمي المعاصر مهيأ لمثل هذا الحوار وإن كان يرغب فيه حقيقة، لأنه ثمة اختلاف جوهري بين دراسة العالم العربي الإسلامي بوصفه موضوعاً عادياً يتم العمل على تحديد خصائصه.. وأن نقيم حواراً يكون فيه طرفاً حقيقياً. وإن كنا لا نشترط على النظرية السياسية تجاوز علاقات القوى، لعلنا نكون بحاجة إلى أن نشترط أن يكون للفلسفة دور أكثر فعالية في هذا الحوار. ثم.. هل يكون بالإمكان التفلسف ببساطة دون اعتبار للمصالح الإستراتيجية التي تشكل أس السياسة، وبغض النظر عن أي نزعة استشراقية؟

سيرة ومسيرة
ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد (520 هـ- 595 هـ) والذي يسميه الأوروبيون Averroes في قرطبة في 14 إبريل 1126م وتوفي في مراكش 10 ديسمبر 1198م. هو فيلسوف وطبيب وفقيه وقاض وفلكي وفيزيائي عربي مسلم أندلسي. نشأ في أسرة من أكثر الأسر وجاهة في الأندلس والتي عرفت بالمذهب المالكي، حفظ موطأ الإمام مالك، وديوان المتنبي. ودرس الفقه على المذهب المالكي والعقيدة على المذهب الأشعري. يعد ابن رشد من أهم فلاسفة الإسلام. دافع عن الفلسفة وصحح للعلماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو. قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين فعينه طبيباً له ثم قاضياً في قرطبة. تولّى ابن رشد منصب القضاء في أشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف. تعرض ابن رشد في آخر حياته لمحنة حيث اتهمه علماء الأندلس والمعارضون له بالكفر والإلحاد ثم أبعده أبو يوسف يعقوب إلى مراكش وتوفي فيها.

..............................................................................
* أستاذ للحضارة الإسلاميّة بجامعة لافال الكنديّة، والمقال نشر على موقع Matièreàpenser المتخصص بالفلسفة